العنوان يلماظ في ألمانيا: أتاتورك.. على الأعتاب الأوروبية
الكاتب نبيل شبيب
تاريخ النشر الثلاثاء 07-أكتوبر-1997
مشاهدات 757
نشر في العدد 1270
نشر في الصفحة 34

الثلاثاء 07-أكتوبر-1997
زيارة يلماظ لألمانيا تحولت إلى ما يشبه حملة التوسل على أعتاب الاتحاد الأوروبي لكبح المد الإسلامي في تركيا.
لم تكن ألمانيا الغربية قد وجدت طريقها إلى حلف شمال الأطلسي عندما أصبحت تركيا دولة عضوًا فيه وركيزة أساسية للسياسة العسكرية الغربية في تطويق المعسكر الشرقي ومنذ ذلك الحين والزعماء العلمانيون في تركيا من العسكريين والسياسيين يعتبرون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو المكافأة التي سيحصلون عليها.. آجلًا أو عاجلًا ومرت عشرات السنين، وما زالوا يعطون هذا الهدف الأولوية على ما سواه، أو كأنهم لا يرون أن الهوية الغربية تقوم على جذور انتماء عقدية وتاريخية وحضارية وثقافية، وليس على مجرد نزع الطربوش ولبس القبعة ومحاولة فرض المناهج العلمانية فرضًا على الشعب التركي المسلم، ولكن ما يجهله أو يتجاهله الساسة والعسكريون في تركيا بهذا الصدد، لا يجهله الأوروبيون، بل إنهم لا يتجنبون الحديث عنه إلا في حدود مراعاة الحفاظ على خدمة السلطة الحاكمة في تركيا للمصالح الغربية.. بالأمس تجاه المعسكر الشرقي، واليوم تجاه المنطقة العربية، لا سيما على صعيد قضية فلسطين.
وزير الخارجية التركي الجديد إسماعيل شيم أدخل في الآونة الأخيرة تعديلًا جذريًا على السياسة الخارجية التي مارستها تانسو تشيلر في إطار ائتلافها مع نجم الدين أربكان، وعلى وجه التحديد في ميدان طلب العضوية في الاتحاد الأوروبي فأعلن أن تركيا لن تسعى لهذا الهدف بإلحاح، بل ترغب في الحصول على موقف أوروبي يعلن عدم استثناء تركيا من توسعة قادمة للاتحاد الأوروبي، دون تحديد موعد زمني، ولكن لمجرد الإشارة إلى الانتماء التركي لأوروبا، بدلًا من إبقائها خارج هذا الإطار تمامًا.. واعتبر رئيس الوزراء التركي الحالي مسعود يلماظ هذا هو الهدف المحوري لزيارته لألمانيا، ولم يتردد في التصريح المباشر بأمله في الحصول على إشارة ما بهذا الصدد من جانب المستشار الألماني هيلموت كول، ولكن هيلموت كول كان من المشاركين في مؤتمر عقدته الأحزاب المسيحية الديمقراطية الأوروبية قبل وصول أربكان إلى السلطة، ومن المشاركين في الإعلان الواضح من جانب ذلك المؤتمر، بصدد رفض إمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الآن أو في المستقبل، والتصريح بالسبب الجوهري لذلك وهو انتماؤها الإسلامي وقد لا يكرر الساسة الأوروبيون ذكر هذا السبب باستمرار، ولكنه يبقى هو السبب الحاسم من وراء كل حجة وذريعة يذكرونها لرفض «توسل» الزعماء الأتراك على أعتابهم بدءًا بقضايا حقوق الإنسان وانتهاء بقضية الأكراد.. بل إن الأمر بالنسبة إلى المستشار الألماني أبسط من أن يحتاج إلى نقاش وإليه ينسب القول في إحدى المناسبات إنه لم يتعلم في المدرسة «أن هضبة الأناضول جزء من أوروبا». ولئن توهم بعض الأوروبيين لفترة من الزمن أن سبعين سنة من العلمانية قد ساهمت في تبديل الهوية التركية، وأن احتضانها أوروبيًا يمكن أن يساهم في تعزيز ذلك، فقد سقط هذا التوهم نهائيًا مع ظهور حقيقة الاتجاهات الشعبية في تركيا وشمول الصحوة الإسلامية لها، وهذا من قبل وصول نجم الدين أربكان على رأس حزب الرفاه إلى السلطة، بعد أن أصبح حزبه في المرتبة الأولى بين الأحزاب السياسية التركية عبر صناديق الانتخاب. فلم يكن الساسة الغربيون في حاجة إلى تصريحاته لإدراك أن غالبية الشعب المسلم في تركيا تتمسك بالانتماء الإسلامي ولا تستبدل الانتماء الأوروبي به، بل يرصد الساسة الأوروبيون- لا سيما في ألمانيا التي يقطنها أكثر من مليونين من الأتراك- أن هؤلاء الذين تعرفوا على الغرب وحياته بصورة مباشرة، ازدادوا عزوفًا عن تقليده، ورفضًا لسياسة من يقلده في تركيا فالنسبة الأعظم منهم لا تؤيد الاتجاه الإسلامي في تركيا فحسب بل وتعبر بصورة مباشرة عن الحرص على العودة إلى الإسلام، وقد انتشر الالتزام بين الأتراك في أوروبا على أوسع نطاق.
ويبدو أن حرص يلماظ الآن على الحصول ولو على مجرد إشارة في اتجاه فتح الأبواب الأوروبية أمام تركيا، ولو في المستقبل غير المنظور، لم يعد حرصًا صادرًا عن الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية خارجية أو اقتصادية، ولا حتى في استكمال ما يوصف بوصية أتاتورك العلمانية الغربية، بل هو الحرص الذي فرضته المعركة السياسية الداخلية بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني.. مما يمكن تفسيره بأمرين رئيسيين:
أولهما اعتقاد الزعماء السياسيين والعسكريين العلمانيين في تركيا، أن خذلان الاتحاد الأوروبي لهم على مدى عشرات السنين الماضية سبب رئيسي في خيبة أمل شعبية تزيد من العزوف عن أحزابهم العلمانية والتأييد للاتجاه الإسلامي وحزب الرفاه على وجه الخصوص، ويمكن لإشارة أوروبية بصدد العضوية المستقبلية أن تخفف من ذلك في الوقت الحاضر وقد وصلت المعركة الداخلية إلى مرحلة حاسمة.
الأمر الثاني- وهو الأرجح- أن قضية الانتماء العلماني الغربي لم تعد في تركيا قضية اتجاه ورثه الزعماء العلمانيون عن أتاتورك قدر ما أصبحت قضية منافع مادية محضة وتسلط عسكري على الحكم لا تخفى معالمه على أحد، وعلى قدر ازدياد استمرار الغرب في ممارسة سياسات معادية لتركيا يزداد التأييد الشعبي للاتجاه الإسلامي الرافض للانتماء الغربي العلماني وبالتالي يتصاعد الخطر على تلك المنافع المادية والتسلط العسكري المتحالف معها.
وقد جاءت زيارة يلماظ بهدفها المحوري المذكور وسط أشد الظروف استعراضًا لأبعاد المعركة الداخلية في تركيا من جهة، ولأبعاد المواقفالعدائية الغربية للمصالح التركية من جهة أخرى.. فعلى الصعيد الداخلي يسعى يلماظ إلى تنفيذ إرادة العسكريين من حراس علمانية أتاتورك مع محاولة التخلص من وصمه بالخضوع لهم.. وعلى الصعيد الخارجي تسابقت قبل الزيارة بأيام جهات عديدة إلى الإعلان عن المواقف العدائية للسياسة التركية، فوصل ذلك على لسان تيودور بانجالوس، وزير خارجية اليونان الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، والتي يستحيل أن توافق على انضمام تركيا إليه ولو وافقت سائر الدول الأخرى. وصل ذلك إلى درجة كيل الشتائم للزعماء الأتراك، فهم كما قال «لصوص وقتلة ومغتصبو نساء» لا يمكن التفاوض معهم، وهي شتائم وجدت انتقادات شديدة لم تقتصر على تركيا، ولم تكن قد هدأت تلك الانتقادات بعد عندما تابع بانجالوس حملته بعد يومين بتشبيه الزعماء الأتراك بأدولف هتلر وسياسته النازية العدوانية.
وفي ألمانيا نفسها تظاهر الألوف من الأتراك عشية زيارة يلماظ احتجاجًا على سياسة حكومته ضد الإسلام، عبر القوانين الجديدة لنظام التعليم، وما رافقها كإلغاء الاعتراف بالشهادات الصادرة عن عدد من الجامعات الإسلامية وفي مقدمتها الأزهر، ولم يقتصر الأمر على هؤلاء المتظاهرين ممن شملتهم الصحوة الإسلامية، بل شهدت ألمانيا تجمعًا آخر شارك فيه الأتراك والأكراد وعدد من ساسة الأحزاب الألمانية المختلفة، يطالب بحل سلمي لقضية الأكراد، ويندد بالأساليب العسكرية المتبعة في قمعهم بحجة قمع حزب العمال الكردستاني «الانفصالي الإرهابي» كما يصفه المسؤولون في أنقره، وهو ما سبب مقتل ٣٧ ألف إنسان حتى الآن.. وشهد قبيل الزيارة حملة عسكرية أخرى تقتحم الحدود العراقية الرسمية وتتوغل في مناطق الأكراد.
انتقادات شديدة:
ويحاول يلماظ جهده أن يواجه الانتقادات الشديدة بصدد انتهاك حقوق الإنسان، وممارسة القوة العسكرية داخليًا والاعتداء الإقليمي على أرض العراق في إطار القتال ضد الأكراد.. ويعتبر ذلك كله من القضايا الداخلية وهو يؤكد من جهة أخرى الرغبة في استصدار مزيد من القوانين واتخاذ مزيد من الخطوات في الاتحاد الديمقراطي.. ولكن تصريحاته بهذا الصدد بقيت دون صدى فكان بذلك أشبه بسياسي يسير على طريق الإصلاحات ولكن يده تشد الفرامل على حد تعبير شيم أوزديمير التركي الأصل والعضو في المجلس النيابي الألماني في بون.
والواقع أن السياسة التركية في السنوات الماضية على انهيار المعسكر الشرقي سجلت إخفاقًا ذريعًا في محاولة التعويض على ضياع دورها الغربي الرئيسي في حلف شمال الأطلسي جنوب الاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما كان قد صرح سليمان دميريل بالرغبة في تحقيقه عبر التحرك فيما أسماه الدوائر الإقليمية الخمس، بدءًا بمنطقة القوقاز، مرورًا بحوض البحر الأسود، ثم منطقة البلقان، وحتى شرق البحر الأبيض المتوسط ثم تجاه ما يسمى منطقة الشرق الأوسط.. ففي سائر المناطق المذكورة كانت السياسة الغربية ترفض الدور التركي بصورة ظاهرة للعيان أو تسعى لبقائه في حدود إقليمية ضيقة.. ولم يبقَ سوی مجال واحد تلاقت فيه السياسة التركية مع السياسة الأمريكية في الدرجة الأولى، وانعكس في الاتفاقات التي عقدها الزعماء العسكريون متجاوزين رئيس الوزراء السابق أربكان مع الكيان الإسرائيلي، وكذلك في السياسة العدوانية على صعيد المياه في المنطقة، ويبدو أن هذه السياسة تريد تأكيد إمكانية اعتماد الغرب على تركيا كاعتماده على الإسرائيليين في تنفيذ أغراضه، ولكن هذا بالذات ما يثير انزعاج الأوروبيين على ما يبدو، فرغم تلاقيهم من حيث الأصل مع السياسة الأمريكية في كثير من جوانب التعامل مع المنطقة العربية وقضية فلسطين، إلا أن الانفراد الأمريكي في سياسة بسط النفوذ والهيمنة لا يجد «الارتياح» عند الأوروبيين بطبيعة الحال، وهو ما يجعل السياسة التركية على هذا الصعيد أقرب إلى تحالف مع الأمريكيين على حساب المصالح الأوروبية في المنطقة المجاورة.
إن تبني سياسة «القمع» تجاه الاتجاه الإسلامي في تركيا يثير قلق المسؤولين الأوروبيين الذين بدأوا يدركون من تجارب مصر والجزائر وسواهما، أن القمع لا يقضي على هذا الاتجاه بل قد يسبب ما هو أخطر من ذلك وهو ما يتمثل في ظاهرة العنف والعنف المضاد، ويدرك الأوروبيون أن المزيد من الاضطرابات في المنطقة المجاورة لهم جغرافيًا، يمكن أن ينعكس بآثاره على أوروبا نفسها، وبات في مقدمة ما يخشاه الساسة المسؤولون بهذا الصدد ازدياد تيار الهجرة إلى البلدان الأوروبية في فترة لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الأيدي العاملة، وقد تحولت مسيرة التطور الاقتصادي إلى أسلوب تحقيق الأرباح عبر التقنيات الحديثة وعلى حساب سياسة التشغيل عمومًا.
كما أن سياسة القمع التي بلغت ذروة جديدة في تركيا في الشهور القليلة الماضية، يمكن أن تنعكس على المسلمين في البلدان الأوروبية نفسها، والذين يعدون بضعة وعشرين مليونًا على أرجح التقديرات وكثير من المحللين الأوروبيين يفسر انتشار الصحوة الإسلامية في صفوف المسلمين في أوروبا بأضعاف ما كانت عليه قبل جيل واحد بأنه من نتائج سياسات القمع في العقود الماضية في عدد من البلدان الإسلامية، بما فيها تركيا التي يعيش زهاء خمسة ملايين من مواطنيها في غرب أوروبا.
وهم يتحدثون عن محاولة التعويض عن ذلك بتحقيق إنجازات اقتصادية في البلدان الإسلامية بدعوى أن الصحوة الإسلامية إنما انتشرت نتيجة استغلال أصحاب الاتجاه الإسلامي لظروف التخلف والفقر، بينما يعتبر مثال تركيا بالذات مناقضًا لهذه النظرية، وهذا ما عززته الإنجازات الاقتصادية في الفترة القصيرة التي استلم فيها حزب الرفاه السلطة رغم تقييده بمراعاة سياسة شريكه في الائتلاف الحكومي من «حزب الطريق المستقيم». رغم ذلك ينطلق يلماظ من تلك النظرية في عدد من مواقفه منذ اليوم الأول للزيارة في ألمانيا الذي خصص لاجتماعاته مع المسؤولين الألمان من القطاع الاقتصادي.
وفي اليوم الثالث للزيارة أعلن عن قيام رابطة لرجال الصناعة والاقتصاد من الألمان والأتراك، والواقع أن نشاط الأتراك المقيمين في ألمانيا في الميدان الاقتصادي كان ملحوظًا في السنوات الماضية، حتى بلغ عدد أصحاب الشركات أكثر من مائة وخمسين ألفًا مما يعتبر إسهامًا رئيسيًا في تشغيل اليد العاملة ومكافحة مشكلة البطالة المتفاقمة في البلاد، فضلًا عن الإسهام في البنية الهيكلية للاقتصاد الألماني.
ولكن استعصاء المد الإسلامي على أساليب مكافحته العلمانية في تركيا وسواها بمختلف السبل، بما فيها تحسين الوضع الاقتصادي ينعكس على سبيل المثال، في أن كثيرًا من القائمين على النهوض بالأتراك اقتصاديًا في ألمانيا نفسها، لا يمثلون الاتجاه العلماني قدر ما يمثلون الاتجاه الإسلامي.
إن زيارة يلماظ إلى ألمانيا التي تحولت بهدفها ومن خلال تصريحاته قبلها وأثناءها إلى ما يشبه حملة التوسل على أعتاب الاتحاد الأوروبي والاستنجاد بموقف إيجابي يأمل من خلاله في كبح جماح المد الإسلامي، أصبحت واقعيًا بمثابة محاولة يائسة للاستعانة بمثل ذلك الموقف تجاه التمرد الإسلامي، وما لا يدركه يلماظ من عدم جدوى هذه المحاولات يدركه الساسة الغربيون، ولهذا فإن رفضهم لاحتضان تركيا أوروبيًا، حتى ولو لوحوا لها بوعود مستقبلية غامضة غير ملزمة، ينطلق من تقديرهم أن عودة تركيا إلى انتمائها الإسلامي العقدي والحضاري والتاريخ بات أمرًا محتمًا، وأن مضاعفة الجهود المبذولة لمقاومته، وتصعيد أساليب تلك الجهود إلى درجة القمع المباشر، يمكن أن يزيد من قوته وسرعة تحقيق أهدافه على النقيض مما يريده العلمانيون في تركيا ويأبون الإقرار بعجزهم عن تحقيقه ويتمناه العلمانيون في الغرب أيضًا، ولكنهم بدأوا يستوعبون استحالة تحقيقه.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلبنسبة مشاركة 84% وتصويت 52.1% لصالحه.. الشعب التركي يجدد الثقة بالرئيس «أردوغان»
نشر في العدد 2180
21
الخميس 01-يونيو-2023


الحــرب الأوكرانيـــــة اختبــــار صعـــب للعلاقـــــات التركيــــة الروسيـــة
نشر في العدد 2183
18
الجمعة 01-سبتمبر-2023
