; معالم على الطريق..الشخصية الحضارية للأمة مغيبة!! | مجلة المجتمع

العنوان معالم على الطريق..الشخصية الحضارية للأمة مغيبة!!

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 03-أغسطس-1993

مشاهدات 24

نشر في العدد 1060

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 03-أغسطس-1993

الشخصية الحضارية في التراث الإسلامي العظيم مبهرة في كل ميدان من ميادين الحياة، وإعادة تشكيل هذه الشخصية المتميزة بعد أن افتقدت كثيرًا من فاعليتها وتأثيرها ودورها، وغابت عن العالم وتخلفت عن أداء دورها الريادي والإنساني والعلمي، واجب إسلامي وقومي وحياتي وعالمي لأسباب كثيرة مهمة وملحة على الساحة القومية والعالمية، ولأن غيابها قد مكن لطواغيت الأرمن في الظهور من جديد بأشكال متعددة، وأفكار متنوعة ومذاهب مختلفة، كلها تتحكم في رقاب البشر تحت عناوين شتى، وفلسفات ونظريات كثيرة، لتعيد بذلك الإنسان إلى عصر ما قبل الرسالة، بلون آخر لاختلاف العصر والزمان، وبنكهة مختلفة لتبدل التوجه الفكري والعلمي.

لقد أخذ التسلط في مرحلة ما قبل الرسالة شكل مالك الأرض بمن يعمل فيها من بشر، وكان الإنسان يباع تبعًا للأرض كأدوات الزراعة، وكان لهذا القهر فلاسفته التي تقرر ذلك وتجعله حقيقة في أذهان الناس، وتوحي لهم بأن أصل الخلق طبقتان: أسياد وعبيد، ولا مجال للاعتراض على خلق الله أو الرفض لقانونه، وكان على رأس هؤلاء الفلاسفة أفلاطون نفسه وقبيله، واليوم تأتي لعبة الجنس الأري أو النورماندي المميز، أو القادة والسادة زعماء الحضارة، ليستعمروا البلاد ويملكوا الأمم ويتسلط الرجل الأبيض، وتنطلق سدنة الحضارة الجديدة لتفلسف هذا وتقره في أذهان البشر بأساليب وهيئات ومسميات وثقافات كثيرة حتى لا يتمرد أحد على الأسياد أو يمنع عنهم ما يريدون، فيكون جزاؤه جزاء سنمار، ولا يمنع ذلك أن تنطلق الشعارات المخدرة للفرائس من حقوق وخلافه حتى يمكن التهامها التهامًا مريحًا أو تجريعها موتًا حالمًا، وإذا لم يمكن ذلك فليكن استعبادًا على أنغام الموسيقى أو قهرًا على دوى المبادئ. 

وجهل المجتمعات الإسلامية وانحطاطها وترديها الثقافي والعلمي، وغيابها عن التراث والمنهج الإسلامي الصحيح للحياة، جعلها تنظر إلى المفاهيم الغربية نظرة انبهار واحترام لتقع بذلك في فخاخ كثيرة ومتنوعة، في مجال العلوم الإنسانية، والحقوق المدنية والسياسية، فخاخ اختلاف المنبع، والديانة، والمكان، والعادات، والمرتكزات الأساسية، والعنصريات، والمذاهب والثقافات الغريبة عنها، والأمراض الحضارية المتسارعة التي أثقلت بها تلك الدولة، ولم تستطع الفكاك منها، والإسلام جاء أساسًا ليعالج هذه الأمراض، ويكشف تلك الفخاخ التي يقع اليوم أتباعه فيها، فمثلًا في مجال حقوق الإنسان اعتمد الفكر الغربي على «مدرسة الحق الطبيعي» كما عرضها الفيلسوف «لوك» 1690 وصاغها الفقيه الإنجليزي «بلاكستون» في أواسط القرن الثامن عشر، ويتوصل الإنسان في معرفة حق الإنسان الطبيعي بالعقل، العقل الذي يقرر حقوق الإنسان التي يجب ألا يعتدي عليها، العقل بأهوائه، بعنصريته، بطبقيته، ورغم ذلك ورغم قصر العقول وتجاوزاتها تظل تلك الحقوق، حقوق جهة فقط، هي التي تسيطر على القرار وليست حقوقًا للجميع، أو حقوقًا عالمية لكل البشر، أما في الإسلام: فرغم أنها عالمية فإنها فروض وواجبات، وليست حقوقًا فقط تؤخذ أو تترك، فروض ترتبط بعقيدة، وتؤكدها رقابة شرعية ربانية، فهي إذن شيء ضروري إنساني مقدس إلى الحد الذي يراها الإسلام الأساس الذي يستحيل قيام الدين بدون توفرها للإنسان، فعليها تتوقف صحة الأعمال، والإيمان، ومن ثم التدين بالدين، فهي إذن ضرورة حياتية وشرعية، فمثلًا استعمال:

1 - حق الحرية ضرورة في التدين والحياة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (سورة البقرة: 256) ولا إكراه في الأعمال الشرعية، لأن ذلك ينفي صحتها شرعية أو مدنية، كما أن حق الإنسان السياسي ضرورة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (سورة آل عمران: 159) لأن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام «ومن لا يستشير من الحكام أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا مما لا خلاف فيه». 

2 - كما أن العدل ضرورة ﴿فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (سورة الشورى: 15)، ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (سورة النساء: 135).

3 - والعلم ضرورة ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (سورة المجادلة: 11) «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».

4 - وإنكار المنكر ضرورة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ (سورة التوبة: 71) «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده» إلخ.. حرية المعارضة للانحراف والرد عليه وردعه فريضة شرعية.

5 - المحاسبة للحاكم والسلطة ضرورة.. ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (سورة التوبة: 105) «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» قال عمر لمحاسبيه «لا خير فيكم أن لم تقولوها ولا خير فينا إلا لم نسمعها».

وهذه الضرورة انطلاقة ربانية سلمت من التناقض والأهواء والأمراض جاءت لتقرر مقاييس للتقدم الحضاري والارتقاء الإنساني الحقيقي، والذي يجمع اليوم جمهور المثقفين في العالم على أنه ينحصر في احترام حقوق الإنسان التي جعلها الإسلام ضرورة دينية لا قوام للدين إلا بها، وضرورة حياتية واجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية لا ارتقاء للبشر إلا بإقامتها، ولا حضارة أو ريادة للإنسانية إلا بسيادتها، فهل نفقه هذا كمسلمين ونعيه؟ هل ندرك ذلك كأمة ونلتزمه، لتعود لنا شخصيتنا الحضارية براقة مبهرة فاعلة؟!! أم يظل وعي الأمة مغيبًا وشخصيتها الحضارية مفتقدة وشاردة؟!!

الرابط المختصر :