; التنجيم - خرافة أسطورية لا يسندها دين أو عِلم أو خُلق | مجلة المجتمع

العنوان التنجيم - خرافة أسطورية لا يسندها دين أو عِلم أو خُلق

الكاتب أ.د. زغلول النجار

تاريخ النشر الثلاثاء 24-نوفمبر-1970

مشاهدات 39

نشر في العدد 37

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 24-نوفمبر-1970

التنجيم

خرافة أسطورية لا يسندها دين أو عِلم أو خُلق

·       بقلم الدكتور: زغلول النجار

قال -عليه الصلاة والسلام: «من أتى عرافًا فسأله عن شيءٍ فصدقه لم تُقبل صلاة أربعين يومًا».

في الأيام القليلة الماضية قامت ضجة مصطنعة عن منجم، قِيل عنه أنه يتنبأ بمستقبل الناس فتصدق نبوءته... يعلم ما سيصيبهم من صحة ومرض... وصداقة وعداوة... وزواج وطلاق، وانتصار وهزيمة، ونجاة وموت... وثراء وفقر... وبقاء أو رحيل...!!!، وفتن الناس أو كادوا... وتناثرت الروايات عمن طاروا إليه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى ازدحمت الطرقات حول داره... وضاق وقته بالناس من الخاصة والعامة... وكأن الناس قد أصابتهم لعنة... أو نزلت بهم لوثة... أو فقدوا صوابهم... أو تاهت منهم عقولهم... فسخر منهم مدعٍ بباطل... وعبث بهم وبأفكارهم... وبينهم الوزير... والمدير... والمثقف... وحامل الشهادات... فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،... ولو عاد الناس إلى ربهم لحظة... واستشاروا كتاب الله وسنة رسوله في أمر رجل كهذا... لوجدوا حكم الله واضحًا لكل عين... مبينًا لكل ذي بصيرة... فانفراد الله –تعالى- بعلم الغيب أمر أكد عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، فالتنزيل ينطق «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ... » (الأنعام:59).

وفي مقامٍ آخر يُجرِي على لسان نبيه ﴿قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا، لِّيَعۡلَمَ أن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا﴾ (سورة الجن: 25-28).

فهنا يتجرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر الغيب، ويؤكد أن الله وحده هو الذي يعلمه ولا يُطلع عليه أحدًا من خلقه إلا من ارتضي من الرسل... وهؤلاء يُطلعهم على ما يعاونهم على تبليغ دعوته للناس... فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيبًا من غيب الله -سبحانه، يكشفه لهم بقدرٍ معلوم في وقتٍ معلوم ويرعاهم حتى يبلغونه، ثم يعود الله -سبحانه وتعالى- ليؤكد انفراده بعلم الغيب في مواضع أخرى عديدة من القرآن الكريم، حيث يقول عز من قائل ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة لقمان: 34)

وقد نهى رسول -الله صلى الله عليه وسلم- عن إتيان الكهان والمنجمين والعراف وضاربي الرمل وطارقي الحصى والأصداف وغير ذلك من الدجالين المشعوذين، فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أناسًا عن الكهان، فقال ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء فيكون حقًّا!!، فقال -صلى الله عليه وسلم- «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة».

وقال -عليه الصلاة والسلام: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا»، وعنه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: «من اقتبس علمًا أي خبرًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد».

أبعد هذا الإيضاح كله يجد الناس لأنفسهم مبررًا للجري وراء هذا الهراء... وتلك الشعوذة؟!... اللهم إلا إذا كانت لهم أغراض أخرى يخفونها... أو أنهم قد خرجوا عن سنة الله ورسوله واستسلموا لأزماتهم النفسية... وللقلق الذي يعيشون فيه... وخوفهم من المستقبل فتركوا أنفسهم نهبًا لمثل هؤلاء الدجالين فاستغلوهم وعبثوا بعقولهم... وابتزوا أموالهم... وسخروا منهم…!

وإن استعراضًا مبسطًا لماهية التنجيم تثبت لأبسط العقول أنه خرافة، لا يصح لعاقل أن يقبلها أو أن يسمح للدجال أن يستغله بها.

ما هو التنجيم ...؟؟

التنجيم هو ادعاء بإمكانية التنبؤ بالأحداث التي تتم على الأرض، من ملاحظات لأوضاع الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وكويكبات وأقمار ومذنبات، وقد ابتدع التنجيم على فرض خاطئ، وهو أن الأرض هي مركز الكون بينما يثبت العلم الحديث أن الأرض ما هي إلا أحد كواكب تسعة تدور حول الشمس مكونة مجموعة شمسية، تتراوح المسافات فيها بين مركزها «الشمس» والكواكب الدائرة في فلكها بين ٥٨ ملیون و٦٠٠٠ ملیون كيلومتر، وأن هنالك ما يزيد عن المائة ألف مليون نجم مثل شمسنا تفصلها بلايين البلايين من الكيلو مترات، ينتظمها نظام واحد يعرف باسم المجرة، ومجرتنا على هيئة قرص مفرطح يبلغ قطره ٩٤٦,٠٨٠ مليون مليون كيلومترًا، وارتفاعه نحو عشر ذلك وتقع مجموعتنا الشمسية على بعد ٢٨٥,٨٢٤ مليون مليون كيلومتر من مركزه، وعلى بعد ۱۸۹٫۲۱6 مليون كيلومتر من أقرب أطرافه.

وكذلك يثبت العلم الحديث أن بالسماء من أمثال مجرتنا أكثر من ألف مليون مجرة توجد على هيئة عناقيد ترتبط فيما بينها بالجاذبية، وتجري في ركن من الفضاء الكوني يبلغ قطره أكثر من ٤٧,٣٠٤ مليون مليون مليون كيلومترًا «أي خمسة آلاف مليون سنة ضوئية»، والكون قطعًا أكبر من ذلك بكثير؛ لأن إدراك الإنسان لم يحط بعد إلا بجزء يسير منه، فسبحان خالق الكون ومدبره.

وهذه الصورة وحدها تهدم فكرة التنجيم من أساسها، فليس يعقل أن الأرض وهي في هذا الكون... هباءة منثورة، لا تكاد تدرك وسط هذا الحشد الهائل من الأجرام السماوية التي تدور في أفلاك ثابتة «ولو أنها تتسع باستمرار»...

لا يعقل أن الأرض وهذا وضعها في الكون يمكن أن تكون هي مناط اهتمام هذه الأجرام السماوية، ومركز تحكمها كما يدعى المنجمون الذين ظنوها مركز الكون... ومناط الكواكب والنجوم...

نشأة التنجيم وتطوره واندثاره

ليس هناك تاريخ محدد لابتداع عملية التنجيم، ولو أنّه مما لاشك فيه أن الشمس والقمر والنجوم والكواكب قد بهرت الإنسان، وشغلت عليه فكره منذ أن تطلع إلى السماء في وهج الشمس أو في حلكة الظلام، وليس أدل على ذلك من تطلعات إبراهيم -عليه السلام- كما يصفها القرآن الكريم: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ، فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغٗا قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمۡ يَهۡدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّآلِّينَ، فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِين﴾ (سورة الأنعام: ٧٩:٧٥)، وهي تشير إلى أن قومه كانوا يشركون مع الله في عبادتهم نجوم السماء وكواكبها وأقمارها، فأتى إبراهيم -عليه السلام- بفطرته السليمة وبالنور الإلهي الذي أفاض المولى -عز وجل- عليه به ليعلمهم أن العبادة لله وحده خالق كل شيء -سبحانه تنزه عن كل شرك، وعلا فوق خلقه.

التنجيم في بلاد ما بين النهرين

وتُشير الآثار القديمة إلى أن أقدم أثر للتنجيم يرجع إلى حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، حينما عبد البابليون النجوم إبان حضارتهم فيما بين النهرين بالعراق، وحينما راقب كهنتهم السماء فوجدوا أنها مليئة بنجوم ثوابت ذات أشكال محددة، تتحرك فيما بينها خمسة أجرام صغيرة هي عطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل، وجرمان كبيران نسبيًا -كما تراءى لهم- هما الشمس والقمر، ولما كانت مجموعات النجوم تتخذ أشكالًا معينة كالثور، والعقرب، والجدي، والقوس وغير ذلك... تخيلوا أن لها مدلولات خاصة، وأنها تتقمص روح الآلهة الخيرة والشريرة، وأنها تتحكم في مصائر الناس على هذه الأرض على قدر تقابلها وتضادها، فرصدوا حركاتها، ودونوا ملاحظاتهم عليها، واستخدموا العمليات الرياضية للربط بينها، ونسجوا من خيالهم في ذلك المجال الشيء الكثير، وتوهموا الملاقاة بين تحركات الأجرام السماوية وأقدار بني البشر، واستغلوا سذاجة الناس وبساطة تفكيرهم على مختلف المستويات.

ولما كانت حاجة الملوك إلى معرفة طالعهم وطالع ممالكهم أكثر من غيرهم من جماهير الناس انتشر المنجمون في بلاط الملوك والأمراء، حتى أطلق على التنجيم اسم «الفن الفلكي»، ونافس المنجمون السحرة وضاربي الرمال وطارقي الأقداح ومحدثي الحصى والأصداف وانتشر التنجيم، وأثرى المنجمون الذين استغلوا خوف الناس مما هو مخبأ لهم في علم الغيب... وتطلعهم إلى المستقبل في قلقٍ وخيفةٍ.

وبديهي أن النشاط في مجال التنجيم قد أتاح لبني البشر معرفة ابتدائية بنجوم السماء وكواكبها؛ مما ساعد على ظهور علم الفلك وتطوره، فتذكر الآثار التي تركتها حضارة ما بين النهرين تسجيلات لكسوف الشمس تعود إلى سنة ٧٤٧ قبل الميلاد، وإلى معرفة دقيقة عن الشمس ومجراها السماوي ترجع إلى ألف سنة قبل الميلاد، و عن تتابع المراحل المختلفة لأشكال القمر، وعن ظهور واختفاء بعض الكواكب بصورة دورية وعلى هذا الخليط من الملاحظات الدقيقة والخيالات الخرافية من أن هيئات النجوم والكواكب في عنان السماء تحدد أقدار بني البشر، وتمكن المنجمين من معرفة الغيب...بني التنجيم... وهو على ذلك ليس بعلم... أو هو علم كاذب إن صحت نسبته إلى كلمة علم على الإطلاق... لأن الافتراض الأساسي الذي يبنى عليه بأن نجوم السماء تحدد أقدار بني البشر ومستقبلهم لا يمكن اعتباره فرضًا يقبله العقل السليم؛ حيث لا يسنده دليل، ولا يؤيده ظاهرة، ولا يدعمه برهان.

وما بني على باطل فهو باطل...!! ومن هنا يعتقد كثير من الناس أن التنجيم إما دجل صراح، أو شيء من السحر، أو مس من الجن يقبله المنجم دون أدنى بصيرة... وعلى ذلك فلا يمكن نسبته إلى العلم المنهجي التجريبي الواضح، ولا إلى التراث الفكري الإنساني المحدد!!!، ولو أنّه ظل مختلطًا بعلم الفلك حتى مطلع هذا القرن.

ومن بين النهرين انتقل التنجيم شرقًا إلى بلاد الفرس ثم إلى الهند والصين في حوالي القرن السادس قبل الميلاد، وغربًا إلى مصر القديمة وبلاد الاغريق، حيث أضاف إليه كهنة هذه البلاد من ملاحظاتهم وخيالهم الشيء الكثير.

التنجيم في مصر القديمة

في مصر بنى المصريون القدماء تقويمًا من اثني عشر شهرًا، في كل منها ثلاثين يومًا بالإضافة إلى خمسة أيام أضافوها إلى نهاية كل سنة، واختاروا ستة وثلاثين من النجوم المتألقة في السماء، والتي لاحظوا ظهور كل منها بصورة دورية متوالية كل عشرة أيام على مدار السنة، فاستخدموها كساعة سماوية يضبطون بها أيامهم، واعتبروا كلًا منها روحًا ذات سلطان هائل يهيمن على الأرض وأحداثها طوال فترة طلوعها، ولما كانت هذه النجوم تدخل في فلك السماء على مدار الاثني عشر شهرًا تشكلت في نظرهم فكرة البروج، فلكل منها شكله الذي استنتجوا منه خصائص له في كل لحظة من الزمن، واستلهموا مستقبل الناس ومصائرهم...!!

كان اليهود حريصين على تضليل الناس وإغراقهم في متاهات من الخرافات؛ لإمكان السيطرة عليهم وابتزاز أموالهم وتسخيرهم لمخططاتهم، فغالوا في الترويج للتنجيم وتبنوه، وكان منهم في بلاط كل ملك وأمير أكثر من منجم!

الحضارة الإغريقية القديمة والتنجيم

من بلاد ما بين النهرين ومن مصر انتقلت فكرة التنجيم إلى بلاد الإغريق، وإن كانت تأملات الإغريقيين أنفسهم في السماء قد مالت بهم من قبل إلى الاعتقاد بأن لتوزيع النجوم في السماء مدلولات خاصة، وانطلاقًا من مفهومهم لظواهر واضحة كاعتماد الأرض على الشمس في الحرارة اللازمة للحياة عليها قامت مدارس فكرية متعددة، تؤمن بأن المصدر الإلهي للأحداث الأرضية قائم في السماء... ولذلك فعندما انتقلت إليهم فكرة تأليه النجوم من بلاد ما بين النهرين احتضنها كثير من قادة الفكر عندهم بشغفٍ كبير... وبعد أن كانوا يعتقدون بأن استقراء الإنسان لمعالم من المستقبل عن طريق تعرفه بتوزيع النجوم في السماء لا يعني على الإطلاق أن النجوم هي التي تشكل المستقبل، عادوا فنادوا بأن النجوم لا تشير فقط إلى الأحداث الأرضية بل تتسبب فيها... وأقبلوا بحماسٍ شديدٍ على دراسة الفلك بتطبيق نظرياتهم الهندسية الجديدة وممارسة التنجيم؛ إشباعًا لرغبات المتعطشين من الناس إلى معرفة مستقبل حياتهم... وإيمانًا منهم بأن معرفتهم المتزايدة عن حركات النجوم لابد وأنها ستفيدهم في التعرف على الله... وكان قد سبق ذلك في فلسفات الإغريق عديد من الآلهة التي تخيلوها على هيئة الإنسان، والتي لم تكن ترتبط بنجوم السماء إلا في النادر، والتي تخيلوا لها كل صفات الإنسان، إلا أن إلى الموت لا يتوفاها... فعندما طرأت عليهم عبادة النجوم وقبلوها ربطوا بين آلهتهم الأرضية وبين آلهة النجوم ، ومن هنا اقترح أفلاطون في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد مثلًا أعلى للعبادة في إمبراطورتيه التي صورها إلهًا مركبًا «أبوللوهيليوس»، حيث ربط بين آلهة الأرض الخرافية وإله الشمس الذي تخيلوه، وتبعه في ذلك كثير من معاصريه، ولذا اتسمت سماء الإغريق بازدواجية عجيبة فيها رأوا الأجرام السماوية أجسامًا تدور في مداراتها المحددة تبعًا للقوانين الهندسية التي ابتدعوها... وفيها رأوا أيضًا وميض حياة... وانتفاضات عاطفة تختلج بها قلوب آلهة السماء... وبذلك سادت عملية التنجيم الفكر الإغريقي في مختلف المجالات على الرغم من ازدهار العلوم بصفة عامة، وعلى الرغم من قيام بعض المدارس الفكرية برفض فكرة تأليه النجوم رفضًا قاطعًا... وتسرب التنجيم إلى مختلف المعارف كالطب وعلوم الحياة وعلوم الأرض وغيرها، مما أدى إلى تأخرها... فخرجت نداءات تدعي بأن الحالة العقلية والصحية للإنسان هي أيضًا كمستقبله ومصير حياته قد حددت سلفًا بهيئة الأجرام السماوية لحظة مولده، حينما كان يتعرض لتأثيرات آلهة معينة في السماء... ومن هنا فإن كل طرف من أطراف الإنسان وكل عضو من أعضائه، بل كل وظيفة من وظائف جسده الحيوية تسيطر عليها مجموعات معينة من الكواكب وأبراج محددة في السماء، ومن هنا نشأ فرع من الطب الكاذب المضلل الذي استغل سذاجة الناس حتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا.

 التنجيم في الإمبراطورية الرومانية

 رفض كثير من مفكري الإمبراطورية الرومانية في بادئ الأمر الأخذ بالتنجيم، كما ورد في تراث الإغريق فقد كانت لديهم وسائلهم الخاصة التي زعموا أنها تمكنهم من قراءة المستقبل... ثم ما لبثوا أن قبلوا التنجيم عن الإغريق وعن قدماء المصريين، واندفعوا في تياره حتى ملك عليهم حياتهم، وساد المنجمون بلاط كثير من الملوك والأمراء من أمثال الإمبراطور أغسطس، الذي جعل له المنجمون مكانًا بين النجوم، وعلى الرغم من ذلك فكثيرًا ما خطرت عمليات التنجيم بأمر الدولة نظرًا لتفشيها بين سواد الناس كمرض من أكبر أمراض الشعوذة والدجل.

 التنجيم في العالم المسيحي:

قبل المسيحيون عملية التنجيم خلافًا لتعاليم دينهم، ولقد كان في قبولهم لها صفحة عجيبة في تاريخ المسيحية... فبينما كانت المسيحية تعلم الناس أن الأمر كله بيد الخالق -سبحانه وتعالى-، كان المنجمون ينادون بسيطرة النجوم على الناس... ولكن بينما كان التنجيم ينادي بحتمية تسيير الإنسان، وأنّه لا خيار له في أمر من أمور هذه الدنيا... فإن المسيحية المشوهة قامت أيضًا ضد حرية إرادة الإنسان... ومن هنا قبل المسيحيون التنجيم... ولأن رفضه كان يعنى رفض التراث الثقافي التقليدي الذي صبغ معظمه بالتنجيم في تلك الفترة... وفي القرن الثاني بعد الميلاد لخص بطليموس أفكار السابقين في هذا المجال، ويبدو واضحًا من كتاباته أنه كان منجمًا محترفًا دافع عن فكرة التنجيم بطرق ملتوية غير أمينة، وربما كان ذلك للسيطرة الهائلة التي تمتع بها المنجمون في زمانه، مما عرض المسيحية للانتقادات المريرة في تلك الفترة، خاصةً وأنّه في القرون الأولى للمسيحية اتضح للناس الفارق بين علم الفلك كعلم منهجي منظم، والتنجيم كخرافة وهمية غير محددة المعالم...

 ولذلك هاجمت بعض المجالس المسيحية عملية التنجيم، ولو أنها بقيت مسيطرة على الفكر المسيحي الغربي ردحًا طويلًا من الزمن، وليس أدل على ذلك من أيام الأسبوع المسماة عن الشمس والقمر والكواكب، ومن اختيار يوم ميلاد السيد المسيح على أساس من حسابات المنجمين.

 التنجيم في العصر الجاهلي:

في القرون الميلادية الست التي سبقت بعثة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تلقف اليونانيون والرومانيون المسيحية ومزجوها بفلسفاتهم القديمة، فشابها ما شاب هذه الفلسفات من شركٍ بالله وخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان. وفي هذا الجو ازدهر التنجيم وانتشر... وحمل لواءه في شبه الجزيرة العربية بعض أحبار اليهود ونفر من النصارى... ولكن انتشار عبادة الأوثان في شبه الجزيرة صرف الأعراب نسبيًّا عن التنجيم؛ لانشغالهم باستقسام الأزلام ومشورة الأصنام بطرق عديدة متباينة... وإن لجأ بعضهم في أحيانٍ نادرة إلى المنجمين من اليهود والنصارى.

الإسلام والتنجيم:

ينص كل من القرآن الكريم والسنة المطهرة على أن علم الغيب مقصور علي الله وحده، كما جاء فالقرآن الكريم ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ...﴾ (سورة الأنعام: 59)، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول فاجتنبوه لعلكم تفلحون، ويحذر القرآن من مجدد الاستقسام بالأزلام فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ [1] وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (سورة المائدة: ٩٠).

 ويحذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مغبة السقوط في حبائل المنجمين والكهان والعراف والدجالين والمشعوذين، فيقول: إنهم كذابون ولو صدقوا... ويقول إنهم ليسوا على شيء... ويزيد: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا». فموقف الإسلام من هذه الأمور واضح بين بحكم الكتاب والسنة، ولكن حينما قامت النهضة الفكرية في العصر العباسي الأول بترجمة الكثير من تراث الإغريق إلى العربية ظهرت عملية التنجيم فيما ترجم من تراث، وزاد في الإقبال عليها شغف واضح في المدرسة العربية بعلوم الفلك الذي كان مختلطاً مع التنجيم في التراث الإغريقي... وبدأ نفر من الأعراب يتأثرون بخرافة التنجيم وظهر ذلك في عدد من أعمالهم.. ولكن ذلك لم يدمغ الفكر العربي الإسلامي بسيطرة التنجيم كما دمغ من قبل الفكر الإغريقي، لكن عندما بدأت أوروبا تأخذ عن التراث العلمي العربي في نهاية القرون الوسطى وبداية عصور النهضة أخذت فيما أخذت تراجم التراث الإغريقي، وتعليقات العلماء العرب عليه وفيه ما فيه من سيطرة للتنجيم، فصبغ الأوروبيون التنجيم بصبغة عربية إسلامية والإسلام منه براء.

 التنجيم وعصر النهضة:

كانت معظم المعارف في أوروبا حتى القرن الثاني عشر الميلادي مستمدة من أصلها اللاتيني، وبعد ذلك استمدت من الأصول الإغريقية التي حللتها وأضافت إليها وأغنتها النهضة العلمية العربية والفكر العربي، والتي نقلها من العربية إلى اللاتينية أحبار اليهود الذين كانوا على صلة بكل من العالمين: الإسلامي، والمسيحي.

وكان اليهود -كعادتهم- حريصين على تضليل الناس وإغراقهم في متاهات من الخرافات؛ لإمكان السيطرة عليهم وابتزاز أموالهم وتسخيرهم لمخططاتهم، فغالوا في الترويح للتنجيم وتبنوه، وكان منهم في بلاط كل ملك وأمير أكثر من منجم ظلت بقاياهم إلى عهد قريب جدًّا، وفي بلاط بعض الملوك العرب للأسف الشديد.

وقد بلغ من شدة سيطرة التنجيم والمنجمين في أوروبا إبان القرن الثالث عشر الميلادي أن كثيرًا من الأدباء ومنهم الأديبان الشهيران أن دانبي وتوماس أكيناس «اعترفوا في فلسفتهم المسيحية بنوع من سيطرة النجوم على مجريات الأمور في هذه الدنيا، وقد بلغ الأمر من التفاقم في القرن الرابع عشر الميلادي مبلغًا كبيرًا، حتى أن عددًا من جامعات أوروبا الشهيرة- من بينها جامعات باريس وبولونيا وفلورنسا- أقدمت على إنشاء أقسام التنجيم بها، مما أكد استمرار سيطرة التنجيم على الفكر الأوروبي حتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي».

اندثار خرافة التنجيم في العصر الحديث:

كان للاكتشافات العلمية التي بدأت تتوالى منذ القرنين: السادس عشر، والسابع عشر الميلاديين تأثير هائل في إزالة كثير من الأوهام والخرافات من أذهان البشر ومجتمعاتهم، وفي مقدمتها خرافة التنجيم التي تحكمت في هذه المجتمعات طوال قرون عديدة. فعندما أثبت كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر أن الأرض ليست مركز الوجود كما تخيلها فلاسفة البابليين والكلدانيين والمصريين القدماء الإغريق والرومانيين، بل إنها كوكب يدور حول الشمس شأنه في ذلك شأن عطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل، وأثبت كبلر أن هذه الكواكب تدور في مدارات إهليلجيه ووضع قوانينه الفلكية الشهيرة، وصنع جاليليو تلسكوبه في مطلع القرن السابع عشر الميلادي فأثبت به أن القمر تابع يدور حول الأرض، وعرف بواسطته تفاصيل سطحه وأسطح الكواكب الأخرى، واكتشف مالها من أقمار تدور في فلاكها، وأن شمسنا بدورها ما هي إلا نجم صغير متواضع بين آلاف الملايين من نجوم السماء... من هنا بدأ التنجيم يفقد سيطرته على عقول الناس، فلم يعد بوسع أي عاقل من بني البشر أن يقنع نفسه بأن ملايين الملايين من أجرام السماء في نظامها المعقد المحكم البالغ الدقة والإعجاز، إنما تدور في أفلاكها الثابتة المحددة؛ لتساعد المنجمين على هذه الأرض في التنبؤ بطالع ملك من الملوك أو نفر من الناس، وكان لتطور علم الفلك المضطرد من عصر التلسكوب الرائي إلى عصر التلسكوب المصور، ومن مرحلة التحليل إلى مرحلة علم الفلك المعتمد على الموجات اللاسلكية... تأثيره القاطع في رسم الصورة المروعة في ضخامتها.

المذهلة في دقتها التي يرسمها الإنسان للكون الآن، والتي سبق إيجازها في سطور سابقة... كما كان لذلك تأثيره القاطع في هدم خرافة التنجيم، فتحققت بذلك صورة من أجمل صور انتصار العقل البشري على خرافات الجاهلية الأولى وأوهامها الباطلة... ولكن على الرغم من ذلك فقد بقي عدد من المنجمين هنا وهناك يستغلون سذاجة الناس حينًا... وجهلهم حينًا آخر... وحالتهم النفسية المضطربة في عالم احتدمت فيه الصراعات... وانتظر الناس الغد فيه بكثيرٍ من الخوفِ والرعبِ والقلقِ، فاستغلوا كل ذلك للسيطرة على مشاعر الناس وابتزاز أموالهم بوهمٍ خادعٍ أنّه في إمكان النجوم أن تُهدئ من روع نفوسهم القلقة... وأن تطمئن خواطرهم الجزعة... بقراءة مستقبل يجهلونه... وعلم الله أنّ النجوم والمنجم أجهل به منهم، ولكنها غشاوة من جهل لا تزال تحجب النفوس عن نور الحق الرباني الساطع، الذي لا يُؤمن بالدجل ولا بالشعوذة... وإنّما يسجد لله الواحد القهار...........

 

الرابط المختصر :