; فخرج على قومه في زينته | مجلة المجتمع

العنوان فخرج على قومه في زينته

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 20-أكتوبر-1981

مشاهدات 14

نشر في العدد 547

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 20-أكتوبر-1981

سيظل القرآن أبد الدهر معين المعرفة الذي لا يخلق على كثرة الرد.. ولا تنقطع عجائبه عن دنيا الناس ونوازع البشر، حتى لتشرح آياته الأحداث الأخيرة التي جرت في مصر، ونوازع النفوس البشرية في آفاقها المختلفة علوًا وهبوطًا، وقربًا من الله وبعدًا عنه.. كل ذلك في جزالة وصدق لا يمكن أن يراها إلا من أمعن النظر في محكم كتابه جل وعلا.. مهما شفنا الحزن وآلمنا المصاب..

 وحتى هؤلاء الذين أدخلهم السادات في سجون مصر، وهؤلاء الذين يعيشون داخل السور الكبير الذي أحاط به شعبه بقوانینه الجديدة، التي أنشأت للديموقراطية أنيابًا وأظافر تهدد سائله بالضرب بالرصاص، ولو كان صحفيًا، حينما يسأله عن مدى ارتباط سياسته بأمريكا.

أقول..

 بالرغم من هذا كله فإن شعور من يعيشون في سجونهم الضيقة، أو هؤلاء الذين يعيشون في السجن المفتوح، قد غمرتهم فيوض الأسى والألم لهذا الحدث الضخم، الذي ذهب ضحيته من اعتقدت الأمة أنه رسول الحرية، وبشير أمن لشعب ظل نحوًا من عشر سنوات، يأمل في استرداد ما فقد في عهد عبد الناصر من ذاته وحريته وكرامته.

 ونظرة واحدة على شاشة «التلفاز» التي صورت حادث مصرع الرئيس السادات بين قواده وجنوده، وسط هيلمانه الذي رسمته طائراته في حفل السادس من أكتوبر وهي تئز في الجو، وهدير دباباته وعرباته المصفحة التي تعجز العين عن حصرها، لا يستطيع من رأها إلا أن يشهد حشدًا من العبر لا تدمع لها العين فحسب، وإنما يذوب لها القلب حسرة ويتفطر لهولها من اقترنت في قلبه آيات الله المشهودة على مسرح الأحداث، بآياته المتلوة في كتابه العزيز. 

 وأول ما يريده المشاهد هو السؤال عن هؤلاء الذين كانوا يهتفون للسادات، في رتم منغم يتسم بالغلو والحماس «بالروح بالدم.. نفديك يا سادات». 

تری أین ذهب كل أولئك الهتافون؟! 

 وهذا الحشد من الجنود والقادة من حوله.. لقد انفرط عقدهم عند أول بادرة من الخوف على حياتهم.. حتى لقد رأينا منصة العرض خالية تمامًا إلا من ثلاثة جنود يطلقون النار من مدافعهم الرشاشة على النظارة، بينما المقاعد كلها خالية.

 أين ذهب الصناديد الذين يفدون الرئيس؟ وأين ذهب حرسه الموكول بالحفاظ عليه؟!

 بل كنت تسمع بعد انقطاع أزيز الرصاص وقيام الراقدين على الأرض، من يسأل «فين الريس؟!».  فهل هناك من كان يجهل موضعه على كرسيه من المنصة، وبزته المزينة بالنياشين وسط هذا البناء الفخم المقام لأمثال هذا العرض المهيب؟!  ولكنها صيحات النفاق التي ظنها السادات طرفًا من أمجاده، وصورة تعكس مدى حب من حوله له..

 وأثبت الواقع أن جميع من حوله لم يصمد أحد منهم أمام قهر الخوف على حياته.. وإذن فلم يكن هذا الهتاف المزيف سوى صورة تعكس حقيقة إخلاص من حوله للنظام كله.. الذي تلاشى في لحظة واحدة عند أول رصاصة أطلقت على الريس.

 ولا أحسب أن الرئيس السادات كان يعجز بشيء قليل من الفطنة ولين العريكة المشهود له بهما، أن يحول قلوب مواطنيه من الجنود الذين هاجموه، إلى قلوب تدافع عنه بنفس الجسارة والروح الفدائية التي دهمته بها.. إذا بذل من نفسه لدينه وأبناء وطنه القليل مما بذله لأمريكا وإسرائيل.. إذ لا يجهل أحد أن الإسلام قد بنى بالأمس في قلوب النساء ما عجزت عن بنائه اليوم أساليب الرياء والمداهنة في قلوب الرجال.

 وهذه «نسيبة» في واقعة أحد تجعل جسدها درعًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفديه بروحها وما ملكت من دنياها.. ولا أضرب المثل بالرجال.. ولكن.. خلاف هذا شهدناه في التلفاز.

وهذه هي العبرة الأولى التي كان يجب أن يبصرها السادات، بل وكل حاكم يزين له من حوله أنهم سدنة مخلصون لمن يطيح بحق الشعب في بناء حريته، بل ويوهمونه بأنهم يفدونه بالدم والمهج والأرواح.

 أما العبرة الثانية فتخلص إلينا من فهم الرئيس السادات، بل وبعض رؤساء الدول لمعنى الإخلاص لوطنهم.. فإن الإخلاص للوطن لا يمكن أن ينفك عن الإخلاص الله في أوامره ونظم شرعه وأحكام دينه.. فكلاهما وحدة لا تنفصم عراها إلا بانفصام الإخلاص كليةً عن قلب صاحبه..

 فكما أن هناك من الناس من يعتقد أن الصلاة تصح بحضور القلب فقط لا بحضور وقتها، ظانًا أنه بهذا الفهم يحقق لربه كمال الإخلاص، فلا يصلي إلا إذا كان قلبه حاضرًا، وأن فات وقت الصلاة.. فكذلك أدرك السادات أن الإخلاص لوطنه يعفيه من كافة الالتزامات التي تربطه بدينه.. ومن هنا قال قولته المشهورة «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين»!

 وأودع رجال المعارضة ورجال الدين السجون، لأنهم قالوا في اتفاقيته مع الصهاينة ما تمليه عليهم وطنيتهم النابعة من أصول دينهم وقواعده، واتهمهم بالمشاغبة ومحاولة الهدم، في نفس الوقت الذي حملت قلوبهم له أصدق النصح، ولوطنهم أخلص الوفاء، فلم يفتنهم الزهو، ولم يقعدهم الخوف من ضياع الدنيا التي حرص عليها أصحاب الشعارات الزائفة البعيدة عن المضمون.. إنما كان موقعهم من هذا الزيف هو موقع من أوتي صدق العلم، وخصه الله بعمق المعرفة، بسننه في الكون، وقضائه الحكيم في الأرض فيما حكاه رب العزة عنهم وعن أمثالهم من قوم قارون، حين قال في كتابه الكريم: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ {80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. (القصص: 79 - 83)

 إنها الحكمة الخالدة التي يصورها لنا الحق -تبارك وتعالى- في هذا المشهد من سحر الدنيا وفتنتها في أعين الناس، فيما يقرره كتابه العزيز من أنه لا دوام لها ولا خير فيها، ولا عاقبة ترجى من الحرص عليها، إذا نأت بصاحبها عن شرع الله.

 إنه مشهد أسيف حزين، قائم.. لكل من ابتغى دنياه بضياع آخرته.

 وهذا هو الشعور اللائق بصدق صاحبه الذي يجب أن يعمر قلوب الناس جميعًا في استرجاعهم لهذا الحدث الفاجع بمصرع رئيس مصر وحاكمها.. ومن هنا نسوق العبرة.  لا نسوقها فقط للمؤمنين، وإنما نسوقها للحاقدين والشامتين والفرحين، بل والحزانى لفقد عزيزهم، حتى يمكنهم تصحيح مشاعرهم وتصويب قبلتها إلى الله.. وإلى العمل النافع.  إن الشماتة ليست من سمة المؤمنين.. والحقد يدمر صاحبه..

 والحزن الذي لا يبني لا فائدة منه.. وإنما الذي يرجوه كل مصلح لهذا البلد أن يكون حزنه بناء، يدرك الحكمة من قضاء الله فيسعى إلى تحقيق المرجو منها.

وأخيرًا..

 ما نقوله اليوم لحكام مصر الجدد هو ما ساقه الحق -تبارك وتعالى- حكاية عن المؤمنين فيما قالوه لحكامهم من قبل في سورة القصص:

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: 76 - 77).

 ويقول الفقهاء إنه ليس هناك أخطر في فساد الناس والأرض من الحكم بغير شرع الله..

 ألا هل بلغت اللهم فاشهد..

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل