; المدرس الذي حول القلم إلى بندقية | مجلة المجتمع

العنوان المدرس الذي حول القلم إلى بندقية

الكاتب جمال النهري

تاريخ النشر الثلاثاء 22-سبتمبر-1970

مشاهدات 12

نشر في العدد 28

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 22-سبتمبر-1970

المدرس الذي حول القلم إلى بندقية

تحقيق: جمال النهري

ثار التراب من الحفرة البسيطة التي كانت ساكنة قبل ساعات، كنا قد أودعنا جثمان الشهيد الطاهر: صلاح حسن في أرض الكويت. حكم الصمت المكان فلم نسمع سوى صوت المعاول وهو يهيل التراب.

تابعت العيون النعش الذي حمل الشهيد من أرض فلسطين وهو يفتح، وجثمان الشهيد يخرج منه. فتتسابق الأيدي لحمله بالرقة والحنان الذي نتلقف بهما مولودًا جديدًا. أهو موت أم ميلاد ما أراه؟ ما الذي يدفن في هذا القبر حقًا؟ سددت النظر في هذه الوجوه التي رحبت بالتراب ينتثر على صفحتها، فلم تضق به كأنما تتبارك بموقع الشهيد، أو تتذكر تراب معركته.

• «قطرة دم، قطرة عرق، قطرة حبر«هكذا قال ممثل الفهود السود في اجتماع منظمة التحرير الفلسطينية. ورد ياسر عرفات: «بل قطرات من الدم، وقطرات من العرق، وقطرة حبر» وسال الدم غزيرًا من «صلاح»، فماذا كتب على الأرض؟ وماذا كتب في السماء؟ وكيف تساقط في عيوننا وحلوقنا وقلوبنا؟ وعدت للوجوه التي تجمعت في مقبرة الكويت، خلفي كانت قبور شهداء لواء اليرموك ما زالت جديدة، وعلى كل شاهد اسم الجندي الكويتي الذي قتل على مبعدة آلاف الكيلو مترات من بلده! كويتي يقتل على ضفاف القنال، ومصري مغترب لم تطأ قدمه أرض بلاده منذ ستة عشر عامًا يقتل في فلسطين على مشارف «کفار روبين» ومتى؟ في أغسطس ۱۹٧٠.

وفي نفس المعركة يستشهد «محمود سعيد البرقاوي» من فلسطين، وزهير سعدو من حماة من سوريا. ماذا يجمع هؤلاء؟ هل هناك شيء سوى الخيوط الإلهية في نسيج الشهادة الخالد؟! فسبحانك يا من جمعت في الحلقات الطاهرة صلاح حسن، وهاني بسيسو، وسيد قطب، والبرقاوي، والقسام، وزهير سعدو! يتقارب التاريخ ويتباعد، وتنفصل الأرض وتتصل، والمظلة الإسلامية تتسع لعالم سوف يبعث حتمًا.

وفوق كثيب من الرمال المطلة على المقبرة وقف «عمرو صلاح حسن» «12 سنة» تتساقط دموعه، فتباركها الرمال، وتنبت شجرًا لا يموت، كانوا يودعون جثمان الشهيد، وتنحفر الذاكرة بالنار لمشهد لا ينسى العمر كله.

وتصفحت الوجوه، فلم يفلت من الذاكرة وجه مررت به، فقد كان لكل وجه تساؤل ونحن حول قبر الشهيد، كان كل وجه يخفي حوارًا متعمقًا يضرب بجذوره لكل قلب حوارًا سريًا مكاشفةً. فها نحن جميعًا أمام القبر، باب مفتوح للآخرة، هناك أدمنا النظر، فرأينا يقينًا؛ ولذا تزاحمنا وألقينا بالنظرات العميقة هناك.

• ها هو «مدرس» من بيننا يترك الكتاب والتلاميذ ويتحول لموقف، يتسع الفصل ونصبح جميعًا تلاميذ! ويشرح المدرس ليس على السبورة، ولكن على الأرض الإسلامية، ويكتب الكلمات بالدم، وليس بالطباشير.

مدرس يتحول إلى موقف لقد امتلكت الكلمة الفاعلة، فتحولت إلى رصاصة بمسار محدد لقلب كل مغتصب ومتهادن.

«صلاح» منذ أسابيع قليلة جلس معنا وتحدث وأفضى بآماله، إنسان في أرض بعقيدة هذا هو.

ماذا كان يقبل؟ ماذا يرفض؟

وهل هو ظاهرة غير قابلة للتكرار؟ أم هو ترسيب تربية معينة؟

أهو تلميذ حسن البنا حديثًا؟ أم هو «مولود العناء» لحركة إسلامية باطنية هائلة وخبيئة، كما ظل البترول خبيئًا في أرضنا آلاف السنين.

أهو نتاج عضوي لابن باديس في الجزائر، والمهدي في السودان، ومحمد بن عبد الوهاب في الحجاز، والأفغاني الثائر؟

أهو المقابل التاريخي الذي سيقهر كل هزيمة؟

أحقًا تقتله رصاصة أم توقظه؟ أهو الرصاص له الفضل يحول أمواتنا إلى أحياء؟ حتمًا سنموت، بالكوليرا سنموت، بحادثة سيارة، قطار، على الفراش سنموت، ولكن أن نختار الطريق الذي يؤدي بنا إلى حياة عريضة أمر مختلف.

والشمس تميل للمغيب، والذين رافقوا الشهيد ليودعوه ها هم يذهبون، يعودون لمنازلهم وأعمالهم.

• نخرج للمدينة رويدًا رويدًا، تقطر المدينة من قطرانها على النسيج النظيف الذي ارتديناه في أعماقنا في المقبرة، ها هي الأغاني المترنحة ترسم ظلًا مهزومًا في الأذن، والصورة في التليفزيون تجهض الآمال الطيبة في نفوسنا.

بعد قليل، دخل كل منا علبة من الألومونيوم لامعة متباينة الحجوم والألوان، وأدرنا المفاتيح.. إلى أين؟

ومن نحن؟

وماذا نريد؟

وقال عبد الله كلمة، وقال علي الحسن كلمة، وقال عبد الرحمن كلمة، وتحدث محمود شقيق الشهيد، ووزنت كل كلمة وبحثت عن أثرها في هذه الوجوه التي تجمعت حول الشهيد.

وفي أيام الصليبيين خرجت أوروبا يباركها البابا، خرج الأمراء والزعماء في أوروبا يقاتلون ليأخذوا بيت المقدس من أيدي المسلمين الذين ما ظلموا ولا طغوا فيها.

وأنا أنظر لقبر الشهيد تمنيت أن يخرج أحد حكامنا؛ ليقود منظمة ويشترك في معركة، يخرج ممثلًا لروح الرفض الباطنية في عالمنا، الروح التي ترفض الخضوع والإذلال.

من البنادق المحشوة بالعقيدة والرصاص سيخرج جيل من الزعامات الجديدة.

سید قطب يقود القطار لمحطة عمان:

وانطلق القطار، وعند محطة عمان هدأ من سرعته وتوقف.

قطار خاص محمل بمؤونة من الروح الباطنية للعالم الإسلامي، أما قائد القطار فكان سيد قطب، وفي الداخل كان صلاح حسن، وفي إحدى العربات رأى الشهيد شقيقه محمود متعلقًا بها!

كانت هذه الرؤيا التي رآها الشهيد في شهر مايو الماضي، ووقف عبد الله عقيل يحكيها مستندًا إلى سيارة مستشفى الصباح التي حملت جثمان الشهيد إلى مقبرة الكويت.

مدرس يتحول إلى مقاتل
 لم تكن الرؤي التي رآها الشهيد إلا ترجمة لأعماق قلبه. لقد كان الشهيد سيد قطب يمثل في نفسه حركة المد الإسلامي في موجات متلاطمة من الشباب الغاضب لحرمات الله تنتهك في أرض الإسلام.

فترك التدريس حيث كان يعمل أستاذًا للتربية البدنية بمدرسة الشويخ ينشئ الشباب على الإسلام فتوة وخلقًا، ويربط أمانيهم بالاستشهاد، ترك مجال التربية وانخرط في العمل المباشر متفرغًا له منذ سنوات، فتحول من تلقين المُثل نظريًا إلى مثل عملي لما حدث به تلامذته.

أحدث الأسلحة

• وفي الفترة الأخيرة انغمس في تدريب المجاهدين بكل جهده على أحدث ما وصلهم من الأسلحة الحديثة، مرسيًا قواعد التدريب على أعمق الأسس العلمية والروحية؛ فنظم الدورات المتتابعة، وأجرى التدريب في مواقع تشابه تمامًا تلك المواقع التي ستجري على أرضها العمليات.

هكذا تحدث صلاح حسن.

وخلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت المعركة التي استشهد فيها «صلاح» حرص على أن يقرن المجاهدين كل حركة وسكنة ووثبة وضجعة وصيحة وصمت بمعنى التعبد لله، وألا يرمي أحدهم حين يرمي إلا وهو يتلو قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ (الأنفال: ١٧).

تُرَى هل كان يشعر أن عملية «كفار روبين» هي السلم الذي سيصعد إليه إلى ظل العرش؟
 روى لي «. . . .» أنه كان طوال الفترة الأخيرة لا تغادر فمه الابتسامة، مشرق الوجه للجميع بشوشًا رغم ضغوط العمل المتدافعة. فهل كان يتنسم ريح الجنة؟

• ألح عليه أبناء الأبطال من الأشبال أن يأخذهم معه إلى قواعد الفدائيين الكبار إذا ما نجحوا في المدرسة وتفوقوا فيها، ولما تحقق ذلك بر الشهيد بوعده وأخذهم إلى القواعد، وكان يلقاهم يوميًا ليسألهم: «ماذا استفدتم اليوم؟»

فيجيب الشبل: فعلت كذا، وكذا، وشاركت في هذا العمل أو ذاك.

فيقول: «لا بد أن تزيد ما تعرفه كل يوم عن الآخر؛ حتى تستطيع أن تحل محلي عندما أفوز بالشهادة».

ثم يذكرهم ومن حوله بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي یا بن آدم: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة» صدق رسول الله.

 • الفائز من يقاتل

وتسابق المجاهدون كعادتهم حين يتقرر الاشتراك في المعركة، وكان من حق الأسبق والأقدم ألا يُرَدُّ طلبه، وذهب أهل الفضل إلى المعركة، وظل الباقون في الانتظار، وصدق الله العظيم: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً (الأحزاب: 23)

 ولكن هل كان اتساع الأرض السليبة يوقف التقدم الفدائي؟

يوقف النبض الإسلامي؟
 هل ستوقف الأوامر الإلهية بالجهاد؟ ومن ذا الذي سيوقفها؟ من ذا سيقف في وجه الآيات تتحدر أنهرًا جائحة من كتاب الله الكريم؟

من ذا سيقف في وجه فرسان الله يخرجون من بين صفحات القرآن طاهرين  مطهرين؟

يحتمون ظهور البعث الإسلامي في أقسى فترات تاريخ العالم الإسلامي. هؤلاء الفرسان هل يخرج ما يصيبهم عن إحدى اثنتين:

الشهادة

أو النصر؟؟

انطلق الهجوم بعدة شعب إلى «كفار روبين» «والزراعة»، وانطلقت الصواريخ في الشمال تصلي «بيسان» وجنوب «وادي اليابس»، وعلى معزوفة العقيدة والأرض والرصاص تصاعد الشهداء إلى السماء.

وتعبر النهر ثلة من المقاتلين على رأسهم الشهيد: صلاح حسن عائدة إلى قواعدها بعد أن أنجزت مهمتها، وتنطلق كيلومترات شرقًا بعد عبور النهر، ولكن كان ثمة كمين للعدو اليهودي تربض في الأرض المباحة التي انسحبت منها الجيوش العربية وتركتها للذئاب تعبث فيها، وعلى مبعدة أمتار فتحوا عليهم النيران، كانت فصيلتان من اليهود مسلحة بالهاون والرشاشات والأنرجا والقنابل الضوئية والحارقة.

وخر أبو جندل شهيدًا، وأصيب «أبو عمرو» و «شرحبيل»، ولكنهم يتنقلون من مكمن إلى مكمن، بينما يصلون العدو بنيرانهم.

ويجتمع الجريحان يساند كل منهما الآخر مبقين على الطلقات الأخيرة في صمت، ويظن العدو أنه قد قضى على المجاهدين، ويخرج من الكمين ويبدأ في حمل جرحاه وقتلاه إلى الضفة الغربية، وساروا المسافة التي استطاع الشهيدان أن يزحفاها بعد إصابتهما، وإذا بالجريحين الشهيدين يطلقان النار على العدو اليهودي، وإذا بالكمين يسقط في كمين، ويظل البطلان يطلقان النار حتى تصعد روحهما إلى السماء.

ويعترف العدو الإسرائيلي بسقوط قتيل وإصابة ثمانية في هذا الجزء من المعركة، وتشير المخلفات اليهودية وآثار الخطاطيف أن الخسائر اليهودية كانت أكثر مما ذكر في البلاغ.

سحب الشهداء من أرض المعركة

وتهتز الأغوار وترعد لأصوات الأسلحة المختلفة.

اليهود يعبرون النهر، المجاهدون يعودون إلى قواعدهم، وما زال الظلام تتلفع به الكائنات، وتنكشف قليلًا بفعل الطلقات الكاشفة ثم تتوارى مرة أخرى، وتتحرك الشمس، فيخرج طيران العدو ليصلي المنطقة كلها بنيرانه، وتتواصل مدافع الهاون والـ ٥٠٠ والدبابات كأن العدو يعلم أن إخوان الشهداء سيقومون بسحبهم من أرض المعركة، وكان هذا التحدي؛ ولذا يستمر القصف طوال النهار، ثم يسدد العدو كشافاته للمنطقة التي سقط فيها الشهداء، ويهاجمون الطرقات المؤدية للمنطقة لمنع النجدة والانسحاب، ولكن هل ينجحون؟ أبدًا!

إن النجدات تتدفق، وينسحب الأبطال بحسب الخطة الموضوعة ومعهم الشهداء، ومع المواجهة بالعقيدة والمدفع تتمزق أسطورة المقاتل اليهودي، التي يريدون بها إذلال الشعب الإسلامي الذي لم تواته فرصة حقيقية للقتال.

يعود الأبطال؛ لينسجوا بالدم والرصاص رداءً كريمًا للشعب المسلم وللأرض الإسلامية.

هل ستذبل هذه الورود؟ سألني أحد الأشبال ونحن نودع جثمان الشهيد في المقبرة ونضع فوقه الأزهار.

قلت له: إن شجرة العقيدة تنبت أزهارًا لا تذبل أبدًا، ذلك أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، ويومًا سوف تظلل هذه الشجرة كل حدودنا وأطفالنا وثرواتنا، ويتحقق الحلم الذي يخفق في أعمق أعماق ستمائة مليون مسلم في العالم كله.

 

جمال النهري

الرابط المختصر :