العنوان رسائل الإخاء.. غربة الإسلام بين أهله
الكاتب الشيخ نادر النوري
تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993
مشاهدات 18
نشر في العدد 1053
نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 15-يونيو-1993
إن غربة الإسلام في هذا الزمان وغربة المتمسكين به والقابضين على الجمر من أهله، أمر جلي واضح لكل ذي بصيرة، فقد تكالبت الأمم عليه كتكالب الأكلة على قصعتها، وتوالت كقطع الليل المظلم من الفتن حتى صار الرجل يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا، وعرضت ألوان الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فقلوب أشربت من هواها حتى غرقت وقلوب لم تضرها الفتن.
وبسطت الدنيا زينتها فتنافسها الناس فأهلكتهم، وصارت النساء الكاسيات العاريات أضر فتنة على الرجال بل صرن حبائل الشيطان.. وكثر الخبث حتى ضاقت به الأرض بما رحبت، أئمة لا يهتدون بهدي رسول الله ولا يستنون بسنته قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، وقبض العلم وظهر الجهل، وكثر الشح المطاع والهوى المتَّبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذهبت بركة الوقت وتقارب الزمان، وفاض المال وتطاول رعاء الشاة بالبنيان وكثر الهرج والقتل والحروب، وفشت التجارة بين الرجال والنساء وقُطعت الأرحام وظهرت شهادة الزور وكُتمت شهادة الحق، وظهرت الفاحشة في أقوام حتى نشأ فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم ومنع الناس زكاة أموالهم فمنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا وطففوا في المكيال والميزان فأخذوا بالسنين والجدب وشدة المؤنة وجور السلاطين عليهم ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله ولم يتخيروا ما أنزل الله حتى جعل الله بأس الحكام بينهم شديدًا، ونقضوا عهد الله وعهد رسوله فسلَّط الله عليهم شذاذ الآفاق وأعداء الملة فأخذوا خيراتهم وثرواتهم فأذلهم الله وتبايعوا بالعينة واستحوا الرِّبا وحاربوا الله ورسوله ورضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا بها وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد بسبب حب الدنيا وكراهية الموت.
سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويؤتمن الخائن ويخون الأمين وينطق الرويبضة
الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، وتلد الأمة ربتها.
وصار المغنم دولًا بين الأغنياء وأصحاب المناصب والوجاهات واستأثروا بحقوق الفقراء والأمانة مغنمًا كالأموال والوظائف العامة والزكاة مغرمًا وأطاع الرجل زوجته وعقَّ أمه وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم وتعلم لغير الدين وساد القبيلة فاسقهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور وسُميَّت بغير اسمها واتخذت القينات المغنيات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها وقبضت الأمانة من القلوب حتى لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، وتدخل المساجد فلا ترى فيها رجلًا خاشعًا إلا من رحم الله ويدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري من أحكام الصيام والصلاة والنسك والصدقة شيئًا، وبقيت حثالة الناس مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا.
ولا يدري القاتل والمقتول لم تقاتلا وهم يهلك بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا والدم يسفك بغير حقه.
واللسان كوقع السيف وأسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع والصابر على دينه كالقابض على الجمر.
ويظهر القول ويخزن العمل وتأتلف الألسن وتختلف القلوب ويقطع كل ذي رحم رحمه وتكثر إضاعة الصلاة واتباع الشهوات وتنقض عُرى الإسلام عروة عروة أولها الخلافة وآخرها الصلاة.
ويعظم رب المال ويظهر السمن وتحلى المصاحف وتزخرف المساجد وتطور المنابر وتكثر الصفوف مع قلوب متباغضة وألسن مختلفة وأهواء جمة، ويرى المؤمن المنكر فلا يستطيع أن يغيره وينكر الحق تسعة أعشارهم ويذهب الإسلام فلا يبقى إلا اسمه ويذهب القرآن فلا يبقى إلا رسمه، ويكثر الحلف والتلاعن والشحناء وبيع الحكم وكثرة الشرط «الشرطة والجواسيس» والمال يعطي على الكذب، وسوء الجوار ويعطل سيف الجهاد ولا يبالي الرجل بما أخذ من المال أمن حلال أو حرام ولا يبقى أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه غباره، والحلف بغير الله، والشهادة من غير أن يستشهد، وكثرة الطلاق وموت الفجأة بسبب كثرة الأمراض والحوادث، ولا تنال المعيشة إلا بسخط الله، وهلاك المرء على يد قرابته أو الجيران يعيرونه بضيق المعيشة فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها نفسه، لا يوقر الكبير ولا يرحم الصغير.
ويظهر شرار الأمة على خيارها ويستخفي المؤمن كما يستخفي المنافق على عهد رسول الله وتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين هم النزاع من القبائل والذين يصلحون إذا فسد الناس»، قوم قليل في ناس سوء كثير يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ولكن نرجو أن يكون هؤلاء أجر العامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم لأنهم لا يجدون على الحق أعوانًا في الخير وهذه الغربة لا تقتضي أن تفقد الثقة بأن المستقبل لهذا الدين فالله تعالى يقول: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: 3)، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 196)، وقال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر: 36) فالمسلم المتبع والصابر .. الله تعالى حسبه وكافيه ووليه حيث كان ومتى كان ولو أصابه الضر والامتحان فإنما ليخلص الإيمان وتكفر السيئات ويثقل الميزان فلا يصيب المؤمن حزن ولاضيق ولا يجزع وينوح كما ينوح أهل المصائب بل الواجب الصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام وليعلم أن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 105,106).
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 171- 173)، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

