; أحكام الحج وأسراره | مجلة المجتمع

العنوان أحكام الحج وأسراره

الكاتب الشيخ عطية صقر

تاريخ النشر الثلاثاء 26-ديسمبر-1972

مشاهدات 32

نشر في العدد 131

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 26-ديسمبر-1972

أحكام الحج وأسراره

لفضيلة الشيخ عطية صقر

مراقب الوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف ونائب رئيس قسم الثقافة الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت

مع الحاج في مناسكه

خطوة خطوة

الحج يظهر معنى العبودية لله بشكل أقوى

نص المحاضرة القيمة التي ألقاها فضيلة الشيخ عطية صقر بقاعة المحاضرات بجمعية الإصلاح الاجتماعي في مساء يوم السبت 11 من ذي القعدة 1392 هـ الموافق ١٦ من ديسمبر1972 م.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد، فإني أحمد لهذه الجمعية عملها المشكور في الإسهام في إرشاد الحجاج بمثل هذه المحاضرة وما يتبعها من عرض سينمائي نشكر لها ثقتها بشخصي الضعيف في دعوتي لإلقاء المحاضرة التي أرجو أن يكون لي من أداء فريضة الحج أكثر من مرة ما يساعدني على أن أكون عند حسن الظن، في بيان الحكم والأحكام لهذه الفريضة المقدسة، وقد آثرت أن يكون حديثي تحريريًا على غير ما تعودت اختصارا للوقت وتحديدًا للمعنى  بتحرير اللفظ، وعلى هذا الضوء استمد العون من الله فأقول: الحج إلى مكان مقدس أمر معروف عند كل الأمم تقريبًا منذ القدم، قال تعالى ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الحج: 67)

تختلف باختلاف الشرائع والأديان، ويطلب أن يكون القاسم المشترك فيها هو تقديم الضحايا والقرابين، كما قال سبحانه في آية أخرى ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ ۗ  (الحج : ٢٤) والحج إلى مكة عبادة معروفة عند العرب، ترجع إلى عهد إبراهيم عليه السلام، الذي أمره الله أن يسكن أسرته الصغيرة «هاجر وإسماعيل، في هذا المكان الذي ادخرته العناية الإلهية لمستقبل مشرق للإنسانية، تنبعث منه صيحة الحق، ويشع منه نور الإسلام على العالم أجمع.

لقد بوأ الله لإبراهيم مكان البيت وأمره أن يرفع قواعده، ويعده لاستقبال الطائفين والعاكفين والركع السجود.

دعا ربه أن يوعز لأسرته الضعيفة الراضية بقضاء الله، أسباب الحياة الكريمة، تلك الأسباب التي من أهمها الأمن على الحياة وضمان القوت، فقال عليه السلام ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (البقرة: ١٣٦). وقد رأى إبراهيم أن الذي يحقق الأمن للأسرة ويزيل وحشتها هو عمارة المكان بالسكان والزائرين، وأن الذي يضمن القوت لسكان هذا القفر، هو الخيرات التي يجلبها الزائرون الوافدون من مناطق الخصب والثراء، فدعا ربه مرة أخرى وما أكثر ما كان يدعو من أجل أسرته الحبيبة إلى نفسه – فقال ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ( إبراهيم: ٣٧ ) لقد استجاب الله، دعاء إبراهيم فقال له ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ ﴾ (الحج : ۲۷، ۲۸). عمر المكان فذهبت الوحشة وانتعشت الحياة، ودخلت مكة التاريخ من أوسع الباب، وهو باب الدين لا يدانيه غيره في سعته وأصالته وقدسيته، وكانت لها الزعامة في جزيرة العرب عدة قرون أصبح الحج إلى مكة سنة متبعة عند العرب، حرصوا عليه حتى جاء الإسلام يحمل مشعله نبي من نسل هاجر وإسماعيل، فكان دعوة من دعوات أبيه إبراهيم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 129)

جاء الإسلام وما يزال الحج يمارس بطقوسه القديمة وإن شابها شيء من التحريف ، وكان بدء التشريع للعبادات الأخرى التي لم يكن للعرب بها عهد أو لم نأخذ منهم حظا من العناية كما أخذ الحج  فشرعت الصلاة في مكة وشرع الصيام في السنوات الأول للهجرة، أما الحج فكان فرضه على أرجح الأقوال في السنة التاسعة أي أواخر عهد الرسالة، وكأن فرضه  كان تنظيما وتصحيحا ، أكثر منه  إنشاءً وتأسيسا . قال تعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (آل عمران : ٩٧)  وجاءت الأحاديث القوية مؤكدة لوجوبه حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة  بكفر جاحدة

والحج وإن كان واجبًا على المستطيع في العمر مرة واحدة باتفاق الفقهاء إلا أنه يندب تكراره، كلما أمكنت الفرصة ووجدت الاستطاعة، وذلك لما يقضي به العقل من كسب فوائده الدينية والدنيوية، ولما جاء في الأحاديث التي ترغب فيه، من أمثلها ما رواه ابن حبان في صحيحه " يقول الله عز وجل: «إن عبدًا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم» ... الترغيب والترهيب للحافظ المنذري

أيها الأخوة المؤمنون: قبل أن أتحدث إليكم عن أحكام الحج أشير إجمالاً إلى حكمته العامة، ممهدًا لها بهذه المقدمة الموجزة:

إن عبادة الله تقتضي أداء التكاليف دون الحاجة إلى معرفة حكمتها، ضرورة الإيمان بأن أفعال الله لا تخلو من حكمة، فهو سبحانه الحكيم الخبير، لا يأمر إلا بخير وإن لم ندرك سره، ولا ينهى إلا عن شر وأن لم تعرف حكمته، قال تعالى في موضوع القتال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٢١٦).

وإذا كانت عبادة الله مع فهـم أسرارها تنشط النفس وتثبت العقيدة، وتساعد على رد الشبه عن الدين، فإن العبادة المجردة عن فهم حكمتها يظهر فيها معنى العبودية لله بشكل أقوی، لأنها تؤدى بروح من الثقة المطلقة والإيمان العميق بحكمة الله وعدله ورحمته، ومن هنا احتفظ الله بسر بعض التكاليف لیمحض إيمان المؤمنين، ويميز الطيب من الخبيث.

 يقول الإمام الغزالي في كتابه الإحياء (ج ۱ ص ۱۹۱ طبعة عثمان خليفة).

واجبات الشرع ثلاثة أقسام، قسم هو تعبد محض لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه وذلك كرمى الجمرات مثلًا، إذ لاحظ للجمرة في وصول الحصاة لها، فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل، ليظهر العبد رقه وعبوديته، بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعوه إليه، فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية، وقال في موضع آخر: وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد، وعلى مقتضى الاستعداد، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات، في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق، إلى مقتضى الاسترقاق.

 وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدرة الذهول عن أسرار التعبدات (ص ٢٤)

بعد كلام الإمام الغزالي أقول: إن الحكمة العامة للتشريع تتلخص في نقطتين أساسيتين: هما ربط المخلوق بالخالق، وإعداده لحمل الأمانة وتحقيق الخلافة في الأرض، ومن مظاهر النقطة الأولى الإيمان بالله وبالمسئولية الأخروية، والتوجه إليه بالدعاء والعبادة، على ما يفيده قوله تعالى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5 ).

فقد ركز في هذه الآية الثناء السابق عليها من أول الفاتحة ﴿إياك نعبد ﴾ كما ركز فيها الدعاء اللاحق لها في آخر الفاتحة وإياك نستعين (فكانت هذه الآية واسطة العقد أو مركز التجمع الثناء والدعاء، ومن مظاهر النقطة الثانية لحكمة التشريع الأخلاق الشخصية والاجتماعية، والتشريعات المختلفة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، من كل ما يضبط السلوك ويحدد الواجبات والحقوق.

وعلى ضوء هذه الحكمة العامة للتشريع سأوضح مغزى عبادة الحج وحكمة مشروعيته فأقول: لقد نص القرآن الكريم على حكمة الحج في قوله سبحانه ﴿ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ ﴾ ( الحج: ۲۸).

وكلمة المنافع عامة جامعة ، تشمل كل منفعة دينية ودنيوية، روحية ومادية، وذكر اسم الله على الأنعام يكون عند ذبحها قربانًا لله، وبانضمام الأحاديث الواردة في الحج إلى هذه الآية يكون منطلقنا في بيان حكمة التشريع فنقول:

أما حكمة الحج في مجال ربط المخلوق بالخالق فتظهر عندما يحرم الحاج ملبيًا، حيث يقر بوحدانية الله وبشكره، ويرجع إليه كل فضل ونعمة « لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وحين يطوف بالبيت داعيًا متضرعًا يستمنح الله جوده وبره وعفوه وحين يقبّل الحجر أو يستلمه، كأنه يعاهد ربه على الطاعة، وفي سعي الحاج بين الصفا والمروة كالمتردد قلقًا على مصيره، هل تفضل الله عليه عند طوافه بالبيت أولًا، وفي وقوفه بعرفة متجردًا من كل زينة، ملغيًا كل لقب ورتبة، داعيًا خاشعًا في ذلة و انكسار، يباهي به الله ملائكته فيقول: «أنظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم » رواه أحمد والحاكم وابن حبان.

وفي رميه للجمرات تشبه بحربه للشيطان ومقاطعته لما يغری به من فساد، كما تظهر العبودية لله بتحمل مشقة السفر ومخالطة ذوي الطباع المختلفة، والتعرض للأجواء الغريبة مؤثرًا في كل ذلك رضا الله على رضا نفسه وكذلك تظهر صلة العبد بربه في الهدى والفداء، رمزًا للتضحية بالدم، وبأغلى ما يملك الإنسان في سبيل العقيدة وحماية الحرمات.

وفي الحج ارتباط بمهد النبوة وإحياء لبيت الله، وتذكر لحوادت ماضية كانت سببًا في قداسة هذا المكان، بوجود هاجر وإسماعیل وزمزم، و أول بیت وضع للناس مباركًا وهدى للعالمين، كما أن في الذكر والتكبير والتلبية عند المشاعر صلة قوية بالله، يدل على حكمته قول النبي صلى الله عليه وسلم « إنما فرضت الصلاة وأمر بالحب وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله » رواه أبو داود والترمذي، وقال :حسن صحيح.

هذه مظاهر ربط المخلوق بالخالق في الحج، أما في مجال إعداده لحمل الأمانة وتحقيق الخلافة، فإن الإحرام في ملابس متواضعة والبعد عن مظاهر الترف درس عملي في التواضع للناس وعدم الغرور بزخارف الحياة، وفيه نکران للذات وتركيز على التقرب إلى الله بقلب خالص وعمل طيب، وقد حج رسول الله على رحل رث وقطيفة خلقة وقال « اللهم حجًا لا رياء فيه ولا سمعة » رواه الترمذي، وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : من الحاج ؟ فقال «الشعث التفل رواه »

ابن ماجة بإسناد حسن، والشعث هو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله هو من ترك التطيب، وهذا كله في أداء المناسك، أما بعدها فالزينة والتطيب حلالان ومندوب إليهما.

وفي الحج تمرن على الأسفار وتحمل للمضايقات، وضبط للنفس عن السباب والفسوق والجدال والمراء "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، حديث متفق عليه، وفيه إلى جانب ذلك ثقافة واطلاع وتفكر ودراسة عملية على الطبيعة -إلى حد ما- لفترة من حياة الرسالة وتاريخ العرب وذكرياتهم، مع المنافع المادية التجارية وغيرها، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ - (البقرة: 198)

والآثار الاجتماعية العامة في الحج ينكرها أحد، ذلك أنه فرصة لعقد مؤتمر إسلامي كل عام، يتخطى حدود البيئة والجنس واللغة والقومية، ويعلو على الفوارق والعصبيات، ينبغي أن تناقش فيه المشاكل وتوضع لها الحلول وتتلاقى الأفكار وتتلاقح الثقافات توكيداً للوحدة الجامعة التي يحبها الله والأمة ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: ٩٢)

لننهض سويًا بواجباتها الدينية والإنسانية العامة، ولنقف صفا واحدا أمام العدو المتربص، نرجمه ونخزيه ونحبط كيده.

وأن للمسلمين في هذا اللقاء من عوامل الوحدة ما يعلو على كل ما يحاول الناس أن يربطوا به، أنفسهم فربهم جميعًا واحد، ودينهم واحد وقبلتهم واحدة، وشعارهم ودستورهم واحد، وهم بكل هذه العوامل وغيرها كأنهم شخص واحد أو جسد واحد، «إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء» كما في الحديث المتفق عليه.

 ذلك إلى جانب ما في الحج من عمارة لمكة ورخاء لأهلها فهو مورد رزق ثابت لا ينضب ما بقي في الناس مسلم يؤمن بوجوب الحج  عليه، وهي بلد قائم حي معمور ما دام في المسلمين من يولي إليه وجهه في الصلاة

 أيها الإخوة المؤمنون  

هذه بعض حكم تلتمس للحج، سقتها إليكم في تنظيم مدلل بالنصوص القوية أن يملأ الحجاج بها قلوبهم وهم يؤدون الشعائر، وإذا كان في بعض الأعمال خفاء للحكمة فليكن موقفهم منها مجرد الامتثال، ولعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-كان يحس أن في بعض النفوس خواطر تحوم حول بعض الشعائر، فنبه إلى جانب التعبد والتسليم المطلق قائلاً وهو يلبي: "لبيك بحجة حقاً، تعبداً ورقاً" رواه البزار والدارقطني، ويوضحه قول عمر حين قبل الحجر الأسود: "والله إني لا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.

أيها الأخوة: أشعر إنني أطلت في بيان حكمة التشريع، فماذا بقي لبيان الأحكام وزمن المحاضرة قصير لكني تعمدت التركيز على الحكمة، لما أؤمن به من أن قيمة العبادة في روحها وكيفها، لا في شكلها وكمها، والله لا ينظر إلى الصور، ولكن ينظر إلى القلوب، وليس للمرء من عبادته إلا ما عقل منها.

إن الأمور الرئيسية للحج محدودة، وما عداها من النوافل والمندوبات فالأمر فيه سهل، يعوض التقصير فيه خشوع القلب وتأثر النفس بما أتى به من أركان وواجبات، لقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يزاحم على الحجر، بل كان يشير إليه أحيانًا بمحجته ويستلمه ويقبل المحجن، والمحجن عصا محنية الرأس «زاد المعاد ج ۱ ص ۲۱۹».

وأفاض من عرفة في سكينة ووقار، قائلًا للمسلمين: ليس البر بالإبضاع أي الإسراع ص ٢٢٥، وأمر بالتقاط حصى صغير ليرمي به الجمرات، ونفضه بين كفيه ولم يغسله كما يفعل بعض المتشددين وقال أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (ص ۲۲۷، ۲۲۸) . وسئل وهو في منى صبيحة يوم النحر عمن حلق قبل أن يرمى جمرة العقبة، وعمن ذبح قبل أن يرمى فقال: لا حرج، قال عبد الله بن عمر: ما رأيته سئل صلى الله عليه وسلم يومئذ من شيء إلا قال «افعلوا ولا حرج» . قال ابن عباس : إنه قبل له صلى الله عليه وسلم في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج ص ۲۲۸ ، ونحر في منى وأعلمهم أن منى كلها منحر ، وأن فجاج مكة طريق ومنحر ، كما وقف بعرفة وقال وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ، ووقف بمزدلفة وقال، وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف ، ص ٢٣٦.

الأعمال الرئيسية للحج:

بعد بيان الميسر في هذه العبادة أوجز لكم الأعمال الرئيسية التي لا بد من فعلها، سواء أكانت ركنا، أم واجبًا، أم شرطًا في اصطلاح أئمة الفقه، وهي ١- الإحرام أي النية، على أن عند القدوم إلى مكة سنة مؤكدة، وقال مالك بوجوبه، أما طواف الإفاضة الذي يكون بعد الوقوف بعرفة فركن لا يصح الحج بدونه وأهم شروط الطواف: النية بالقلب، والبدء بالحجر الأسود، وكونه سبعة أشواط ومن وراء حجر إسماعيل، والطهارة من الحدث، أما صلاة الركعتين بعده عند مقام إبراهيم فسنة، وقال المالكية بوجوبها.

٣- السعي بين الصفا والمروة، وهو ركن لا يصح الحج بدونه عند أكثر الأئمة، وواجب عند بعضهم يجبر تركه بدم وأهم شروطه: كونه بعد طواف، والنية بالقلب، وكونه سبعة أشواط، تبدأ بالصفا وتنتهي بالمروة، والموالاة بين الأشواط على ما رأه الحنابلة والمالكية

٤- الوقوف بعرفة، وهو أهم ركن في الحج لا يصح بدونه باتفاق، ووقته من بعد زوال يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم العيد، ومد الوقوف إلى ما بعد الغروب لمن وقف نهارًا لا بد منه عند الأئمة الثلاثة، وهو سنة عند بعض الشافعية

٥– المبيت بمزدلفة بعد الإفاضة من عرفة، وهو واجب يكفي منه القليل من النصف الثاني من الليل عند الشافعية، أو بعد الفجر عند الأحناف.

٦- الوقوف عند المشعر الحرام بمزدلفة بعد طلوع الفجر، وهو واجب عند الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة يجبر تركه بدم كالمبيت بمزدلفة، وهو سنة عند الآخرين.

٧- رمي الجمار، أي رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر، والجمرات الثلاث في أيام التشريق، ووقت جمرة العقبة بعد فجر يوم النحر أو شروق الشمس على خلاف بين الفقهاء، وهو واجب لا بد منه، ويجبر تركه بدم، أما رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق فيدخل وقته بالزوال ، وهو واجب لا بد منه ويجبر تركه بدم ، وتجوز الإنابة في الرمي للضعفاء وذوى الأعذار

٨-حلق الشعر أو تقصيره بأخذ جزء منه، وهو ركن لا يصح الحج بدونه عند بعض الشافعية، وقال غيرهم إنه واجب يجبر تركه بدم

٩-المبيت بمني ليالي التشريق، وهو واجب عند الأئمة الثلاثة يجبر تركه بدم، وقال أبو حنيفة انه سنة لا شيء في تركه

١٠– الترتيب بين معظم هذه الأمور وذلك كوقوع طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفة، ووقوع السعي بين الصفا والمروة بعد طواف ... مستحب.

هذه هي أهم الأعمال الرئيسية في الحج، والعمرة مثل الحج في أكثر الأعمال، غير أنه ليس فيها وقوف بعرفة ولا مبيت بمزدلفة ولا بمنى ولا رمي جمرات، وهي أي العمرة واجبة كالحج عند الشافعية والحنابلة، وسنة مؤكدة عند غيرهم

أيها الأخوة: اسمحوا لي بعد ذلك إن كان عندكم وقت أن أضع في إيجاز أيضا خطوات سريعة يتتبعها المحرم خطوة خطوة، توضيحًا لمن يريد الطريق سهلا ميسورًا

١– على من يريد الحج والعمرة أن يتحرى الحلال من المال، ويقصد وجه الله بعمله لا رياء ولا سمعة، وأن يقدم التوبة من الذنوب قبل السفر، ويتحلل من الالتزامات الواجبة عليه.

٢ – إذا قرب من الميقات أحرم بعد أن يتجرد من ملابسه العادية ويلبس ملابس الإحرام المعروفة، مقدما لذلك بالغسل إذا أمكن بدون مشقة، والمرأة لا تلزمها ملابس معينة، وبعد الإحرام مباشرة يلتزم أمورا، منها عدم قربان النساء وعقد النكاح والحلق والتطيب وقص الأظفار، والتعرض للصيد أو شجر الحرم، كما يلتزم الآداب العامة من عدم الرفث والفسوق والجدال وما إليها، ويلبي عندما يحرم، فالتلبية سنة عند بعض الأئمة واجبة عند البعض الآخر.

٣– إذا وصل مكة يقصد بعد الاطمئنان على متاعه والتطهر إلى المسجد الحرام، يدخله داعيا عند رؤية الكعبة.

٤- يبدأ بالطواف، مع الاحتراس من المزاحمة على الحجر الأسود، فان الانحراف إليه يفسد الطواف ومن العسير عدم الانحراف عن الاتجاه المعين في الطواف، عند تزاحم الكتل البشرية على استلام الحجر. وليدع أثناء الطواف بما يشاء، مع اتباع الرسول في قوله بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والدعاء سنة لا ضرر في تركه.

٥– يصلى ركعتين سنة الطواف بعد الانتهاء منه، ويحسن أن تكون الصلاة خلف مقام إبراهيم.

٦– بعد ذلك يسن له أن يشرب من ماء زمزم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

الصلاة والسلام، مع الدعاء بالخير.

۷ - ثم يخرج بعد ذلك مباشرة ليسعى بين الصفا والمروة.

٨ - وبعد انتهاء السعي يحلق شعره أو يقصره إن كان محرمًا بالعمرة، وبذلك تنتهي أعمالها، ويحل له كل ما كان محرمًا عليه بالإحرام، أما إذا كان محرمًا بالحج فلا يحلق ولا يقصر ويستمر بملابس إحرامه، ملتزمًا كل آداب الإحرام حتى ينتهي من أعمال الحج.

۹ - قبيل التوجه إلى عرفة، ان كنت تحللت من العمرة تحرم بالحج مع التلبية، من المكان الذي تنزل فيه، وألتزم الأحكام التي كنت تلتزمها أثناء الإحرام بالعمرة، فإن تيسر للحاج المبيت بمنى عند الذهاب إلى عرفة يسن المبيت، وإلا توجه رأسًا إلى عرفة وبات فيها، ويقف بعرفة بعد زوال الشمس في أي مكان شاء، ولا يتكلف الصعود إلى جبل الرحمة إن كانت هناك مشقة فعرفة كلها موقف، وليدع بما شاء من الدعاء متضرعًا خاشعًا، راجيًا أن يوفق الله المسلمين إلى اتباع دينهم، ويهدي إلى الخير أئمتهم، وينصرهم على أعدائهم.

وهناك يصلي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا.

۱۰ - بعد غروب الشمس من يوم عرفة يتوجه إلى المزدلفة، ويصلي بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ويلتقط سبع حصيات صغيرات لجمرة العقبة غدًا، ولا مانع أن يلتقط أيضًا حصيات الجمار الأخرى، ويجوز التقاطها من أي مكان آخر، وفي مزدلفة يبيت تلك الليلة.

۱۱ - في الصباح يقف الحاج بالمشعر الحرام داعيًا، ثم يتوجه إلى منى ملبيًا، ويرمي جمرة العقبة بالحصيات السبع مكبرًا، وهنا يستمر التكبير يوم العيد وأيام التشريق، وتنتهي التلبية.

۱۲ - بعد رمي الجمرة، يذبح إن أراد، ويحلق شعره أو يقصر منه، وبذلك يحل له ما كان محرمًا بالإحرام ما عدا النساء، فليلبس ملابسه العادية ليعود إلى حالته الطبيعية الأولى.

۱۳ - بعد هذا يجوز لك في يوم النحر أن تذهب إلى مكة لتطوف طواف الإفاضة وتسعى بين الصفا والمروة.

وإن لم تذهب إلى مكة فانتظر بمنى حتى ترمي الجمرات في أيام التشريق.

١٤ - إن ذهبت إلى مكة يوم النحر وطفت وسميت، عد إلى منى لتبيت بها، وارمِ في اليوم التالي «وهو الحادي عشر من ذي الحجة ( الجمرات الثلاث، كلا منها بسبع حصيات، على أن يكون المرمى بعد الزوال، بادئًا بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، وبين كل جمرتين حوالي مائة وخمسين متر.

١٥ - ليكن مبيتك ليالي التشريق في منی، إلا أن كان عندك عذر فيجوز المبيت بمكة.

١٦- يوم رمي الجمرات يوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو ثاني أيام التشريق، انفر من منى أن لم ترد أن تنتظر بها إلى اليوم الثالث عشر، فإن وصلت مكة طف واسع أن لم تكن فعلت ذلك يوم النحر، ليحل لك كل شيء حُرم عليك بالإحرام، فأن انتظرت بمنی وبت فيها رميت الجمرات يوم الثالث عشر بعد الزوال، يشير إلى ذلك قوله تعالى ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَ﴾  (البقرة: ٢٠٣).

۱۷ - قبل مغادرة مكة طف طواف الوداع، وارحل بعده مباشرة، فأن عدت إلى المسجد قبل الرحيل أعدت الطواف، والمرأة عذرها المعروف لا يلزمها هذا الطواف، إن تحتم سفرها مع القافلة قبل الطهر، كما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.

۱۸ - زيارة المسجد النبوي بالمدينة للصلاة فيه سنة، فإنه أحد المساجد التي تشد إليها الرحال كما ورد في الحديث الصحيح، ولو أمكنت الصلاة في الروضة كانت خيرًا كبيرًا، فقد صح في الحديث المتفق عليه «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» على أن يكون ذلك في أدب وبدون مزاحمة.

وروى مسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» واستحب العلماء السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر، والدعاء في هذه المساحة الكريمة ما أمكن.

۱۹ - تسن زيارة البقيع حيث دُفن الصفوة الممتازة من الصحابة والتابعين، وذلك للعظة كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك زيارة الأماكن المقدسة الأخرى للعبرة كمسجد قباء ومقابر الشهداء في أحد.

۲۰ - عند مغادرة المدينة يستحب توديع المسجد النبوي والصلاة فيه، والسلام على النبي وصاحبيه، والدعاء أن يجعل الله لك عودًا إلى هذه الأماكن الطاهرة.

ختامًا أيها الإخوة، هذا ما أمكن إيجازه في هذا الموضوع، الذي لا تكفي لتوضيحه ساعات وبخاصة لمن لم يسبق لهم أداء هذه الفريضة، أرجو أن أكون قد ألقيت بعض الضوء عليها، واستميحكم عفوًا إن كنت قد أطلت في الوقت، أو قصرت في الأداء، والعذر عند كرام الناس مقبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حج المَدين.. صحيح أم باطل؟

نشر في العدد 2122

56

الأربعاء 01-أغسطس-2018

الحج.. وهموم الأمة

نشر في العدد 2122

43

الأربعاء 01-أغسطس-2018

الحـج.. ووحـدة الأمــــة

نشر في العدد 2181

43

السبت 01-يوليو-2023