; الهجرة قائمة ودائمة | مجلة المجتمع

العنوان الهجرة قائمة ودائمة

الكاتب أ.د. عبد الرحمن علي الحجي

تاريخ النشر الثلاثاء 20-أكتوبر-1981

مشاهدات 24

نشر في العدد 547

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 20-أكتوبر-1981

أحمد الله وأصلي وأسلم على رسوله الأمين وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.

إنه لنشوة ومسرة أن يلتئم جمع يستمع أو يكتب أحد ليقرأ الآخرون، وينتظم مجلس للتداول بكل مناسبة إسلامية وقضية ذات علاقة بهذا الدين، وجميل كذلك أن يحتفل المسلمون بمناسبة عالية المكانة كريمة الموضع، لا بد أن تكون فيها وأمثالها من الرعاية الحقة ما تفوق أي مناسبة أو احتفال أو استقبال، يرى المتكلم فيها وجوها، مشرقة بالخير آملة بالنصر طافحة بالبشر، والسنة يتعطر حديثها بنفح كريم يخاطبها ويكتب لها ويحادثها، ويتعاهدون على خدمة هذا الدين، فهو لقاء شوق وحديث حب، مهما تباين الأسلوب وحتى لو لم تجد في الحضور والاستماع والقراءة زيادة علم فلا تثريب كبير، وللإنسان منافذ وأوعية كثيرة منها وعاء العلم.

هناك أوعية أخرى تمتلئ وتشحن بثماره، و بعوامل من الإيمان والمحبة والعاطفة، وهي بحاجة إلى امتلاء. ومثل هذا بحد ذاته تحريك المعرفة لتكون عاملة بما توفر من علم يكفي ليكون صاحبها عاملًا، والمسلم يزداد علما ويكون بالعمل له الأجر ويتحقق القصد. فسعي المسلم إلى الصلاة بالمسجد يكسبه الأجر، للمعاني المتنوعة في ذلك، غير مقتصرة على العلم. وكثرة منا اليوم بحاجة إلى العمل أكثر منه إلى العلم، وما لديه من علم يكفيه لعمل أكثر. فالعلم حجة علينا وهو دليلنا يقودنا إلى الأخذ بالإسلام، وليس من فائدة إن لم يكن هذا من ثماره فلا بد من علم يقود إلى الله في كل أمر ويوجه إليه في كل حال، ولاءً واهتداءً في الغيب والشهادة، والذكر والعبادة، والتفكير والتعبير، والسعي والجهاد، والعلم والاجتهاد. وهكذا فإن الجيل المسلم الذي أقام الحياة الإسلامية على أرض الله، وهو أمر مطالب به المسلمون في كل زمان ومكان، وذلك واضح في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، في الهجرة وغير الهجرة حيث ارتبطت كلها بخيط واحد مبدؤه ومنتهاه وما بينهما متصل بالله وشرعه.

والسيرة الشريفة مستودع أودعها الله حقيقة الإسلام وصورة شريعته، وسر هذا الدين يجد الناس فيها سيرة الإنسان المثالى، والصورة الكمال لكل الأمم والأجيال للقائد والجند وللرجال والنساء والأطفال في السلم والحرب والأسرة والفرد والمجتمع والدولة والشيوخ والشباب في الهجرة والنصرة.

لقد أقامت الهجرة دولة في مبتدأ تاريخ الإسلام الذي قام منذ ألف وأربع مئة عام ، حيث بداية التاريخ الإسلامي.

وقامت دولته بكليتها تحمل راية الحق، فواجهت صراعا في كل ميدان، وهجمات من كل اتجاه ومكايد بكل لون، كان بعضها كافيا لسحق أمة وحضارتها مهما كانت فريدة وتفتيت كيانها، لولا قوة البناء الإسلامي لمجتمعه الكريم وحضارته الفذة وبنيته المتينة. واليوم يقف المسلمون في وجه ذلك كله ولا خلافة تحميهم، وهذا لون آخر من الدروس. إن قوة وقوف أي تجمع إسلامي ليس مقتصرا حين تكون الحياة الإسلامية وتكون دولة، بل بغيرها أيضا ليقيم الحياة الإسلامية ودولتها و يعلي الراية في مجتمع ترفرف عليها خضراء نضرة. ولا بد من مسعى لإقامة المجتمع المسلم، والدولة التي قامت في تاريخ الإسلام مثمرة لتلك الهجرة هجرة إلى الله تعالى منذ أول يوم التحق المسلم فيه بموكب الإيمان، فكانت هجرات ثلاث إلى الحبشة، وهي الوجهة الأولى ولم يكن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين سأله عثمان بن عفان عن ذلك قال أنتم مهاجرون إلى الله وإلي، وهذا هو المعنى الدائم للهجرة، وثان جواب عثمان فحسبنا يا رسول الله. ثم كانت هجرة الطائف هاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ثم الهجرة الثالثة الكبرى التي أقامت مجتمع الإسلام ودولته، واستعد لها المسلمون ليتم الله أمره وينصر دينه ،وهي في علم الله كائنة قبل أن تكون ، اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كل الأسباب، جرى كل ذلك مع الاستسلام الكامل لأمر الله وشرعه والركون إليه والأمل بنصره، وهكذا أقامت الهجرة الدولة، والهجرة إلى الله أقامت وتقيم الحياة الإسلامية.

إن العدو الخارجي والداخلي أصاب منا ما أصاب يوم أصيب المسلمون في تمسكهم، فليلتفت المسلم إلى هذا بقدر حرصه على انتمائه لهذا الدين. إن الذين يقيمون المجتمع الإسلامي والحياة الإسلامية ودولتها هم أولئك الذين يرسمون صورة الإسلام في سلوكهم ويتمثلونها في حياتهم ويفتدونها بالنفس رخيصة، يهتفون ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، فتصغر الدنيا في عيونهم وينظرون إلى الصعاب منهزمة، وإلى الطغاة راغمة، مهما كانوا مدججين بالسلاح وممتلكين للمناصب ومتسلطين بالجبروت المتفرعن على خلق الله.

وكل جمع تتركز فيه تلك المعاني الفاضلة الخيرة تبرز فيه هذه الحقائق، فكما برزت في العهد الأول القدوة والمثال تبرز على مر التاريخ ماضيًا وحاضرًا ومستقبلا. فكم من مؤمن أوذي بالله بكل طريق وحورب بكل أسلوب وتقطع أوصاله وتتناثر أشلاؤه وتستنزف دماؤه وهو يشدو وينشد أناشيد الإسلام أناشيد القوة الفاضلة والعدل الأمين بكلام الله المبين ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (إبراهيم:12) فكان نشيد السلف وهكذا يفعل الخلف آيات من الكتاب المبين والذكر الحكيم والطريق المستقيم وبه الهداية وفي غيره الغواية:

والله لولا الله ما اهتدينا             ***               ولا تصدقنا ولا صلينا

 فأنزلن سكينة علينا                ***              وثبت الأقدام إن لاقينا

 فكيف يمكن للمسلم أن يدين في صلاته لله ويتجه إلى غيره في قوانينه وتفكيره وتصوراته وولائه وإرضائه، ومن يفعل ذلك يكون قد قصر في حق الربوبية لله والعبودية له، وذلك واضح في القرآن الكريم. وحين قدم عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم فدخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في وصف أهل الكتاب ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31) فقال عدي إنهم لم يعبدونهم فقال صلى الله عليه بلى أنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم.

فلا يصح للمسلم أن يقف من الإسلام ودائرته بعيدًا، ويسلك دومًا سبيل الضعف، فهؤلاء لا يقيمون دولة الإسلام وآفاقه ومجتمعه وحياته، فكيف بمن لم ينكر الباطل قلبه أو والاه وأيده.

إن الذين أقاموا الحياة الإسلامية أولئك الذين هاجروا إلى الله هجرة كاملة، هاجرت نفوسهم التي خلصوها من درن الدنيا فافتدوا شرع الله بكل شيء، وجاهدوا عمرهم له محتسبين، تربعوا أمام القرآن مأدبة الله الإلهية، يقودهم حادي الإنسانية وهاديها محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أن الضياع لمن ارتضى غير رسول الله زعيما وغير كتاب الله منهجًا ودستورًا.

لقد كانت الهجرة بيعة تجاوزت حد الانتماء الأسمي أو الأرضي بل حتى التعبد في الصلاة الله مع ترك ما عداه، فلا ينفع المسلم أن يؤدي صومه وصلاته ويفي حجه وزكاته وليس بعد ذلك من شيء، بل إن ثمار ذلك أشياء تجعلك أكثر إلى الله قربًا وهجرًا لما عداه، ومن لم يهجر ما عدا الله لا يمكن أن يهاجر إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «من لم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية».

فلا يمكن أن تكون الهجرة إلى الله وأنت مثقل بالعصيان، ومؤتزر بالآثام وخامل في طريق الالتزام، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم.

وتشير الهجرة إلى أن الإسلام لا يعرف وطنًا ولا قوما بعينهم، فالقوم في الإسلام هم المسلمون والوطن فيه الذي ترتفع على قممه شامخات راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. يعمل المسلم على امتدادها حيث استطاع.

أيها المؤمنون فلنمض في الطريق إلى الله مهاجرين إليه بشرعه ، هاجرين لكل فكرة وخلفية وزعامة غير الإسلام ومنهجه، وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي كان يسلم في العهد المكي يرى مقدما ما سيصيبه من عذابات وحرمان، وفي العهد المدني ما يترتب على ذلك ورضوا به بمحبة جامحة وسعي حثيث ورغبة متدفقة.

فموكب الهجرة دائم حين تبقى مهاجرا إلى الله وتموت مهاجرًا مناديًا يا رباه، نداء يحمل الحياة ويجملها وينميها ويمنحها ويعطيها وبنظر يرافقه ويناغية فلا يصارعه أو يباهيه، فهو ليس في صراع مع الكون والحياة بل مع الباطل وأهله ليبني حضارة الإنسان وينير دربه.. لم تكن الهجرة خطوات لقطع طريق الخير والنجاح في التخلص من مطاردة للوصول إلى مكان آمن، أو انتقال بمجموعة من موطن إلى آخر جديد إنما هي الخلوص لله والتضحية بالنفس وكل شيء من أجل الإسلام، فلولا الهجرة إلى الله لما كانت الهجرة ولما كانت النصرة فاعتبروا يا أولي الأبصار وإذا تلاقت الهجرة والنصرة فالكل في نصرة والكل في هجرة وأدرك أولئك أنه لا بد أن يكون للإسلام وطن وللشريعة سكن، فكانت مرة ولا بد أن تكون له الكرة.

ولعل القرن الخامس عشر الهجري يمثل باب الهجرة إن شاء الله تعالى، فيكون القرن الرابع عشر أشبه بالعهد المكي والقرن الخامس عشر بالعهد المدني تنبئ به دولة الإسلام ومجتمعه، فهي هجرة من حياة الجهاد والمجاهدة والاصطراع إلى قرن تقوم فيه دولة الإسلام، فهي تماثل بالمعنى الأساسي لكل هجرة يقوم بها الذين هاجروا إلى الله على الدوام، فهذا مصعب بن عمير الذي كان زين شباب أهل مكة دلالًا وجمالًا وقوة وفتوة وعبثًا ولهوا وغنى وزهوا، فضرب المثل بما يلبس ويتزين ويتطيب، وحين أسلم حرم من كل ذلك، وقاومه أهله فرضي به مسرورًا وعاش فقيرًا من ذلك محرومًا.. وكان من المهاجرين إلى الحبشة في المرتين، والمهاجر الأول إلى المدينة المنورة، ومعلم القرآن إلى أهلها اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، واشترك في الأحداث والمعارك وكان حاملا راية المسلمين في أحد وقطعت يده اليمنى فحملها باليسرى وقطعت فاحتضنها ثم استشهد وهو لا يملك شيئًا حتى بردًا يغطي جسمه كله، فإذا سحبوه على رأسه ظهرت رجله وإذا غطيت رجله تكشف وجهه، وجه الجهاد على أرض الجهاد ومهاجرًا إلى الله في الحياة وحتى الممات، وحين أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد الشهداء رأى مصعبًا فقال لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة ولا أحسن لمة ثم أنت شعث الرأس في بردة.. نقول هذا لكل مسلم والشباب خاصة ليسلكوا هذا المسلك في حياة الإنسان الحر الكريم الرباني الوضيء.

فأين لي لأولئك الذين لا يتقدم عندهم حب على حب الله ورسوله، لا يحبون إلا الله ولا يوالون إلا من والى الله ورسوله، ويكرهون أن يحيوا خارج الإسلام ولو للحظات، والحرق بالنار والضرب بالأحجار والتعليق على الأشجار والتفريق في البحار أهون عليهم وأطيب إليهم، هم قادمون إن شاء الله تعالى ليقيموا الحياة الإسلامية.

فمن تكن كلمات الله حجته       ***          فلن يهاب من الدنيا وما فيها

إنني المحهم في الآفاق من حولنا والبقاع في كل مكان يتنادون بالإسلام، مستعدين للتضحية في سبيله، وقد جرى فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا.

وفي الماضي بدأ الإسلام غريبا ثم انتشر فكانت الهجرة ثم كانت الدولة والخلافة رعت الجهاد وحملت الراية واستمر الإسلام في الامتداد، وما زال اليوم بعد ذهاب دولته وخلافته يمتد وحده، رغم كل ما يرصد له. ولكن ما تزال لهذا الدين جولات وصولات ودولات وأدوار يؤديها في تاريخ البشرية ظاهرا بإذن الله على الدين كله، لوعد الله الذي لا يقف في وجهه كيد الكائدين، ولا قوة المضللين ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.(الصف8:9)

الرابط المختصر :