العنوان أبي كما عرفته.. صـــدق اللســـان
الكاتب شيخة عبدالله المطوع
تاريخ النشر السبت 07-أكتوبر-2006
مشاهدات 86
نشر في العدد 1722
نشر في الصفحة 39

السبت 07-أكتوبر-2006
منذ أيام قلائل وبينما أنا في المكتبة أتصفح الكتب بإمعان، وأقلب صفحاتها وأقرأ أسطرها بإتقان، وإذا بفتاتين مقبلتين تتجولان، ثم جلستا بقربي تتحدثان، ولا أخفي عليكم ضيقي وضجري فقد قطعتا عليَّ حبل أفكاري، وكأنما شعرتا بحالي فصارتا تتهامسان وتتجاذبان أطراف الحديث وتتبادلان...
قالت إحداهما للأخرى بصوت خافت لكنه مسموع:
«لطالما انتظرت اليوم بفارغ الصبر.. ويح قلبي لقد طال الانتظار...
ـ ردت عليها الأخرى وقد بدا عليها الاهتمام: خيراً ماذا جرى.. لِمَ كل هذا الصبر والاحتمال؟
ـ فقالت بصوت المحب الولهان: «أبي غاب عنا وسافر ووقت وصوله قد حان، اليوم سألقاه، كم اشتقت إليه وكم اشتاقت عيني لمرآه... أخيتي لعلك لا تدرين كم أحبه وأهواه.. مكانه في القلب بيِّن ولا يشغله أحد سواه»...
> لا أدري بعدُ ما قالت وكيف أنهت حديثها وقامت.. ولم أشعر إلا والدموع تهطل على وجنتي وتبلل صفحات كتبي وكأن كلامها لامس شيئاً في نفسي وفجَّر الدمع في عيني...
رددت عليها من غير أن تسمع: «إذا كان هذا حالك أخيّة فماذا عساي أن أقول؟!»
> أبي كأبيك قد سافر ورحل.. وطال غيابه كما طال غياب أبيك.. واشتقت إليه كشوقك ـ بل أشد ـ لعلمي أني لن ألقاه في الدنيا ثانية، وليقيني بأنه لن يعود من سفره أبداً...
> رحل أبي من غير موعد وودعنا من غير أن ندرك أنه عنّا ذاهب ولدار الخلد ـ إن شاء الله ـ مسافر، والذي يخفف عنّا مُصابنا ويهون علينا أننا إن شاء الله هناك سنلقاه ولن نحرم ــ بإذن الله ــ مرآه...
أبي الحبيب:
فكرتُ ملياً ماذا أكتب اليوم؟ وأي السجايا أقدم، وأي المزايا أخصص؟ فاحترت كثيراً.. لأن النفس البشرية إذا صلحت واستقامت صلحت أحوالها وطابت أخلاقها، وصارت كالعقد الثمين إذا تناثرت منه حبة تبعتها أخواتها، ويصعب أحياناً على المرء أن يتدارك سقوطها فهي غالباً ما تتناثر مجتمعة واحدة تلو الأخرى... وكذلك شخصيتك المتفردة جمعت من الخصال الحميدة ما يصعب علينا حصرها منفردة، فهي كحبات العقد كل خصلة تدعو أختها لتتبلور في شخصية فذة «في نظري» لا مثيل لها.
> بعد أن تحدثت عن استقامة والدي ـ يرحمه الله رحمة واسعة ـ وبعد أن عرضت عاداته في رمضان اخترت اليوم أن أحكي لكم عن «صدق اللسان».
إن من أهم الصفات التي كان أبي يحثنا عليها ويأمرنا بها هي «الصدق»، ولم أر.. والدي قط كاذباً أو حتى موارياً، ولم يكن يخشى إلا الله، لذلك كان يقول الحق دائماً ولا يخاف لومة لائم...
كان دائماً يسألنا.. وإذا أردنا أن نجيب، وقبل أن نتفوه بكلمة كان يقول: «لا تكذب» وكأنه ينبهنا ويرشدنا إلى قبح الكذب، وأعطاه الله من الفراسة ما يكشف به الكاذب ويعرف كذبته.. وكان ــ يرحمه الله ــ يحاصرنا بالأسئلة «أين ـ متى ـ كيف ـ لماذا ـ كم...» حتى لا يدع لأحد فرصة أن يخفي ولو جزءاً من الحقيقة، فتربينا وترعرعنا على ذلك ... ولتقريب الصورة أكثر أذكر أنه سألني مرة: هل تناولت الغداء؟ أجبت: الحمد لله.. فقال: الحمد لله دائماً، ولكن إجابتك تحتمل المعنيين، أجيبي بنعم أو لا... وذات مرة جاءته إحداهن تسأله الصدقة وبيدها طفل رضيع.. وكأن والدي ـ يرحمه الله ـ أحس والتمس عدم صدقها فقال لها: أريني الطفل «أذكر هو أم أنثى»؟ فتلعثمت وارتبكت، ثم تبين أنها لم تحمل إلا دمية وغطتها بغطاء الأطفال للتمويه! وهناك الكثير من الأمثلة التي لا مجال لذكرها.
كان أبي يمقت الكذب مقتاً شديداً، ومن يكذب عنده مرة لا يصدقه أبداً، ويقيّم الناس على هذا الأساس...
> وكم أمتنُّ لوالدي أن علمنا وربّانا على ذلك، فالصدق في هذه الأيام عملة نادرة، وصفة يصعب الاتصاف بها.
لقد صدق أبي مع الله ثم مع نفسه، ثم مع الناس، وامتثل لقوله تعالى: {مٌنّ پًمٍؤًمٌنٌينّ رٌجّالِ صّدّقٍوا مّا عّاهّدٍوا پلَّهّ عّلّيًهٌ فّمٌنًهٍم مَّن قّضّى" نّحًبّهٍ $ّمٌنًهٍم مَّن يّنتّظٌرٍ $ّمّا بّدَّلٍوا تّبًدٌيلاْ <23>} (الأحزاب)، نحسبه كذلك والله حسيبه...
جعلنا الله من الصادقين في القول والعمل، ونسأله أن يبلغنا منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً...
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

المطوع في حوار شامل: يدنا ممدودة لجميع العاملين في ميدان الدعوة إلى الله
نشر في العدد 1284
12
الثلاثاء 13-يناير-1998
