; الوأد الحلال | مجلة المجتمع

العنوان الوأد الحلال

الكاتب د. إيمان الشوبكي

تاريخ النشر الثلاثاء 01-نوفمبر-2016

مشاهدات 777

نشر في العدد 2101

نشر في الصفحة 78

الثلاثاء 01-نوفمبر-2016

الوأد الحلال

 

د. إيمان الشوبكي

 

انطلقت الحافلات من أمام المدرسة معبأة بفرحة الطلاب وهم مقبلون على هذه الرحلة المدرسية التعليمية الترفيهية، وكل صديق يجالس صديقه وأحباءه بين مزح ولعب، حتى توقفت الحافلات ونزل الطلاب منتشرين هنا وهناك، لاحظت على أحدهم انطواءه على نفسه، لا يجاري الآخرين في مزحهم وفرحتهم، فجذبه أحد الأصدقاء وضمه لهم في التسلق واللعب وجذب الأكل من بعضهم.

 

انصرفت إلى بعض الزملاء نتناول الإفطار سوياً ونتجاذب أطراف الحديث، ونقضي الوقت في جو مشمس في شتاء القاهرة، ثم قمنا للتجول، لمحته مع بعض الأصدقاء يتهامسون ويتناجون، أقبلت عليهم، قائلة: هل تسمحون لي بالتحدث معكم بعض الوقت؟

قالوا: بكل سرور، أكيد.

قلت: مثل هذه النزهة واجبة للترويح عن النفس بعد زحمة المذاكرة وقبل ضغط الاختبارات وهمها.

قالوا: نعم.. نعم.. فعلاً، إن للاختبارات لضغوطات وصعوبات وأزمات.

قلت: لما كل هذا المبالغة والتهويل؟ جميعنا يتعلم ويدرس ويتخرج هكذا هي الحياة.

قال أحدهم: جيلكم غير جيلنا.

قلت مندفعة: جيلكم وجيلنا! جيلكم وجيلنا! أنتم من تخلقون الصعوبات وأنتم من تعقدونها.

قال آخر: لا.. لا، هي معقدة وحدها.

قلت: أنتم من تنسجون خيوط الصعوبات لتلتف حول جهدكم فتعدمه أو تجهضه.

قال ثانٍ: لماذا جيلكم متفائل وجيلنا متشائم؟

ابتسمتُ قائلة: جيلكم ثانية! على كلٍّ، الأمر ليس متعلقاً بسن أو عمر أو مرحلة أو جيل، إنما قناعات وأفكار ثم نفسية الإنسان ومشاعره.

قال أحدهم: لكن قد يتوافر في زمنكم ما لم يتوافر في زمننا.

رددت قائلة: وكم وجد وتطور في زمنكم ما لم يكن في زمننا؟ الأمر ليس قياساً قاطعاً، ثم سألت (وأنا ألاحظ عدم مشاركته النقاش مكتفياً بالمتابعة): ما أكثر ما يزعجكم بعد الامتحانات والاختبارات؟

هموا بالنطق، ثم صمتوا شاردين الذهن، ثم قالوا: لا شيء سوى الاختبارات حالياً.

قلت: وماذا بعد حالياً؟

قالوا: التخرج والعمل.

قلت: الإنسان العادي الذي يعيش عادياً، ويعمل عادياً، ويتزوج عادياً، وينجب أولاداً عاديين، ويعيش حياة عادية، ويموت عادياً، هذا هو سبب هذه النظرة التشاؤمية التي تتحدثون بها، والنبرة الإحباطية التي تنتاب حواراتكم وكلامكم حتى مزحكم.

انطلق متكلماً: لا.. هناك هموم قد تشكل حياتك بكاملها أو تدفن أي حلم وتئد أي نظرة مستقبلية.

قلت: من يوافقه منكم؟

نظروا لبعضهم مهمهمين قائلين: قد يكون كلامه صائباً فعلاً.

قلت له: وضّح أكثر.

قال: الآلام والهموم كثيرة، يغوص كل منا في أحدها.

قلت: هذا ما نسميه قانون الألم.

ضحكوا قائلين: سمعنا عن قوانين كثيرة، فهل هذا القانون سيدرس لنا في الأيام القادمة؟!

قال آخر: لا.. لا، لكن مدرسة الحياة يا ابني هي من ستعلمه لنا وتعلمنا غيره الكثير.

قلت: بالفعل، مدرسة الحياة تعلمنا الدروس الكثيرة الحسن منها والسيئ، وعلينا أن نتعلم منها حتى نجنب أنفسنا عقبات استكمال أحلامنا أو أهدافنا فيها.

قال أحدهم ضاحكاً: وهل هذا القانون له نظرية وإثبات؟ ومن صاحبها؟

قلت: صاحبها أنت وأنت من ستثبتها أو تثبت عكسها.

قال: كيف؟

قلت: أنت من تحدد في أي منطقة أو زاوية من هذا القانون.

قال: وهل ضروري أن يعيشه الجميع؟

قلت: قوانين الحياة كثيرة، وقوانين الألم متعددة على حسب نوع الألم، فحتماً كلنا مررنا على أي نوع من أنواعه.

قال: لكن هناك أناساً يتألمون نرى عليهم السعادة، وآخرين لا يفارقهم الألم والهم.

قالوا: هكذا أنت دائماً، تقلب أي فرصة للفرحة أو الترفيه والتسلية إلى نكد وغم، كعادتك.. نتركك أنت مع الدكتورة لتكمل مسلسل الألم وقطار الهم وسلسلة الغم.

وهمُّوا منصرفين، متمتمين: هكذا النكد إن فارق أصحابه تاه! هلمُّوا لنبحث عن المرح.

تأملت حاله من لباس فوجدته متواضعاً، وجسده هزيلاً، ونفسية يحتلها الحزن رغم صلابة شخصيته، فقلت له: أسمعت ما قالوه؟

قال: نعم، هذه جملتهم دائماً عليَّ، ولا أغضب منهم، فهم يمزحون معي دائماً.

قلت: لم أقصد هذا، بل تأمل معنى ما قالوا، ستجد إجابة لسؤالك فيها.

سرح برهة وشرد.

فقلت: أياً كان نوع الألم، فنحن من نحدد تمكنه منا أو تمكنا منه.

قال: لكن لم تذكري أنواعه.

قلت: ألم الفراق سواء فراق شخص أو مكان، ألم المسؤولية وما يتبعها من تعب وتحمل، ألم التغيير خاصة تغيير السلوك والتصرفات والعادات وما تعانيه من أجل الوصول إليه؛ كتغيير عادة بسبب مرض مثلاً، أو تغيير سلوك من أجل غضب المحيطين بك بسببه، ألم المرض وضعف الجسد، ألم الغدر والخيانة خاصة مع العلاقات الآمنة جداً تكمن درجة الألم، ألم القسوة في المعاملة أو الغلظة، ألم القرارات إذا كانت مصيرية أو اضطرارية وتفاوض على الخسارة، ألم عدم الكفاءة والخبرة التي تؤخر نجاحك كثيراً وتشعرك بالفشل الدائم وتحبطك، ألم الصراع لتبقى أو تحيا أو تجد لنفسك مكاناً متميزاً وحياة على هذه المعمورة.

قال: إذاً لن يعفى أحد منها.

قلت: بل الحياة تتشكل من هذه الآلام، لو جاز لي التعبير، حتى نعرف معنى السعادة التي يرجوها الجميع، وما الشعور بها إلا بعد تذوق مرارة هذا الطعم، لتتكون الخبرات والتجارب والمهارات.

قال: وإذا كان هناك من يجمل كل هؤلاء؟

قلت: من الواضح أن أصدقاءك كان معهم الحق في بحثك عن مواضع ومواطن الهمّ فقط.

قال: لا.. فقط هو الواقع، فهناك أناس تحمل معظم هذه الأنواع دفعة واحدة، والبعض يحمل بعضها.

قلت: أحياناً يحولها البعض لتجارب يتجاوزها سريعاً حتى لا تؤثر على أي إنجاز آخر في حياته أو صحته أو نفسيته.

قال: هناك أنواع ملازمة لك تؤثر على الأخريات كالفقر أو المرض.

قلت: معك حق فعلاً، ونحن لا نلوم أصحاب الهموم على همومهم، فهي ابتلاء وأقدار، لكن نحن نبحث عن حلول أو بداية لحلول مخافة التعايش داخلها.

قال: أعتقد أن علينا نتكيف مع مشكلاتنا ونعيشها.

قلت: هناك فرق بين أن تتعايش داخل مشكلاتك أو تتعايش مع مشكلاتك، فالتعايش معها وليس داخلها هو المقصود؛ لأن التعايش داخلها لن يساعدك على إيجاد حل لها أو مخرج، ولا حتى تعطي نفسك مهلة لأي شيء سوى الحزن والهم، وأن دوام الحال من المحال، فالله عز وجل يغير ولا يتغير، فأكيد الحال ستتبدل، والرضا طريق السعادة إن شاء الله.

قال: أي سعادة؟

قلت: السعادة مقاييسها ومعاييرها زئبقية، مؤشرها أو مكونها أن تتمتع بما هو موجود حتى يأتيك ما هو مفروض، مع سعيك له ما استطعت دون ضجر.

قال: إذاً السعادة كائن صغير.

فإذا بالزملاء ينادون علينا للرحيل فقمنا.

وأنا قائلة له: بالفعل؛ كائن صغير تُكبِّره أنت، كما أن الألم مولود حديث الولادة يمكنك أن تئده، وهذا هو الوأد الحلال.

وهممنا بالانصراف لركوب الحافلات والعودة.

الرابط المختصر :