العنوان الفساد في جهاز الشرطة.. خلاصة الخبرة العالمية (3من 3).. الآثار الاجتماعية والنفسية على الضحايا والمجتمع.. وكيفية الحد من الظاهرة
الكاتب د. محمد إبراهيم خضر
تاريخ النشر السبت 26-فبراير-2011
مشاهدات 14
نشر في العدد 1941
نشر في الصفحة 56
السبت 26-فبراير-2011
● حينما تفقد الجماهير ثقتها في الشرطة وتنتشر الشائعات حول فساد رجالها ينتاب المواطنين الخوفُ والإحساسُ بعدم الأمان.
● وقد تتأثر الثقة حتى
في الضباط الشرفاء فيتوقع الناس أن المذنب يمكن إطلاق سراحه حتى بعد محاكمته.
● مجرد تقاعس أحد رجال
الشرطة عن إنفاذ القانون يُسيء إلى سمعة الجهاز كله ويُفقد الناس ثقتهم بجميع
أفراده.
● الوحشية البوليسية
موجودة في مختلف دول العالم وهي واحدة من أنواع عدة من سوء السلوك الشُّرطي.
● ومنها: القمع
السياسي وإساءة استعمال المراقبة والاعتقال بدون سبب والتعذيب والتطهير العرقي
والاعتداء الجنسي.
● لابد من دعم رجال
الشرطة الشرفاء بصفة مستمرة وتشجيعهم على مواجهة الفاسدين من زملائهم.
● العناية بتدعيم
الأخلاقيات في جهاز الشرطة في كل مجالات التدريب.. أحد أهم وسائل مكافحة ظاهرة
الفساد.
د. أحمد إبراهيم خضر
يُعَدُّ تعرّض المعتقلين والمحتجزين لمختلف صور
الوحشية والتعذيب من أبرز صور الفساد الشُّرطي، وقد تناول العديد من الدراسات هذه
الصورة، ومن أبرز من كتبوا في هذا المجال الصحفي والمستشار النفسي النيجيري «لو
ميفور»، الذي يرى أن «الوحشية البوليسية موجودة في مختلف دول العالم، وهي واحدة من
أنواع عدة من سوء السلوك الشُّرطي، ومنها: الاعتقال بدون سبب، والتعذيب، والتخويف،
والتطهير العرقي، والقمع السياسي، وإساءة استعمال الرقابة الشُّرطية، والاعتداء
الجنسي...إلخ .
ويقول «لو ميفور» في مقال له بعنوان «الآثار
النفسية والاجتماعية للتعامل الوحشي والتعذيب البوليسي في نيجيريا» إن الوحشية
البوليسية هي الاستخدام العمدي للقوة المفرطة التي ع ادة ما تكون جسدية، وتتضمن
أشكالًا م ن العدوان الشفهي والنفسي من قِبَل رجل شرطة، أو ضابط سجون، وقد يكون
الاعتداء كمبادأة من رجل الشرطة، أو بناء على أوامر صادرة إليه من قِبَل ضابطه
الأعلى استجابة لتعليمات حكومية أو إدارية .
آثار الفساد
أما عن أهم الآثار التي تترتب على فساد جهاز
الشرطة، فيمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
أولًا: فقد الشعب ثقته ف ي جهاز الشرطة:
إن أي فعل فاسد وإن صَغُر، ومجرد تقاعس أحد رجال
الشرطة عن إنفاذ القانون أو دخوله في أنشطة غير مناسبة يسيء إلى سمعة الجهاز كله،
ويُفقد الناس ثقتهم واحت رام ه م لأفراده، ويشكون في أمانتهم وعدالتهم، ويرون أن
رجال الشرطة يمكنهم فعل أي شيء طالما أن هناك أموالًا تُدفع لهم، والسلطة في
أيديهم.
ثانيًا: الخوف من رجال الشرطة:
حينما تفقد الجماهير ثقتها في رجل الشرطة، وتنتشر
الشائعات حول فساد رجالها؛ ينتاب الجماهيرَ الخوفُ منهم والإحساسُ بعدم الأمان.
ثالثًا: فقد الثقة في القانون:
يرى بعض الناس أن فساد جهاز الشرطة يُفقد الناس
الثقة في القانون؛ لأنه إذا لم يخضع رجل الشرطة للقانون؛ فلماذا يطيعه الأفراد؟ ذل
ك لأن القائمين على تنفيذ القانون قد يكونون عملاء لمجرمين أكثر منهم ممثلين لسلطة
تردع هؤلاء المجرمين، كما يؤدي انتشار الفساد في جهاز الشرطة إل ى فقْد الثقة في
مصداقية رجاله أمام المحاكم، وهذا من شأنه أن يدمر نظام العدالة الجنائي، وقد
تتأثر ثقة الناس حتى في الضباط الشرفاء، فلا يثقون في شهاداتهم أمام القضاء،
ويتوقعون دائمًا أن المذنب يمكن أن يُطلق سراحه حتى بعد محاكمته.
رابعًا: تبنّي العقلية الثنائية «نحن وهم»:
أشارت بعض الدراسات إلى أن هناك أثرًا خطيرًا
للفساد الشُّرطي، يجد ترجمته في علاقة المواطنين برجال الشرطة، حيث يؤدي إلى فساد
إدراك رجل الشرطة لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة.. خلاصة هذه الدراسات أنه «مع
بداية التحاق الطلاب بجهاز الشرطة، يبدأ نوع جديد في علاقتهم مع المجتمع في
الظهور، إنه العقلية الثنائية «نحن» أي رجال الشرطة، و «هم» أي الجماهير» .
تنمو هذه العقلية مع الضباط الجُدد أو العاملين
الجُدد بالتدريج، وتغذيها سرية الأعمال التي يقومون بها، والضغوط والأخطار التي
يتعرضون لها، وكل هذا يؤدي إلى نشأة ثقافة متماسكة منعزلة بين رجال الشرطة،
يميّزون فيها أنفسهم عن المجتمع المحيط بهم تمييزًا شديدًا، وتتطور هذه العقلية
إلى الحد الذي ينظر فيها رجال الشرطة إلى المواطنين على أنهم مصدر متاعب، أو أنهم
«أعداء» فيعزلون أنفسهم عن باقي المجتمع.
ويتعمق هذا الإدراك بوجود إدراك مقابل من الجمهور
ضد رجال الشرطة، وبمرور الوقت وفي كل وقت يشعر فيه رجل الشرطة بعداء المواطن له،
تقوى علاقته ورابطته ببيئة العمل التي تحيط به، وتضعف بالتالي علاقته مع المواطنين
ثم بالمجتمع ككل.. والفساد هنا قد يكون سببًا أو نتيجة لفصل الشرطة عن المجتمع،
فانعزال الشرطة عن المجتمع يؤدي إلى انحراف قيم رجالها عن قيم المجتمع الكبير.
خامسًا: انتشار ثقافة الفساد وضعف معنويات رجال
الشرطة الشرفاء: ركزت بعض الدراسات على الآثار المحدودة للأفعال الفاسدة من قِبَل رجال
الشرطة، على اعتبار أنها أفعال لا تسبّب إيذاء مباشرًا للناس، وانتهت هذه الدراسات
إلى القول: إن «من أهم آثار الفساد لمثل هذه الأفعال هو انتشار ثقافة الفساد التي
تحث على مزيد من الأفعال الفاسدة مستقبلًا، وتحطيم معنويات رجال الشرطة المخلصين
في أداء أعمالهم، واقتناعهم بأن القانون يُطبَّق على بعضهم دون البعض الآخر، كما
يزيد من احتمالات عقلنة أو تبرير السلوكيات الفاسدة» .
والواقع أن آثار الفساد السلبية قد تمتد بالفعل إلى
رجال الشرطة الشرفاء الذين يحاولون أداء ما هو مطلوب منهم بكفاءة وفاعلية، فهذا
الفساد يدمر معنوياتهم، فهم يبذلون أقصى طاقاتهم للقبض على المجرمين المطلوبين
للعدالة، ثم يفاجَؤون بأن بعضًا من الضباط الفاسدين أتاحوا أمام هؤلاء المجرمين
فرصة للهرب مقابل مبالغ مالية كبيرة، وهذا الفساد من شأنه أن يضغط على الضباط
الشرفاء ليتبنوا موقفًا غير أمين تحت شعار: «إذا لم تتمكن من التغلب عليهم فالحق
بهم».
من هنا تبرز أهمية العناية برجال الشرطة الشرفاء،
فهم من أقوى العوامل في محاربة الفساد في الجهاز الشُّرطي، إنهم يشهدون بأنفسهم
مظاهر الفساد، ويلمسون الآثار المدمرة لهذا الفساد، ويتوافر لديهم الدافع للإبلاغ
عما يشاهدونه.. ولابد من دعم هؤلاء الرجال بصفة مستمرة وتشجيعهم على مواجهة
الفاسدين من زملائهم.
سادسًا: التأثيرات النفسية والاجتماعية للفساد الشُّرطي
على الضحايا والمجتمع:
يركز باحثون آخرون على نقطة مهمة أغفلها العديد من
الدراسات التي تتناول ظاهرة الفساد الشُّرطي، وهي أنها لم تُلقِ الضوء على الآثار
الاجتماعية والنفسية التي يتركها هذا الفساد على الضحايا والمجتمع.
ويرتبط التعذيب النفسي ارتباطًا شديدًا بالتعذيب
البدني، ولكنه أقل ظهورًا، ولا يلتفت إليه الكثيرون من الناس لدقته وسهولة إخفائه،
وعدم ظهوره.
والفروق بين التعذيب البدني والتعذيب النفسي غير
واضحة تمامًا، فالتعذيب البدني هو استخدام وسائل من شأنها أن تسبب ألمًا ومعاناة
حادة على جسد الشخص، وذلك بالتحكم في احتياجاته، كالنوم والغذاء والإخراج، وذلك
على النقيض من التعذيب النفسي الذي يوجَّه مباشرة إلى النفس، وهو أطول أمدًا في
تأثيره.
يصيب التعذيب النفسي الأف راد الذين يتعرضون
للتعذيب بضغوط ما يعرف ب «اضطراب ما بعد الصدمة 1» ، بالإضافة إلى تغذية الشعور
بالكراهية، والغضب، و «الإرهاب »، والإحساس بالعار، والشعور بعقدة الذنب.
ويوجَّه التعذيب النفسي أساسًا إلى تدمير البناء
النفسي والعقدي للشخص، والتأثير على سلامته العقلية، وذل ك عبر عدة مناهج محددة،
منها تحطيم العمليات الإدراكية للشخص بحيث يكون غير قادر على أن يحتفظ بالإحساس
المعتاد لحدود شخصيته، واستقلاليته كإنسان، ويكون غير قادر على التفرقة بين
الأصدقاء والأعداء، أو بين الحب والكراهية.
يؤثر التعذيب على الضحايا اجتماعيًّا بدرجة كبيرة،
حيث يحطم فيهم الإحساس بالأمن والعدالة، والاتصال الجيد بالآخرين، ويُفقد الشخص
علاقته بالواقع، وكذلك إحساسه بأسرته وممتلكاته وأحبائه وأصدقائه، ويجعله شخصًا
مغتربًا غير قادر على الاتصال بالآخرين أو التعاطف معهم.
ولا يتوقف تأثير التعذيب على الفترة التي تعرض فيها
لهذا التعذيب، لكنه يمتد حتى فترة ما بعد إطلاق سراحه، حيث يعيش في حالة يسيطر
عليه فيها الإحساس بالعجز والوهن، وفقد القدرة على ضبط النفس، ونقصان الانتباه،
والأرق...إلخ.
علاج ظاهرة الفساد
صممت «سنغافورة» برنامجًا لاستئصال الفساد، فقامت
بوضع مجموعة من المقاييس للتطبيق على جميع وحدات الشرطة، أهمها ما يلي:
- تطوير
مناهج عمل محسنة.
- زيادة
قدرة وفاعلية ال رؤس اء على محاسبة مرؤوسيهم حتى يكون الضابط الأعلى قادرًا على
مراجعة ورقابة عمل الأفراد الذين يعملون تحت إمرته.
- تناوب الضباط العاملين في الوحدات، بحيث لا يعملون
في مكان واحد لمدة طويلة.
- القيام بتفتيش مفاجئ
على وحدات الضباط ومراجعة أعمالهم.
- منع الأشخاص غير العاملين وغير المتعاملين مع وحدات
الشرطة من دخولها.
- إعادة
النظر في مقاييس مكافحة الفساد كل ثلاث أو خمس سنوات، بهدف تقويم هذه المقاييس
وتحسينها.
ويضيف الخبراء عدة وسائل أخرى لعلاج الفساد
الشُّرطي، نذكر منها الآتي:
- وضع
إستراتيجيات متنوعة لإصلاح الجهاز الشُّرطي على امتداد فترات زمنية محددة.
- تحسين ظ روف بيئة
العمل، وتنظيم ساعاته بحيث لا يعمل رجل الشرطة عدة ساعات متواصلة تشكل جهدًا شديدًا
عليه.
- إمداد رجال الشرطة
بالوسائل المدعمة لهم بحيث لا يضعفون أمام محاولات المغريات؛ كزيادة رواتبهم،
وحماية عائلاتهم، وتأمين وظائفهم، ومختلف أشكال الدعم الاجتماعي الأخرى.
- يجب أن
يكون المديرون قادرين على حماية أفرادهم الشرفاء حتى لا يتعرضوا لألذى في حال
إبلاغهم عن حالات فساد شهدوها.
- الاهتمام بالتعليم
والتدريب المستمر والمحاسبة والإشراف في مختلف مراحل عمل رجل الشرطة وخاصة في
السنوات الأولى من سياقه المهني، ويجب أن يتضمن هذا التعليم والتدريب برامج تتناول
خطورة الفساد.
- العناية بتدعيم الأخلاقيات في جهاز الشرطة واحدة من
أهم وسائل مكافحة ظاهرة الفساد، يقول «دان لوري» مسؤول التدريب في الشرطة الكندية:
إن «التدريب الأخلاقي يُعَدُّ أحد أركان إستراتيجية التعامل مع ظاهرة الفساد
الشرطي، وهناك حاجة ماسة إلى زرع الأخلاقيات في كل جوانب التدريب أكثر من الحاجة
إلى تلقين رجال الشرطة محاضرات في الأخلاق» .
وسائل محاربة الفساد
وقد اهتم مؤتمر «سكزجنو» الذي أشرنا إليه سابقًا،
بالكشف عن آثار الفساد، وجاء في تقريره الآتي:
يؤدي الفساد في الدول النامية والحديثة العهد
بالديمقراطية إلى التقليل من إمكانات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإمكانية
التخفيف من حدة الفقر، وإلى تدمير النسيج الاجتماعي الثقافي، وإلى ضعف البنية
التحتية من صحة وإسكان وغير ذلك، وإلى ع دم الاستقرار الاجتماعي، وع دم سيادة
القانون، وانعدام الأمن، وإلى إيجاد بيئة فاسدة سياسيًّا، وإلى الاستخدام غير
الفعال للمصادر المتوافرة، بما فيها المنح المقدَّمة من ال دول المتقدمة، وإلى
إحجام إسهامات المستثمرين الأجانب في المشروعات الوطنية، وإلى انعدام الثقة بين
الشرطة والشعب .
أما عن الوسائل التي اقترحها المؤتمر المذكور
لمحاربة الفساد الشُّرطي، فقد كانت على النحو التالي:
- وضع تشريعات جديدة
تصف وتحدد الأفعال غير المناسبة «السياسية والشُّرطية» وتطوير هيئة مراقبة لتحديد
وضبط من يرتكبون أفعالًا فاسدة.
- تطوير
مقاييس دقيقة ومناهج لاكتشاف الفساد، وعقد مقارنات بين جهود الدول المختلفة والعمل
على تبادل المعلومات بين هذه الدول في
هذا المجال.
- تطوير
اتفاقيات دول ي ة للتعامل مع الجرائم المنظمة والجرائم الأخرى، حتى لا يجد
المجرمون سماء آمنة لأنشطتهم الفاسدة.
- التشديد
على وضع العقوبات الحاسمة على الفاسدين في جهاز الشرطة.
- عدم
استمرار العاملين في بعض الإدارات الحساسة؛ كالجمارك ومكافحة المخدرات وغيرها،
لفترة طويلة.
- اضطلاع
الإعلام بدور مهم في الإعلان عن مظاهر الفساد، وكشف وتعرية الرموز الفاسدة، مع
العمل على نشر تكاليف الفساد وآثاره السلبية على البلاد.
- مد الدول
النامية بالمساعدات التي تساعدها على الحصول على الخبرات الفنية اللازمة لتحديد
وضبط الفساد.
- تجنيد المواطنين
العاديين وتدريبهم للمساعدة في أنشطة مكافحة الفساد.
تصوّر إسلامي
وضع الباحثون الإسلاميون خمس قواعد تتعرض لأسباب
ومنهج علاج ظاهرة الفساد بصفة عامة، ومنها الفساد الشُّرطي، وهي على النحو التالي:
أولًا: إن المشكلة ليست في أن جهازًا من أجهزة
الدولة قد فسد لفساد أخلاقيات أفراده، وإن إصلاح ه ذه الأخلاقيات هو السبيل لعلاج الفساد بداخله، إنما المشكلة هي مشكلة مجتمع ق د ف س د،
ففسدت بالتالي كل أجهزته.
ثانيًا: إن الفاسد رجل اختل ميزان الإخلاص والتجرّد
في نفسه، ومتى اختل هذا الميزان اختلت القيم عنده، ولا يشعر بفساد عمله، لأن ميزان
الخير والشر والصلاح والفساد يتأرجح بين أهوائه الذاتية، ولا يستند إلى قاعدة ربانية..
وهذا يعني أن كل صلة بين هذا الفاسد وبين الله مقطوعة، وكل ما أمر الله به أن يوصل
مقطوع؛ لأن فطرته المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة، ومن ثم لا تتورع
عن فساد.
ثالثًا: إن الفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها
من عدم الانصياع لكلمة الله، ونقض عهده، ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهج
الله الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها، وهذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى
الفساد حتمًا.
رابعًا: إن الدعوة إلى إصلاح أخلاقيات رجال الشرطة
وغيرهم من العاملين في أجهزة الدولة يجب ألا تشغل المرتبة الأولى، إنما يجب أن
يبدأ الإصلاح من الأساس، وينبت من الجذور، وأن يتركز الجهد أصلًا على إقامة مجتمع
صالح يقوم على دين الله، بدلًا من التركيز على إصلاحات جزئية.
ونخلص من كل ذلك إلى إقرار حقيقتيْن مهمتيْن:
أولاهما: أن التصدي لحل مشكلة الفساد في الجهاز
الشُّرطي وغيره من الأجهزة لن يجدي نفعًا، فلا جدوى أصلًا من الإصلاحات الجزئية،
وإنما يجب أن يبدأ الإصلاح بإعادة إدخال الناس في الدين أولًا، ثم تقرير سلطة هذا
الدين في المجتمع؛ فالناس لا يستجيبون لعقيدة ضائعة لأنها لا سلطة تحميها، وحين
تستقر هذه السلطة يصبح إصلاح أجهزة ال دولة مرتكزًا إلى أساس، أي أنه لا جدوى من
ضياع الجهد في مقاومة المنكرات الجزئية في قطاع ما والمنكر الأصلي باقٍ، وهو منكر
الجرأة على الله، وانتهاك محارمه، وتطبيق شريعة غير شريعته.
وثانيتهما: أن الله تعالى أعلم بعباده، وأعرف
بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي، فالقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه،
ليكون له في القلوب وزنه وأثره، ومخافته، ومهابته، وقد علم - سبحانه - أنه لا
يُطاع أبدًا شرعٌ لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها
مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب، وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت
تأثير الرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما
غفلت الرقابة عنهم، وكلما واتتهم الحيلة، مع شعورهم دائمًا بالقهر والكبت والتهيؤ
للانقاض كلما سنحت لهم الفرصة.
الخلاصة من كل ما سبق، أن كل ما يمكن اتخاذه من
قواعد رقابية وعقابية لن يجدي نفعًا مع الفاسدين ما لم تكن هناك رقابة من التقوى
في الضمير لتنفيذ هذه القواعد، وأن هذه القواعد الرقابية لا بد أن تكون صادرة من
الجهة المطلعة على السرائر، والرقيبة على الضمائر..
عندئذ، عندما يشعر رجل الشرطة أو غيره، وهو يهمّ
بفعل من أفعال الفساد أو ينتهك حرمة القانون، أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم
إرادته، وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله، عندئذ يرتجف ويخاف، وتتحرك التقوى
بداخله.
------------------------------
الهامش
(1) اضطراب ما بعد
الصدمة PTSD مرض نفسي، ينتج عادة عن حالة من الرعب الشديد تصيب
الشخص الذي تعرّض لحدث أو خبرة مؤلمة تعرّضت فيها حياته للتهديد.. والذين يعانون
من هذا المرض يعيدون تذكر هذه الحدث أو هذه الخبرة بطريقة ما، ويحاولون تجنب
الأماكن، والناس، وكل ما يذكرهم بهذه الخبرة، كما يكونون دومًا شديدي الحساسية
لخبرات الحياة العادية.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل