; المقومات الأساسية للنظام الاقتصادي للأمة المسلمة | مجلة المجتمع

العنوان المقومات الأساسية للنظام الاقتصادي للأمة المسلمة

الكاتب يوسف كمال محمد

تاريخ النشر الثلاثاء 11-يناير-1994

مشاهدات 7

نشر في العدد 1083

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 11-يناير-1994

اقتصاد الأمة كما تنظمه سورة البقرة (1) من (٦)

بينت سورة البقرة مقومات الأمة المسلمة تاريخيًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا، وتربويًا.

والذي يهمنا هنا هو تبيان المقومات الأساسية التي تبينها سورة البقرة في تنظيمها لأهداف الأمة المسلمة وأسلوب العلاقات بين مؤسساتها وأفرادها في الأنشطة الاقتصادية.

وقد كانت أمنية عند الكثيرين منذ خمسة عقود سابقة، أن يكشف عن حقائق التوجيهات القرآنية في مجال الاقتصاد، في وضوح وأصالة تبرز التوجيه القرآني ولا تشوبه بخلفيات الثقافة أو هموم الواقع أو ضغوط العصر، ولكن هذه المحاولات لم تثمر عن دراسات ترتفع إلى أفق القرآن وأغراضه، لأن هناك شروطًا ثلاثة لتحقيق ذلك:

۱- دراية بالأحكام الشرعية موضوع النص بأسلوب فقهى يعتمد على فهم اللغة وتحقيق السنة واستيعاب الاجتهادات السلفية في فهم النص، وبدون ذلك يغلبنا أسلوب العصر وضغوط الواقع، فلا يكون الحظ من الفهم إلا تأويلات متعسفة أو شعارات جوفاء.

٢- استيعاب مساهمات العصر في إدراك سنن الله، واستخدام الأدوات المتقدمة في التحليل والاستنباط وبدون ذلك فإن الباحث يتخلف كثيرًا عن أسلوب متقدم ومتعارف عليه في البحث والإقناع.

٣- فهم جيد للواقع، انحرافاته، وهمومه، ومتطلباته، لإعمال النص في إصلاحه وتقويمه، وبدون ذلك لا تحقق الدراسة إلا عموميات معزولة.

ولسنا نقصد في محاولتنا هذه تجميع آيات في موضوع واحد كالصبر والصدق كما فعل كثير من الكتاب المعاصرين وليس هو تفسير للقرآن يهتم باللغويات والبلاغة والتاريخ والعظة أو الأحكام الشرعية تفصيليًا، فهذه تعمر بها كتب السابقين.

والذي نقصده تحديدًا هو ما عبر عنه السيوطي في الإتقان حين قال: «وعلم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته» قال ابن العربي: ارتباط أي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام المناسبة علم حسن لكن يشترط في حسنه ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه، إلا ربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلًا عن أحسنه».

 وليس في جهدنا هذا تجاوز، فكما حدثنا ابن عباس في تفسيره:

«قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء».

وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله. فالمتشابه نؤمن به كل من عند ربنا واللغة والأحكام ننقله عن العلماء، وحديثنا في دائرة ما لا يعذر مؤمن بجهالته. وعلى حد قول الدكتور دراز في النبأ العظيم:

وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذي لا يمس أصلًا من أصول الدين، لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا لا يزال مفتوحًا لكل مسلم أعطاه الله فهمًا في كتابه على شريطة القصده والأناة في سير العقل، مع الاستفادة في هذا السير بمصباحين من اللغة والشرع على الحق الذي وصفناه، والمنهج الذي رسمناه، وبالله التوفيق.

وما أشد حاجتنا اليوم في الدعوة إلى الإسلام أن نفهم طبيعة العقلية المعاصرة التي يهمها أن تعرض الأمور على عقلها.

• فلابد أن نفهم أولًا محدودية العقل الإنسانى في الإدراك المطلق، قبل أن تعرض عليها قضايا الغيب. ومن ثم يتيسر لها الإيمان بالله واليوم وتعلمه علم اليقين.

• ولما كان القرآن صلة بين العبد وريه ويتلى في المفرح والميتم والصباح والمساء كان لابد أن نشرح ونوضح لهذه العقلية المعاصرة خصيصة أسلوب القرآن حيث يخاطب الوجدان مع العقل، لذا كان أسلوبه في العرض مختلفًا عن أسلوب العلوم العصرية، بل وأسلوب الفقه في عرض الأحكام، والتي لا يرجع إليها إلا عند الحاجة.

• ولما كان القرآن هو منارة الهداية إلى الله فلابد من تقديم موضوعاته إلى عقلية العصر موضحين ترابطها ومغزاها على مدى السورة، ومن سورة لأخرى ومن سور القرآن إلى موضوعاته العلوية. لهذا كان من الضروري بذل الجهد في علم المناسبات وتقديم الوحدة الموضوعية للسورة ككل قبل الدخول في التفصيل الجزئي للآيات، إن كنا حقا نريد أن نصل إلى قلوب القوم عن طريق عقولهم، ولا نترك الدخول في الدين للصدفة أو خوالج النفوس، خصوصًا في هذا العصر.

ويعجبني هنا قول الشيخ محمد الغزالي في كتابه كيف نتعامل مع القرآن: لقد تقلصت في ثقافتنا الإسلامية الرؤية القرآنية الشاملة، واختزلت المحاور والمقاصد وأصبحت المصادر الإسلامية تقرأ على أنها فقه وقد تعددت الثقافة الإنسانية وتشعبت الاختصاصات التي تبحث الآن عن الكون وعن الإنسان، وأصبحت العلوم الإنسانية الآن علم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والأخلاق والتربية والجمال والتاريخ ولكل علم منهجه وطرائفه ومقاصده.

 المشكلة أن العقل المسلم توقف عن النمو في هذه المحاولات -لعدة أسباب– مع أن موضوع القرآن هو الإنسان، ومحل آيات الله هو الكون – ولابد للإنسان من التدبر في القرآن، والتعرف على سنن الكون وقوانينه التي لا يتحقق بدون إدراكها تعمير الأرض لكن عصور الانحطاط والتخلف والتقليد أوقعت المسلمين في عجز الرؤية وتجزئ النظرة.

ومن هنا ألح على هؤلاء الذين يقدمون القرآن بلغات أجنبية في تفسير جزئي أن يهتموا بهذه النظرة الكلية ليكشفوا عن نسق القرآن الكلي، وترابط آياته وسوره وموضوعاته.

وبهذا يمكننا أن ننادي بالقرآن الراشدين من العالمين لنخرجهم من الغواية إلى الهداية، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الرحمة، ومن الموت إلى الحياة ومن الظلمات إلى النور فتستقيم معرفتهم بالتعامل مع عالم الغيب إضافة إلى عالم الشهادة، ويتسع وجودهم الزماني من حدود الدنيا إلى أفق الآخرة، ويمتد وجودهم المكاني من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة فتتحرك نفوسهم من الغل إلى المودة، ومن الأثرة إلى الإيثار ومن السفه إلى الرشادة وينعمون برغد العيش في الرزق والأمن والرضا في النفس والسلام والوئام في العالم، هذه هي مصطلحات القرآن ومرامي الفرقان.

وسورة البقرة تحوي بين جنباتها الأسس الرئيسية للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الأمة المسلمة.

ومن هنا تبدأ السورة بالتنبه إلى أن هداية البشرية إنما تكون بالاستماع إلى القرآن الذي لا ريب فيه.

وأن الناس ينقسمون في معرفة الحق إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين تتباين استجابتهم، ومداركهم، وأعمالهم، وصفاتهم.

ثم تعرض السورة النشأة الإنسانية بخلق آدم وقصته مع إبليس، ومعصيته لله بغواية إبليس له في أمر يتعلق بحاجاته وهو الأكل حين زين له الخلود والملك ثم توبته وقضاء الله بهبوطه إلى الأرض وابتلائه فيها بالعمل بهدى الله في عمر يحيا فيه ثم يموت.

ثم تسرد السورة قصص بني إسرائيل عبرة وعظة، لنحذر انحرافاتهم ونتجنب معاصيهم وعدوانهم، فقد كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق، وبطروا النعمة وغمطوا الحق وبدلوا القول واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. وبعدئذ تصل سورة البقرة الأمة المسلمة بإبراهيم عليه السلام، حيث كان دعاؤه للأمة المسلمة أن يوفر الله لها في حياتها الأمن والرزق لمن آمن بالله واليوم الآخر، وهما اللذان يشغلان حيزًا هامًا في مشكلات كل عصر. فأجابه الله مبينًا سنته في تحقيق ذلك للمؤمنين، أما من كفر فيمتعه قليلًا ثم يأخذه أخذًا عزيزًا.

ومن ثم أخذت السورة في تحديد المعالم الرئيسية لنظام الحياة في الأمة المسلمة عقيدة وشعيرة وشريعة، أمة وسطًا تشهد على الناس بقرآنها شهادة الحق.

فعقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر تجعل الحياة والمال والمتاع في يد الإنسان حيث الإيثار لا في قلبه حيث الأثرة، في وسط ما بين أنانية جشعة وبين رهبانية منعزلة ضعيفة سلبية عقيدة تجعل الانتماء فيها للإسلام، ولا ينال عهد الله الظالمين ولو كانوا من صلب الأنبياء.

 وشعائر من صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، إلى صيام يولد التقوى والرحمة إلى حج يوحد القلوب على قبلة واحدة ونشأة واحدة إلى زكاة تواسي الفقير وتحقق العدل في التوزيع.

وشريعة للأمة تبين:

١- الكسب الطيب من عمل صالح وضرب في الأرض.

٢- الإنفاق الطيب على النفس والفقير والجهاد، وتحض عليهما وتفتح الطريق لهما في قلوب المسلمين وفي سياسة الأمة وتدين الكسب الخبيث وبالتحديد الربا والرشوة والإنفاق الخبيث وبالتحديد الإنفاق على الخمر والميسر، وتحذر المسلمين منهما وتشرع لاجتثاثهما من كيان الأمة.

وشريعة للأسرة تحدد حقوق المرأة المالية وحقوق الأولاد والنفقة عليهم والمسئولية عن إعالتهم.

 إن سبب ضياع الإنسانية في العصر هو كسبها الخبيث وإنفاقها الخبيث، مما جعل الخوف والجوع مشكلة عالمية.

 وما أحوج الإنسانية إلى الشريعة التي تهديها إلى الكسب الطيب والإنفاق الطيب لتحقق دعوة إبراهيم عليه السلام في تحقق الأمن والرزق لمن آمن بالله واليوم الآخر.

 وهذا إجمال الموضوع سورة البقرة يحتاج أن نفصله في وحدة موضوعية، في مرة قادمة، إن شاء الله رب العالمين.

(*) أستاذ الاقتصاد الإسلامي بقسم الدراسات العليا بكلية التجارة جامعة الإسكندرية.

الرابط المختصر :