; السودان إسرائيل قادمة من الجنوب.. | مجلة المجتمع

العنوان السودان إسرائيل قادمة من الجنوب..

الكاتب عبيد الأمين

تاريخ النشر الثلاثاء 21-نوفمبر-1989

مشاهدات 762

نشر في العدد 942

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 21-نوفمبر-1989

* قرنق ما حمل لإقرار السلام أو تحقيق العدالة ولن يضعه مادام المخطط الأمريكي لم يحقق أهدافه.

* إثيوبيا تقدم دعمها غير المحدود لقضايا التمرد بعد أن قبضت الثمن من دولة الكيان الصهيوني.

* الكيان الصهيوني يواصل رعايته لعصابة التمرد حتى يستجمع مراكز الضغط على مصر والسودان بالهيمنة على منابع النيل.

أصدر مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني في الخرطوم الأسبوع الماضي قرارًا بإجازة قانون الدفاع الشعبي؛ لتكوين كتائب شعبية تتولى مساندة القوات المسلحة السودانية، وتأتي إجازة القانون في أعقاب سقوط مدينة الكرمك الحدودية 650 كيلومتر من الخرطوم بعد قصف مدفعي استمر لأكثر من أسبوعين.

وقد نقلت أنباء الخرطوم بأن المعارك حول المدينة الحدودية لا يجوز تصنيفها في نطاق ما يمكن أن يطلق عليه «بحرب العصابات»، وإنما كانت حرب قوات نظامية، تساندها عصابات التمرد في مقابل حامية الكرمك، وتشير أنباء الخرطوم الرسمية بذلك إلى التدخل السافر من قبل إثيوبيا.. حيث إن الآلة الحربية المستخدمة تفوق طاقة العصابات المتمردة، فالعصابات المتمردة لا تملك راجمات الصواريخ ولا المدفعية الثقيلة، إضافة إلى أن إثيوبيا سحبت قواتها النظامية التي تعسكر على الحدود؛ لتفتح الطريق إلى قوات «الخوارج» المتمردة والمدعومة بواسطة خبراء كوبيين. وفي وقت لاحق ذكر العقيد محمد الأمين الخليفة عضو مجلس قيادة الثورة بأن الحكومة تملك أدلة قطعية باشتراك إثيوبيا في قصف مدينة الكرمك، كما أنها- أي الحكومة- حصلت على وثائق تثبت إمدادات دولة الكيان الصهيوني بالأسلحة والعتاد الحربي للمتمردين، وكانت أنباء سابقة قد أشارت إلى تلك الصلة وفقًا لما نشرته جريدة «الرأي العام» الكويتية.

فالمتمرد جون قرنق يحظى بعدة خبراء يهود- 27 مستشارًا- بالإضافة إلى عشيقته «كينا 21» الضابط في جهاز الموساد.

ومن جانب آخر فقد تلقى الشعب السوداني قرار تشكيل كتائب الدفاع الشعبية بحماس كبير، كما أن القانون- والذي تقاعست حكومة الأحزاب الطائفية عن إصداره- ينظم كيفية التدريب العسكري، بالإضافة إلى تقنين وضعية الفئات العسكرية التي تحمل السلاح وتحارب قوات التمرد مثل قوات «أناتيا» وقوات المراحيل المكونة من شباب مناطق التماس بين الشمال والجنوب. كما أن قوات «أناتيا 2» قوات جنوبية خالصة منشقة عن حركة التمرد. ويبقى أن التسابق في السودان مازال على وتيرته السابقة بين إمضاء إستراتيجية القوى الدولية الطامعة في بسط الهيمنة على السودان، وبين استقلالية القرار السوداني، وما جون قرنق وقواته المتمردة إلا بعض أدوات الضغط على استقلالية القرار!

المتآمرون

كشف مصادر دبلوماسية غربية في بيروت الأسبوع المنصرم عن طبيعة التعاون بين حركة التمرد والدولة الإثيوبية، وأكدت المصادر ذاتها بأن إثيوبيا قدمت مؤخرًا كتيبة من الدبابات السوفيتية إلى المتردين في إطار التعاون الرامي إلى تصعيد الهجوم على القوات السودانية، ويأتي هذا في أعقاب اعتراف حكومة منغستو هالي مريم بدولة الكيان الصهيوني.

وذكرت وكالة الأنباء القطرية التي أذاعت الخبر بأن قائد التمرد جون قرنق غادر أديس أباب إلى جهة مجهولة في التاسع من الشهر الجاري للقيام بزيارة سرية تتعلق بالإمداد العسكري لقواته، وأضافت المصادر الغربية بأن قرنق زار دولة الكيان الصهيوني، والتقى برئيس الأركان الصهيوني الجنرال دان شورمون؛ حيث تباحث معه بشأن تزويد قواته بالأسلحة الحديثة والتعاون معه بفتح أبواب التدريب على قيادة الطائرات المقاتلة؛ لمواجهة الطائرات الليبية التي تقاتل مع الجيش السوداني- حسب زعمه.

وفي الوقت ذاته طلب قرنق من رئيس الأركان الصهيوني تقديم تسهيلات واسعة في مراكز القواعد البحرية والجوية الصهيونية داخل إثيوبيا؛ حتى يجنب إثيوبيا الإحراج الرسمي المترتب على تلقي السلاح عبر موانئها ومراكز الأنشطة والعمليات داخل الجنوب بناء على معلومات القمر الصناعي الصهيوني، ومن جانبها فقد طلبت رئاسة أركان حرب الصهيونية من المتمرد قرنق أن يواصل هجماته على معسكرات العمل لشركة «أكسون» الفرنسية والتي تعمل لتحديد مجرى النيل عبر قناة جونقلي؛ حتى لا يزداد المخزون الاحتياطي من الماء في كل من السودان ومصر.. كما طلبت الأركان الصهيونية من قرنق مزيدًا من التصلب والعنت تجاه الوساطة المصرية لإحلال السلام.. هكذا تبدو حلقات التآمر على السودان ومصر والعالم العربي.

فالحرب في الجنوب منذ أن بدأت لم تولدها إشكالات السودان الداخلية، وإنما كانت هناك بعض أهداف أمريكية ويهودية، ساعدت في إيجاد الغطاء الإعلامي والعسكري لحركة التمرد، وكانت دولة الكيان الصهيوني دائمًا حاضرة في تلك الأجواء؛ بل أنها شريك فاعل، ولا نقول هذا الكلام بناءً على التحليلات العربية والإسلامية الثابتة تجاه دويلة الصهاينة؛ وإنما لأن الوقائع الزمنية تقول ذلك، ولأن التمرد كان دائمًا يرتبط بأعداء الأمة، ولأن الدول الإفريقية المتاخمة لجنوب السودان ارتبطت مع دويلة الصهاينة مؤخرًا بوشائج عسكرية واقتصادية وسياسية، فقد اعترفت كينيا بالكيان الصهيوني قبل عدة أشهر، كما أن إثيوبيا أقامت معه علاقات تعاون إستراتيجي بعد زيارة كسا كبيدي مبعوث الرئيس منغستو مريم إلى القدس المحتلة و.. وأما الولايات المتحدة فقد أعلنت في الأسبوع الأسبق بأن الخرطوم ليست آمنة، وحذرت رعاياها من زيارة السودان، وخاصة المناطق الغربية والجنوبية، وهي إشارة دالة ورسالة مفصحة لمن ألقى السمع من عناصر المتآمرين.

سلام التحدي

يبدو أن حكومة ثورة الإنقاذ تدرك أبعاد التآمر وأدواته وسبله، ولذا فإنها لم تخدعها إثارة طبول الحرب لتغرق في الاستجابة لردود الفعل، وبدلًا من الانصراف إلى المعالجة الوقتية وحشد الطاقات لمعارك محدودة، فإن الثورة اتخذت النهج الشمولي في الحل، وواصلت جهودها في كشف الأضرار ومخاطر السير في دوامة المحرقة الجنوبية، ولهذا انطلقت وفود الثورة إلى الدول العربية والدول الإفريقية والأوروبية؛ لإقامة الحجة أولًا والإشهاد على حسن النوايا، ولتبيين الحقائق حول الزيف المتراكم عن قضية الجنوب وقضية التمرد، وإزالة اللبس المتزين بشعارات بالديمقراطية، وتحديد الهوية وتوزيع الثروة وتغيير المعادلة السياسية.. وهي شعارات كاد يصدقها حتى أهل السودان أنفسهم في بعض المراحل.. فقد استفادت حركة التمرد من التعاطف الأوروبي مع قضية «الظلم الجنوبي»، وبحكم الضجة الكنسية في الماضي والتي كانت العقلية الأوروبية ومن ثم إفريقيا أكثر انسياقًا وإنصاتًا لصوت المتمردين، وكان لانتهاز عصابة قرنق لهذه الظروف واستخدامها بالشكل الأمثل أكبر الأثر في عزل الحكومة الطائفية السابقة، وعندما تتحرك حكومة الثورة لتعيد الأمور إلى أنصبتها، وتضع حركة التمرد في حجمها الموضوعي.. والحكومة وهي تفعل ذلك تملك البراهين الدامغة على مصداقيتها في تحقيق السلام في الجنوب، وإقامة العدالة في التوزيع والسلطة والوجود الاجتماعي، فالدعوة لوقف النار مازالت قائمة بالرغم من الغدر الغاشم الذي مارسته إثيوبيا وعصابة التمرد في الكرمك والمؤتمر الذي عقد، مؤتمر الحوار الوطني ضم 40% من عضويته-البالغة 106- جنوبيين والوفود التي خرجت لتوضح مقررات المؤتمر ضمت قيادات جنوبية مرموقة؛ لتساعد في أن الجنوب غير موافق على الحرب المأساوية التي تحركها خيوط العمالة، ولقد استجابت الدوائر الرسمية لهذا المنطق وأيدته، خاصة في الدول العربية وبعض الدول الإفريقية، كما أن الدوائر الإعلامية الغربية أشارت إلى ضعف موقف قرنق، وأما في إطار الإعلام العربي فمازالت بعض الصحف تسمي المتمرد وعصابته «جيش تحرير شعب السودان» منساقة خلف المسمى الموسيقي الرنان من جانب، واستجابة لصوت الغرب من جانب آخر، وهي قضية قومية تتصل بالوجود العربي الإسلامي في السودان مباشرة وفعالية هذا الوجود، كما أنها تتصل بالعدوان المخطط والمبرمج من قبل الصهيونية العالمية والمخطط الأمريكي.. وأوضح تلك المخططات هو هذا الإصرار الأمريكي على محاربة السودان اقتصاديًّا واستعداء صندوق «النكد» الدولي عليه، في الوقت الذي يفتح فيه خزائنه ومخازن أسلحته لقوات التمرد. وحكومة الثورة تدرك كل هذا؛ ولذا فهي عندما تعلن التعبئة العامة، وتصدر قانون الدفاع الشعبي، وتنادي بالسلام وتتمسك به، لا تمارس لعبة المتناقضات، فإن السلام لا يكون إلا بتحقيق السيادة، والسيادة ترفض الانزلاق في المخططات أيًّا كان مصدرها، ولهذا فإن السلام يبقى سلام القوي؛ سواء تم على طاولة المفاوضات أو في ساحة القتال.. ولا مفاوضات دون إشعار الآخر بضاءلته، وخاصة فإن المتمرد جون قرنق وعصابته لم يخرجوا من أجل حق، وإنما خرجوا لأن نميري اكتشف اختلاسات باهظة في الكتيبة 105 التي بدأت حركة التمرد، وحتى «المانغستو» ميثاق التمرد لا يتضمن تلك الشعارات التي ظلت تثار مؤخرًا بعد مجيء حكومة الأحزاب إلى الحكم، ومهما يكن فإن قرنق وعصابته ما هم إلا أدوات مستهلكة من قبل القوى الخارجية بدءًا بإثيوبيا والولايات المتحدة وكوبا، وانتهاءً بدولة الكيان الصهيوني.

الرابط المختصر :