العنوان عظماء منسيون.. امير البيان.. شكيب أرسلان «١٢٨٦ – ١٣٦٦ هـ / ١٨٦٩ – ١٩٤٦م»
الكاتب د. محمد بن موسى الشريف
تاريخ النشر السبت 06-يونيو-2009
مشاهدات 43
نشر في العدد 1855
نشر في الصفحة 41
السبت 06-يونيو-2009
- جاحظ عصره.. شاعر مجيد وناثر فذ.. عالم بالأدب والسياسة والتاريخ.. سخر قلمه لنصرة قضايا العرب والمسلمين.
- شارك في مقاومة الإيطاليين في ليبيا عام ١٩١١ م لمدة ثمانية أشهر... وقاد ٦٠٠ جمل تحمل المؤن من مصر إلى برقة.
- قال له الملك فيصل بن الحسين: أشهد أنك أول عربي تكلم معي عن الوحدة العربية وأراد أن تكون وحدة عملية.
- نبغ مبكرا في نظم الشعر وكتابة المقالات وعمره ١٦ عاما .. وقال له الشيخ محمد عبده : ستكون من أعظم الشعراء.
- أقام في «جنيف » ربع قرن مدافعا عن قضايا العروبة والإسلام وشارك في مؤتمرات كثيرة في دول أوروبية عدة.
- كان محافظا على دينه وأسرته... عارفا بشرائع الإسلام.. ومن أوائل من رد على العلمانيين في العالم العربي.
جاحظ عصره، وإمام من أئمة الكتاب، وشاعر مجيد، وناثر فذ؛ سخر قلمه طويلا لنصرة قضايا العرب والمسلمين، وهو من العلماء بالأدب والسياسة والتاريخ، يقول عنه الأستاذ علي الطنطاوي: «إن شكيب أعظم شخصية عربية وكان لسان الإسلام، وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني».
ولد شكيب أرسلان في «الشويفات» بلبنان سنة ١٢٨٦هـ «١٨٦٩م» من أسرة تنوخية الأصل.. والتنوخيون هم الذين كانوا ملوك الحيرة، وتقلب في الوظائف والمناصب، فكان قائم مقام في «الشوف» ثلاث سنوات، وانتخب نائبا عن «حوران» في مجلس «المبعوثان» العثماني وهو بمثابة البرلمان لكل الشعوب العثمانية.
سكن دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم برلين، ثم انتقل إلى جنيف ليعيش في سويسرا خمسا وعشرين سنة يدافع فيها عن قضايا الإسلام والمسلمين، ثم عاد إلى بيروت فتوفي بها ودفن بالشويفات.
تلك كانت سطورا مختصرة عن سيرته التي تحتمل مجلدات، وهو من طائفة الدروز الذين يسكنون جبل لبنان لكن شكيبا كان قد تسنن وتعبد وصلى وصام وحج على منوال أهل السنة وتزوج امرأة من أهل السنة، ولهذا فمن الدروز من لا يراه درزيا ومن أهل السنة من لا يراه سنيا ...
لكن زوجه أكدت انتسابه إلى أهل السنة ولله الحمد والمنة، كما ذكر ذلك العالم الأديب أحمد الشرباصي نقلا عن زوجته نفسها حيث قابلها وذكرت له ذلك، وزوجته هذه شركسية قفقاسية من منطقة «القوقاز» تزوجها الأمير شكيب في إسطنبول» التركية لما كان عمرها عشرين سنة، وكان هو قد جاوز الأربعين وليس له غيرها .
جهاده ضد الإيطاليين
وقد نبغ شكيب أرسلان – يرحمه الله تعالى – مبكرا، فأخذ في نظم الشعر وكتابة المقالات وهو لم يتعد ستة عشر عاما، وقد رآه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لما نفي إلى لبنان فقال له: «إني أعرف اسمك» وستكون من أعظم الشعراء... هذا وقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً، ثم توثقت صلته بالشيخ محمد عبده، وزاره في مصر وخالطه طويلا، وجلس إلى جمال الدين الأفغاني في إسطنبول، ورأى الشاعر أحمد شوقي فيها، واجتمع بالشيخ رشيد رضا في بيروت.
وكل هذا طبع في قلب الشاب وعقله وجوب العناية بالمصادر الإسلامية والبحث في آلام الأمة وآمالها، والاهتمام بشؤون العالم الإسلامي، وهذا جعله يشارك أمته همومها ، فمن ذلك أنه شارك في الجهاد ضد الإيطاليين في ليبيا سنة ١٩١١م، وقاد ٦٠٠ جمل تحمل المؤن من مصر إلى برقة، وظل في موطن الجهاد ثمانية أشهر تقريبا .
وقال الزعيم الليبي سليمان الباروني لو أخذت الحكومة العثمانية بتفاصيل الخطة التي رسمها الأمير شكيب ونفذتها بحذافيرها لما ضاع الأمل في إنقاذ طرابلس وبرقة، أو لاستطعنا على الأقل إطالة الحرب ثلاث أو أربع سنوات.
وسافر إلى المدينة المنورة سنة ١٩١٤م ليفتح مدرسة فيها .
دعوته للوحدة العربية
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٥م أقام في «معان» في جنوب الأردن الآن قرابة شهر ومعه مائة وعشرون مجاهدا ، ثم انضم إلى الجيش العثماني الحجازي، وكان لا يثق بالحلفاء ويهاجمهم، ويعارض الثوار العرب في ثورتهم ضد الدولة العثمانية، وذلك لإخلاصه إخلاصا منقطع النظير لها، ولأنه يعلم أن الحلفاء سيستولون على البلاد العربية بعد الحرب..
ولذلك أرسل إلى أحد الأشراف الثوار قائلا: «ماذا تصنعون؟ أتقاتلون العرب بالعرب؟ وتسفكون دماء العرب بأيدي العرب ولأجل أن تكون سورية لفرنسا، والعراق لإنجلترا، وفلسطين لليهود؟».
فلما انتهت الحرب وانهزم العثمانيون رأى أن الدولة العثمانية بقيادة ا لكما ليين أدارت ظهرها للعروبة والإسلام، وأن مصطفى كمال قد أسرف في عداوة الإسلام، فقرر أن يدعو إلى الوحدة العربية بعد أن كان يدعو إلى الجامعة الإسلامية، وله عذره الواضح في هذا إذ إنه بعد إلغاء الخلافة لم يكن هناك دولة إسلامية جامعة، وكانت الدول العربية والإسلامية تتساقط في أيدي الاحتلال واحدة بعد أخرى، وكانت الأحوال غير مواتية آنذاك للدعوة إلى الجامعة الإسلامية، فدعا شكيب إلى الوحدة العربية حتى قال الملك فيصل بن الحسين له: أشهد أنك أول عربي تكلم معي عن الوحدة العربية وأراد أن تكون وحدة عملية.
ولا يعني ذلك أن شكيب كان قد نسي الوحدة الإسلامية، لكنه كان سياسيا عمليا يعمل في المتاح له حسب أحوال زمانه لذا كان حريصا على إعادة الخلافة عقب إلغائها في تركيا، وكاتب الشيخ رشيد رضا في ذلك، واقترح في هذه المسألة اقتراحات لكن الأمر كان أكبر منه.
قضايا العروبة والإسلام
ولما احتلت فرنسا سورية الكبرى رفض أن يبقى فيها، فخرج إلى ألمانيا التي كان لها صلات قوية بالدولة العثمانية، ودخلتا الحرب معاً، فرحب به القوم، وأقام في برلين، ورافق الإمبراطور الألماني غليوم الثاني في زيارته لسورية بعد ذلك.
ولما كان مقر جمعية الأمم عصبة الأمم «آنذاك» في مدينة جنيف السويسرية ترك الأمير شكيب إقامته في برلين واستقر في جنيف لمدة ربع قرن تقريبا، مدافعا عن قضايا العروبة والإسلام، وشارك في أعمال ومؤتمرات كثيرة كانت تعقد في سويسرا وأوروبا، ومنها مؤتمرات الوفد السوري الفلسطيني الذي كان يرفع شكاواه إلى «عصبة الأمم»، وما أشبه الليلة بالبارحة !!
أسلوبه في الكتابة
كان الأمير شكيب أرسلان يُعدُّ شاعرا من أبرز شعراء عصره، كما كان في النثر من أهل الطبقة الأولى وكان يغرب أحيانا في عباراته وكلماته فيأتي بها عربية جزلة صعبة، وكان يسجع أحيانا، لكنه إذا أطلق ليراعه العنان فإنه يأتي بكلام رائع جليل، أكتفي منه بهذا الذي كتبه بعد زيارته الأندلس شعرا :
يقولون: كانت أمة عربية بأندلس سادت بها جَمَّ أَعْصُرِ
وقد عمرت أقطار أندلس بهم فكم بلد فخم ومصر مُمَصر
وكم أربع خضر وحرث مطبق وفاكهة رغد وزهر منور
وكم قائد قرم وجند مدرب وكم سائس فحل وأمر مدبر
وكم بطل إن ثار نقع رأيته يبيع بأسواق المنايا ويشتري
وما شئت من علم ورأي وحكمة ودرس وتحقيق وقول محرر
إلى شمم جم ومجد مؤثل وفي عزة قعسا ووفر مُوَفِّر
نعم كان فيها من نزار ويعرب جموع نخيل الأرض في يوم محشر
فراحت كأن لم تغن بالأمس وانقضى لهم كل ركز غير ذكر معطر
فهمه للإسلام
كان الأمير شكيب - في الجملة - متدينا محافظا على الصلاة في زمن كانت الصلاة فيه مهجورة من أكثر الناس، وكان محافظا على دين أسرته، وكان عارفا بشرائع الإسلام في الجملة - وإليكم هذه الوقائع التي تدل على هذا : في سنة ١٩٣٥م رأس الأمير شكيب أرسلان المؤتمر الإسلامي الأوروبي الذي انعقد في جنيف، وكانت إحدى جلسات المؤتمر في يوم جمعة، فأوقف الجلسة ليصلي الحاضرون الجمعة، فخطب المصلين في الفندق وصلى بهم إماما.
- في سنة ١٩٣٧م زار مدينة «حلب». السورية، وخطب في جامعها الكبير قائلا: إن المسلم يستمد استقلاله من القرآن وإن إيمان المسلم غير الكامل إنما هو إيمان ناقص، ولا توجد الوطنية الصحيحة إلا في قلب المؤمن العامر بالإيمان - أرسل بنتيه إلى لبنان ولم يسمح لهما بالبقاء في جنيف، وذكر السبب لولده «غالب» عندما اشتاق إلى أختيه وطلب من أبيه إحضارهما فقال: «إنني أشد منك عذابا في فراقهما، لكني لا أريد أن يخرجا كالإفرنجيات، فلو ربيتهما في جنيف لخرجتا بدون لغة عربية، وبدون عقيدة إسلامية، وما يعود ممكنا إعادتهما إلى الحجاب متى ذهبتا إلى الوطن».
عند حديثه عن حدود العلاقة بين الدين والدولة مثل لما يحصل في أوروبا من علاقة بين الفاتيكان وإيطاليا، وفي بلجيكا وغيرها فقال: «إذا فالمدنية تجتمع مع الدين والحكومات الشرقية التي تزعم أنها تقطع صلتها بالدين الإسلامي اقتداء بحكومات أوروبا - التي تزعم عنها قطع الصلة بالدين المسيحي - إنما هي حكومات تضلل أفكار السذج من رعيتها، وتموه عليهم وتقصد حربا وتوري بغيرها، وناشرو دعايتها في مصر والبلاد العربية كاذبون.
فكان شكيب بهذا من أوائل من رد على العلمانيين في العالم العربي.
لكن هذا كله لا يعني أنه بريء من أخطاء شرعية وقع فيها لكن أقول: إنه في الجملة متدين بدين الإسلام معتز به، مقيم للشعائر وهذا من مثله في ذلك الزمان عزيز، والله أعلم.
رحلاته
ارتحل الأمير شكيب كثيرا إلى بلدان عديدة، في زمن كان الانتقال فيه بالقطار والسيارة والباخرة هو الغالب، أما السفر بالطائرة فكان قليلا ؛ إذ لم تنتشر الطائرات آنذاك انتشارها هذا الزمان، فكان قد زار الاتحاد السوفييتي بمناسبة مرور عشر سنوات على بدء الثورة البلشفية، وذلك سنة ۱۹۲۷ م فسافر بالقطار إلى موسكو، وفي السنة نفسها زار أمريكا بدعوة من عربها للمشاركة في مؤتمرهم في «ديترويت».
وفي سنة ١٣٤٨هـ / ۱۹۲۹م حج بيت الله الحرام، وأعجبه أن لم ير في البلاد إلا مسلمين وليس فيها أثر للاحتلال.
وفي سنة ١٩٣٠م ارتحل إلى الأندلس إسبانيا والبرتغال حاليا مارا بفرنسا، وكتب عن هذه الرحلة كتابه تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط».
وارتحل إلى البوسنة والهرسك، وألف فيها كتابا مازال مخطوطا .
وفي سنة ١٩٣٤م اشترك في الوفد الذي سعى في الصلح بين الملك عبد العزيز بن سعود والإمام يحيى إمام اليمن، فنجح الوفد في مهمته وتوقفت الحرب.
وفي السنة نفسها قابل «موسوليني» الطاغية الإيطالي، وتحدث معه ليخفف قبضته على مسلمي ليبيا .
هذا فضلا عن رحلاته إلى تركيا ومصر وليبيا .
وفاته
انتقل إلى وطنه لبنان قبل وفاته بشهور وسعد به إذ رآه مستقلا، وكان ذلك سنة ١٩٤٦م، لكنه لم يبق سوى بضعة أشهر ثم توفي بعدها ليلة الخامس عشر من المحرم سنة ١٣٦٦هـ / ٩ ديسمبر ١٩٤٦م، وصلي عليه في الجامع العمري ببيروت وقبل أن يموت بأيام أوصى وصيته الأخيرة، وكان فيها :« أوصيكم بفلسطين»، وهذا قبل احتلالها بسنة وبضعة أشهر، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وعوّض الأمة عنه خيرا ..