العنوان المظلومون في تاريخنا (9) الناصر لدين الله.. (2من2)
الكاتب أ.د. عبدالرحمن علي الحجي
تاريخ النشر السبت 14-أبريل-2007
مشاهدات 18
نشر في العدد 1747
نشر في الصفحة 66

السبت 14-أبريل-2007
الرد على الافتراءات
هناك بعض المظالم التي لَحِقَت بالخليفة عبدالرحمن الناصر.. وسنتناول اثنتين منها:
الأُولى: حول بنائه لمدينة الزهراء. يقولون: سبب بنائه لها، أن مَحْظِيّة له اسمها الزهراء ــ إن وُجِدَتْ أصلاً ــ تبرعت بمال لديها، أو من أخرى سبقتها، لفك أسرى المسلمين. فلما لم يجد أسرى، أو فكهم جميعاً، بقي مال كثير، فرغبت إليه أن يبني لها مدينة جميلة (أو: مُنْيَة = قصر ضخم)، تحمل اسمها لتسكنها، ففعل. فكانت مدينة الزهراء هذه بكمالها!
والحق أن هذه الحكاية غريبة ومضحكة وعجيبة ــ وإنْ ربما بدت لا تخلو من حَبْكَة ــ لمن له معرفة، فضلاًً عن التخصص، بالتاريخ الأندلسي. والظاهر أن طريقة صياغتها، جميلة تُغْرِي بقبولها:
1ــ نخوةُ وشهامةُ وتَديُّنُ الزهراء، دعاها إلى التبرع بهذا المال لفك الأسرى، بحيث حرروهم جميعاً ولم يبقَ أسير!
2ــ أيُّ مالٍ هذا الذي فك جميع أسرى المسلمين، فيما حولهم، والباقي يبني مثل هذه المدينة؟
3ــ محظية: لِمَا تحمل مِن مَيْلٍ قلبي، تثير لها التعاطف واستحسان الاستجابة لرغبتها.
والحقيقة أن موضوع فداء الأسرى شيءٌ آخر، والجمع بينهما تزوير وزور، شَوّه كليهما، وذلك أن «إحدى كرائمه أَخرجت مالاً في فداء أَسارى في أيامه، فلم يُوجد ببلاد الأندلس أَسيرٌ يُفْدَى» (سير أعلام النبلاء8/268).
لكن بالمقابل:
1ــ هذا البناء لم يكن قصراً، بل مدينة خليفية، تحتوي دواوين الدولة وتوابعها وكثير من العاملين، إنها مدينة أكبر من ذلك. إلى درجة أن الخليفة وجه دعوة إلى المجتمع: كل مَن يريد أن يبني فيها داراً، يُقَدّم له مالاً (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب1/179).
2ــ لم يَذكر أحدٌ من المؤرخين الثِّقات مثل هذا السبب أو حتى قريباً منه، كابن الفَرَضي(403هـ)، وابن بِشْكُوال(578هـ) وابن حَيَّان: الذي ذكر كثيراً من تفاصيل الموضوع ( نفح1/526 ــ 528ــ 563 ــ 568).
3ــ لكن السبب الحقيقي يكمن في شقين التقيا معاً هاهنا:
أــ عُرِفَ عن أُمراء الأندلس حبهم للعمارة وما يتعلق بها، وربما الأمر عام. والخليفة الناصر من أكلفِهم بذلك، شغفأ بالبناء والعُمْران، «كلفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها وإنباط مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها» (فرحة الأنفس303، نفح1/570). فأحب أن ينشئ هذه المدينة المتكاملة عاصمة ملحقة، اقتضتها دوافع التقدم والتوسع والرقي، الحضاري والاجتماعي والسياسي .
(ب) نظراً لهذا التوسع وقدوم الوفود والسفراء، ومن انتقل إليها من مدن الأندلس الأخرى، غدت العاصمة القرطبية تضيق طرقها ومرافقها، سيما عند قدوم السفراء والوُرَّاد إليها من الآفاق.
أصبح السفراء والناس، يلقون عَنَتاً في الانتقال والاستقبال المتكرر، عند كثرتهم وتتابعهم، خلال سيرهم ووصولهم لقصر الخلافة، قرب المسجد الجامع، وما يحف ذلك من حفاوة الناس والمستقبلين، جنوداً ومسؤولين. كل ذلك حفز الهمة وأذكى الرغبة لإنشاء هذا الصرح المعماري العجيب.
ابتدأ الخليفة الناصر بناء مدينة الزهراء في 1/1/325هـ. كان المشرف على بنائها كبير المهندسين: مَسْلَمة بن عبدالله، شَمال غربي قرطبة، على بعد نحو ثمانية كم. تقع عند أقدام جبل العروس «الجبل المُنيف المسمى بالعَرُوس، المَغروس بالكروم والزيتون وسائر الأشجار وأنواع الأزهار» (فرحة الأَنْفُس، 296)، هذا أجود اختيار لها، المعروف بجبال قرطبة: فهي متموجة متدرجة متدحرجة.Sierra de Cordoba
وفي الترميمات التي تجري منذ عقود، ما زالت مستمرة حتى اليوم، في مدينة الزهراء الخليفية، استعادة لبعض رونقها ومواقعها وأبهتها، منها بقايا قاعة استقبال السفراء «دار الملك» الفخم المعمار، قبل اللقاء بالخليفة في مجلسه المسمى بـ «المجلس المؤنس».
حديث مدينة الزهراء غني جداً بالتفاصيل(نفح1/523 ــ 528ــ 563 ــ 596).
المظلمة الثانية: جرت أحداث أيام خلافة الناصر، استنتج منها عِدَّة دارسين غربيين، أنه لم يكن متسامحاً مع غير المسلمين في الأندلس، لا سيما النصارى. وكان من أدلتهم على ذلك: أنه خلال المراسلات التي جرت بينه وبين «أوتو الأول»، شتم الناصرُ النصرانيةَ ونبيها، (عليه السلام). لكن ذلك لا يعدو أبداً إلاّ أن يكون اختلاقاً محضاً. فإنه لم يُعْهَد أن أياً من المسلمين فعل ذلك أبداً. كيف والمسلم يحترم كل الأنبياء( عليهم السلام) ويبجلهم ويؤمن بهم؟ والمسلمون جميعاً ــ وفي الأندلس بالذات، لاسيما أُمراؤهم، والخليفة الناصر من روادهم ــ كانوا في غاية السماحة، ولم يُؤْثَر عنهم غير السماحة.
ثم: ألم تكن عدة دويلات في الشمال الإسباني نصرانية؟ لم يذكرأحدٌ أن جرى بينهم شيء من ذلك في أي وقت؟ بل جرى استخدام العديد منهم في مواقع ومناصب عالية، إلى حد أن سفير الناصر إلى «أوتو» كان راهباً نصرانياً.
عاش غير المسلمين في المجتمع الأندلسي عيشة ــ وفي الأندلس بالذات ــ لم تتهيأ لهم في أي مجتمع آخر، حتى في مجتمع ينتمون إليه:ديناً ولغة ووطناً.
كان التزاوج بين المسلمين الأندلسيين بالذات، من النصرانيات مألوفاً. وإن العديد من أُمرائهم تزوجوا منهن، أسلمن قبل ذلك أو فيما بعد، وذُكِرَ بعضهن بحسن إسلامهن. بل أشارت مصادر ــ منها لاتينية معروفة ــ إلى أن جدة الناصر (أُم أبيه: محمد)، أصلها نصرانية، اسمها وَنَقا، تعرف في المصادرالأندلسية باسم «دُرٌّ»، من نافار(البَشْكنس= الباسك)، حيث تغدو، الملكة الوصية على عرش مملكة نافار عمة الناصر من زواج سابق.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلوثيقة «الدليل المنير».. وعلاقتها بانتشار الإسلام في الأندلس
نشر في العدد 2122
21
الأربعاء 01-أغسطس-2018

القيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
24
السبت 19-يوليو-2008

