العنوان صور من الكفاح الإسلامي الحديث - «سعيد النورسي»
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 11-يوليو-1972
مشاهدات 23
نشر في العدد 108
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 11-يوليو-1972
صور من الكفاح الإسلامي الحديث
«سعيد النورسي»
· المؤمن الحر الذي واجه الدكتاتور أتاتورك.
· الشجاع الصابر الذي قهر السجن بصبر.
· العالم الداعية الذي نشر الإسلام أينما وجد.
كيف لنا أن نحيط بحياة ذلك الرجل الذي ما عرفتْ خطواتهِ حدودًا للزمان والمكان. وكيف نتتبعه بين المحاكمِ والسجونِ إلى المساجدِ والمعاهدِ والأنديةِ إلى الشوارعِ الثائرة الصاخبة إلى خلواتهِ الساكنةِ الهادئة إلى ميادين القتالِ المستعرة إلى معتقلات سيبيريا المتجمدة إلى سجون إسبرطه وأمام أعواد المشانق.
لم يكن الشيء المثير في سيرة سعيد النورس أنه أصبح عالمًا يلقبهُ العلماء «بسعيد المشهور» وهو لم يتعد بعد السادسة عشرة لم یكن نبوغه، ولا حدة ذكائه أو غزارة علمه ووفرة مؤلفاته ولم تكن كذلك كثرة مثوله أمام المحاكم حتى أنه مثل ما بين أعوام (1950) -(١٩٦٠) م فقط أمام (٤٧) محكمة لمحاكمته. ولم تكن رحلته المثيرة بعد أن أفلت نفسهُ من معتقلات سيبيريا الرهيبة مشيًا على الأقدام حتى أوروبا فاستنبول لم يكن شيئًا واحدًا من هذه المواقف هو المثير، لكن اجتماع تلك الميزات الفريدة وتلك الملكات العظيمة المتعددة في شخص واحد هو الشيء المثير حقًا، وهو الذي حول حياة سعيد النورس إلى صور من النضال وألوان من الجهاد. لم يكن يعرف ميدانًا واحدًا فهو في كل معركة وبكل سلاح ولد في شرق الأناضول وهنالك تلقى علومه المختلفة في الدين واللغة العربية فأتقنها في وقت وجيز على يد مشاهير العلماء، وأصبح أستاذًا مقصودًا في تركيا الشرقية، فقد كانت له طرق مبتكرة في المعالجة؛ لأنه لم يقنع بالأساليب القديمة في طرق التدريس والشروح التقليدية، وبدأ ينادي بضرورة تدريس العلوم الطبيعية جنبًا إلى جنب مع العلوم الدينية، وكانت مدارسه أنموذجًا لهذه الدراسة المتكاملة.
إلى استنبول
قدم سعيد النورس إلى استنبول وفكرة الجامعة الإسلامية الحديثة تراود خياله وفور وصوله دعا العلماء ووجهاء البلد إلى اجتماع وافهمهم الغاية التي جاء من أجلها- ثم اتخذ لنفسه مقر هناك كتبا على بابه:«هنا تحل جميع المشاكل ويجاب على كل الأسئلة» كان من بين الذين زاروه شيخ الأزهر محمد بخيت المطيعي فسأله عن رأيه في أوروبا ورأيه في الإمبراطورية العثمانية فأجاب: «أن أوروبا حاملة بالإسلام فستلده يومًا ما وإن الإمبراطورية العثمانية حاملة بأوربا وستلدها يومًا ما» كانت حياته في استنبول. فترة جهاد سياسي فبعد الانقلاب العثماني شرع في مخاطبة الأمة منبهًا إلى خطر العلمانية ومتصديًا لذلك التيار العارم الذي عصف بالكيان التركي وأضاع أمجاد البلاد قال لهم مرة. « بني وطني لا تسيئوا تفسير الحرية كي لا تذهب من أيديكم لا تصبوا العبودية في قوالب براقه، وتسقوننا من علقمها إن الحرية لا تتحقق ولا تنموا إلا بتطبيق أحكام الشريعة ومراعاة آدابها. ولما قيل له إنك بالدعوة إلى الشريعة الإسلامية تعمل على تقويض الانقلاب العثماني وتتهم بالرجعية أجاب: «إذا كان الانقلاب عبارة عن استبداد جماعة في الحكم ومخالفة لأحكام الشريعة فليشهد الإنس والجن بأنني عامل على تقويضه وأنني أول رجعي.»
أمام المحكمة
انقضت عليه ذئاب السلطة وسيق إلى المحكمة بعد أن اشعلت كلماته ثورة عارمة في البلاد. وأمام هيئة المحكمة المتسلطة وقف «بديع الزمان» في شموخ وإیمان یرد علی اسئلة الجلادين، سأله الحاكم العرفي: «سمعت أنك كنت من المطالبين بتحكيم الشريعة»
فأجابه سعيد: «لوأن لي ألف نفس لما ترددت في بذلها لفداء حقيقة واحدة وحكم واحد من أحكام هذه الشريعة إنها طريق السعادة، والعدالة والفضيلة المحصنة»
ولم يكن أمام المحكمة الهزيلة من سبيل إلا أن ترسل الرجل إلى السجن، حيث تعرض لأنواع من التعذيب والمضايقات، فهل وهن صموده أو ضعف إيمانه. كتب في مذكراته: «كنت مرتاح الضمير، وجدت السجن تسلية وأتممت العلوم التي بدأت بدراستها، تعلمت في المحنة أن أرحم الضعيف واستصغر الطغاة عبيد الشهوات إن أملي قوي بأن صرخات المسلمين المستضعفين ونجواهم ستتحول إلى سحائب رحمه وتتخلص دول الإسلام من الذل والعبودية»
خلوة وجهاد في وقت واحد.
على إثر خروجه من السجن غادر النورس استنبول إلى الجبال حيث أمضى وقته بين العبادة وتعليم رجال القبائل والتأليف وكتب يقول لأهل استنبول:
«لا تعجبوا. حياة البداوة الحرة خير لي من الحضارة الممزوجة بالذل والعبودية والاستبداد» وكان يعلم رجال القبائل أمور دينهم وبرشدهم إلى طريق الحق ويكافح الجهل بينهم ويعلمهم في الوقت ذاته الثورة والجهاد.«علينا أن نقول بكل قوة إذا متنا نحن فلتحيا أمتنا، وليحيا الإسلام. لنا جنة الله التي عرضها السماوات والأرض».
يخاطب العرب من دمشق.
ثم غادر تركيا متوجه إلى دمشق للاتصال بالإخوان العرب، وكان لهذه الزيارة ألف معنى في زمن تفشت فيه الدعوة القومية بين العرب والأتراك على حد سواء وبدأت مؤامرة الاستعمار بشق الصف الإسلامي وتعميق الأحقاد القومية والعنصرية تؤتى ثمارها.
فكان المسلمون المخلصون وحدهم الذين وعوا المكيدة فاستمسكوا بالوحدة الإسلامية وحافظوا على روح الإخاء الإسلامي الذي لا يعرف عنصرية ولا تعصبًا. اجتمع «بديع الزمان النورس» بالمسلمين العرب وألقي خطابه المشهور في المسجد الأُموي الذي عرف «بالخطبة الشامية» حث فيه على التمسك بالإسلام والتسلح بالوحدة الإسلامية وأشار بالدور الهام الذي يتوجب على العرب القيام به في قيادة الأمة الإسلامية الواحدة فكريًا وثقافيًا.
المجاهد الأسير
لما قامت الحرب العالمية الأولى تطوع النورسي مع ثلاثمائة «۳۰۰» من تلاميذه في الدفاع عن بلادهم ضد الروس-وأبدى في القتال بطولات خارقة- وبينما كان تلاميذه والمجاهدون العاملون تحت إمرته يتساقط الشهيد تلو الشهيد كان هو في وسط المعركة قد أكمل تأليف كتابه الشهير «إعجاز القرآن» وفي تلك المعارك وقع النورس وبقية تلاميذه في الأسر، فنقلوا إلى مجاهل سيبيريا؛ حيث أمضى سنتين قام خلالها بتدريس الأسرى تعاليم الإسلام وإرشادهم إلى روح الجهاد والعزة الإسلامية ويثبتها لهم عمليًا.
وفي ذات يوم زار المعسكر أحد قادة روسيا البارزين وكان الأسرى المذعورون يرتعدون أمامه كلما مر عليهم فينتفش غرورًا إلا أن أسيرًا واحدًا لم يأبه بمقدمة ولم يقم له. ولما تكرر الحادث ثلاثًا اغتاظ الضابط الكبير وصاح بسعيد النورس: لعلك لم تعرفني؟ أجاب سعيد: لقد عرفتك نيكولو، نيكولوفيتش ضابط في الجيش الروسي. فدهش القائد وقال: فلم لم تقم إذن؟
قال: إنني أعتز بديني وتلك العزة تمنعني من أن أقوم احترامًا لأحد. وبذلك كان حبل المشنقة حول رقبة سعيد الذي أصر على اختيار الموت بعز على الحياة بذل. لكن القائد عفا عنه إكبارًا لشجاعته .لقد كانت أيامًا قاسية. قال عنها سعيد إنها أشعرته بالغربة وكاد أن يفقد الأمل في أمته ووطنه وحياته لكنه لجأ إلى القرآن وأخذ يتمتم «حسبنا الله ونعم الوكيل». ثم كان أن أفلت من الأسر ووصل إلى أوروبا سير على الأقدام هنالك اختارته «دار الحكمة» عضوًا في هيئتها التدريسية حيث قضى جل وقته في طبع مؤلفاته التي كان يوزعها مجانًا ويكتفي بما يبقى من مرتبه لسد رمقه.
وجهًا لوجه مع أتاتورك.
سمع به رئيسُ الدولة كمال أتاتورك فطلب مقابلته وقال له إنه يريد منه التعاون فقط ليكف عن مطالبتهم بإقامة الصلاة فأحتد معه «بديع الزمان» وخاطبه مشيرًا بأصبعه:
«باشا، باشا» أن أعظم الحقائق التي تلي الإيمان هي الصلاة، إن تارك الصلاة خائن وحكم الخائن مردود». بعد هذا اللقاء العاصف ترك النورس «أنقرة» وعاد إلى الجبال وكان ذلك بداية لثورة عظيمة ولجهاد متصل. فما أن وصل إلى ديار بكر حتى اشتعلت الثورة المسلحة في المنطقة فاقتيد النورس مع ما أُتهم بهِ إلى المنفى في «باره» من أعمال إسبرطه، وهناك ألف رسائله المعروفة «برسائل النور» ولما قدم إلى مدينة إسبرطه طبع رسائل أخرى كان من بينها مقال يبحث في يوم الحشر وزع سرًا، فكان ذريعة كافية لأخذه إلى السجن من جديد مع مائة وعشرين من تلاميذه، وما كاد ينهي مدة سجنه حتى نفي إلى «قسطموني» وبقي هناك لمدة 8 سنوات. في هذه الأثناء كانت الدعوة تنتشر وتتخذ طابعًا منظمًا بين الشباب وتعم المدن والأرياف فعادت السلطات إلى اعتقال سعيد النورس وقامت بحملة توقيف واسعة قبض فيها على العشرات من طلابه ووجهت إليهم خمس تهم:
1- تأليف جماعة سرية.
2- العمل على هدم الثورة الكمالية.
3- وصم مصطفى کمال بعداوة الدين والدجل والسفه.
4- الاعتماد في اتهاماتهم على الأحاديث النبوية.
5- إثارة روح التدين في تركيا.
وقضت المحكمة التي دامت عشرة أشهر ببراءة المتهمين ورفع الحظر عن رسائل النور. قال سعيد أمام تلك المحكمة:
«هذه هي الحقيقة، ونحن نقول بكل قوة: يا من بعتم دينكم بدنياكم، أيها الكافرون التعساء، أنفقوا ما شئتم، ستكون الدنيا وبالًا عليكم، لقد فديت هذه الدعوة المقدسة بملايين الأبطال ونحن مستعدون لأن نفديها بأرواحنا، أننا نفضل البقاء في السجن ألف مرة على أن نرى الحرمات تنتهك في ظل هذا الاستبداد، لا يمكن أن يقال إن هناك حرية علم أو حرية ضمير أو حرية تعبير أو حرية دين، وبقي على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون محتمين بالله تعالى قائلين:«حسبنا الله ونعم الوكيل»
نفوه حيًا ونفوه ميتًا
كانت دعوته قد انتشرت في طول البلاد وعرضها واهتزت تركيا الكمالية اهتزازًا عنيفًا بالحماس الإسلامي وأصبحت حياة الشيخ سعيد بعد ذلك سلسلة من المحاكم والسجون والنفي والتشريد ولكن الدعوة مضت في طريقها وتغذت بدفاعاته الجريئة أمام المحاكم التي ألهبت صدور الشباب بالثورة والتمرد. وفي ليلة من ليالي رمضان الطاهرة أسلم سعيد النورس روحه المجاهدة إلى بارئها. فكان مشهد الجنازة مظاهرة ناطقة واستفتاء حاسمًا ضد النظام وظل قبره مشهدًا من مشاهد الجهاد يؤرق الحاكمين، حتى سولت لهم نفوسهم الخائرة أن ينبشوا القبر و «ينفوا» رفاته إلى مكان مجهول. لكن صورة النورس ظلت تطاردهم فما توقفت المحاكم لحظة من قضايا «رسائل النور» حتى أنه لم توجد محكمة واحدة في تركيا لم تنظر فيها وكانت مئات القضايا تنظر في وقت واحد في كل أنحاء تركيا.
تلك سيرة بطل من أبطال الإسلام عاش في القرن العشرين وهي «كغيرها من بطولات الحركة الإسلامية الجديدة» تظل شاهدًا على روعة الدين الإسلامي وعطائه الفياض.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل