; أسرار الحج وحكمته ومعانيه | مجلة المجتمع

العنوان أسرار الحج وحكمته ومعانيه

الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق

تاريخ النشر الثلاثاء 01-يناير-1974

مشاهدات 29

نشر في العدد 182

نشر في الصفحة 10

الثلاثاء 01-يناير-1974

علمنا في مقدمة هذه الرسالة أن من أسباب جهل الناس بعبادة الحج، وقصورهم عن إكمالها على الوجه الذي يرضي الله تبارك وتعالى من جراء جهلهم بأسرار هذه العبادة وحكمتها. وهذا السبب هو الذي جعل الحج عند كثير من الناس شكلا بلا روح، وطقوسًا بلا فهم، بل قد حج كثير وتندروا وضحكوا من أنفسهم أحيانا ومن غيرهم أحيانا أخرى عندما رأوا أنفسهم يجمعون الجمرات من التراب!! أو يركضون بين الصفا والمروة، أو يطوفون حول بنية الكعبة.

ثم يقولون: «هزلت، نحن أساتذة في الجامعة ونجلس ننبش الأرض لنخرج الحصى كما تفعل الصبيان!!» وقال آخر: «امرأة تسمى هاجر ركضت بين الصفا والمروة فلماذا نركض نحن على هذه الصورة؟!» وقال آخرون: «لقد نسخ الإسلام عادات الوثنية إلا أنه أبقى عادة واحدة وهي تقبيل الحجر الأسود!!» إلى غير ذلك من مقالات رجع أصحابها بالكفر بعد أن اتفقت أموالهم وأتعبوا أنفسهم ولم يجدوا فيما يقدم لهم من خطب عن الحج، وكتب في الماسك غير آراء هزيلة وأشكال مجردة عن المضمون والهدف ففعلوا هذه الأشكال فعل الكاره الساخط أو المتندر العابث.

وحيث إنني قد وفقت إن شاء الله إلى أن هذه الرسالة هي الطريق إلى الحج المبرور فكان لا بد من تذليل هذه العقبة الثالثة والأخيرة إن شاء الله التي تقف في طريق فهم جمهور المسلمين لهذه العبادة العظيمة.

فما الحج؟ وما المقصود بمناسكه التي جاءت على هذا النحو؟ من طواف ورمي وحلق، ومبيت ووقوف؟

تعريف عام

الحج عبادة يقصد بها التقرب إلى الله تبارك وتعالى. وربط القلوب بمخالفته وتقواه، وهذا الشأن في كل عبادة شرعت للتقرب. وهذا الكلام المجمل يحتاج إلى بيان وإيضاح:

العاقل لا يصنع أمرا إلا وقد عرف ثمرته وغايته، وأيقن منفعته، وأما من يعمل عملا لا يعرف الغاية والهدف منه، ولا يرجو الثمرة والفائدة والمنفعة فيه فهو عابث أو مجنون، والأمور الدنيوية يوقن بثمرتها ونفعها لأن نتائجها منظورة مشاهدة ومحسوبة متوقعة. وأما العبادات فإنها من شئون الآخرة، وثمرات الآخرة مدخرة مخبأة لا يصدق بها إلا مؤمن، ولا يرجوها إلا موقن وقضية الإيمان قضية كبيرة، وأمر خطير فهو يحتاج إلى يقظة دائمة ومراقبة مستمرة، فالإيمان يخبو مع المعصية وقد يتلاشى ويزول، ويزداد مع الطاعة حتى يصبح الغيب كأنه شهادة، والبعيد كأنه حاضر مشاهد.

فالمؤمن يحس الجنة أحيانا وقد دنت ثمارها وليس بينه وبين أن يقطف ويأكل إلا ساعات قليلة، وقد يحس أحيانا ألم النار نار الآخرة وكأنها على بضع خطوات منه، ولكنه أحيانا تجلله سحائب الشك وظلمات المعصية فيسأل نفسه أحقا هناك جنة وهناك نار!!

والعبادات مقصدها الأول هو إيقاظ هذه المراقبة وإشعال هذه الجذوة جذوة الإيمان، لتصبح العقيدة القلبية، واقعا حيا، والتصديق النظري قضية مجسمة، لا في كلمات فقط بل في حركات وسكنات وهتاف وطواف وسعي ورمي وصعود وهبوط. يقظة ونوم وتوقيت ومواقيت. إن رسوم العبادة وأشكالها وحركاتها، وسكناتها ما هي إلا ترجمة حية لمعاني الإيمان، الإيمان بالآخرة وبالجنة والنار، الإيمان بالله وملائكته، فكأن كل حركة من حركات العبادة سطر مكتوب يقول أنا مؤمن!! الساجد يقول أنا مؤمن، والطائف كذلك والساعي كذلك، والراكع والواقف بعرفة، والنائم بمزدلفة يدلك حاله قبل مقاله أنه مؤمن فلو سألته ما الذي أتى بك إلى هنا وأمرك أن تبيت في هذه الصحراء لقال لك الإيمان!!

ورامي الجمرات والشارب من زمزم والمقبل للحجر يجب أن يقول كل منهم فعلت ما فعلت لأني مؤمن.

إن تحويل العقيدة النظرية -وأعني بالنظرية هنا العقلية الوجدانية- إلى واقع حركي وشكل خارجي يكسبها قوة ودواما وثباتا، ولو كان للإيمان مجرد اقتناع عقلي فقط لتحول من النفس وهرب منها بعد يوم أو يومين، ولكن صب هذه العقيدة في قوالب حركية تشمل الركوع والسجود والقيام والقراءة والطواف والسعي والرمي، والمبيت.. وو... وأشكالا كثيرة يعني كل ذلك تجديد هذه العقيدة، والمحافظة على جذوة هذا الإيمان فليعلم العابد أولا وقبل كل شيء أن يمارس العبادة ليحيا في نفسه الإيمان المغيب المخبوء وليظهر للناس فهذه الحركات المستمرة التي تمارسها كل يوم من ركوع، وسجود ووقوف بين يدي ربك سبحانه وتعالى إنما هو لتظل على ذكرى يوم القيامة ولتعيش له وبه، وحتى لا يلهينك الشيطان وتشغلك مشاغل الحياة من عقيدتك القلبية فتموت شاكا أو كافرا.

حركات العبادة أول غاية من غاياتها أن تربطك بعقيدتك وتصلك بإيمانك، وتذكرك بأنك صاحب طريق ومنهج وسلوك يشاركك فيه من يشاركك هذه العبادة ومن لا يشاركك العبادة فليس أخا ولا صديقا ولا رفيقا وبهذا الذي قدمت ستعلم أن العبادات بوجه عام تشترك في غاية واحدة أساسية وهي ترجمة الإيمان القلبي إلى واقع حركي مشاهد ملموس وبهذا تظل النظرية العقلية أو الإيمان الوجداني القلبي مرتبط مع الحركات الحسية فيظل هذا الإيمان في حياة دائمة، وتجدد مستمر.

وإذا كانت الصلاة تأخذ في عملية التجديد هذه، وإحياء معاني الإيمان في النفس النصيب الأوفر لأنها تمارس وجوبا خمس مرات في اليوم والليلة بحركات وسكنات وأقوال تشدك إلى الإيمان شدا، فإن الحج ينفرد بميزات خاصة في هذا المضمار.

فالصلاة تقطعك من مشاغل الدنيا، ويلزمك حضور جماعة المسلمين فإذا وقفت كبرت الله فاستصغرت -إن عقلت المعنى- مشاغل الدنيا وهموم الحياة، ثم تدعو فتحمد الله وتثني عليه، وتمجده، وتعلن لله أنك على العهد ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ (الفاتحة ٥) وتطلب منه المعونة على السير في الطريق ﴿وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ (الفاتحة ٥) ثم تطلب دوام التوفيق والثبات على طريق الحق الصراط المستقيم. الطريق الوحيد الواصل إلى شاطئ السلامة وبر الأمان طريق المؤمنين الذين أنعم الله عليهم ثم تركع فتشعر شعورا حسيا لا وجدانيا بصغرك أمام عظمة الله فتعظمه، ثم ترفع رأسك وتحمده على هذا التوفيق والتكريم، ثم تسجد فتشعر شعورًا حسيًّا يقينًا لا وجدانيا نظريا بذلك أمام خالقك. فهو العلي الأعلى، وأنت العبد الذليل الملصق جبهته بالتراب، وأنفه بالرغام، والذي قد سكنت أعضاؤه في وضع قليل فقير يوحي عند المشاهدة بكل فقر وعجز أمام قوة الله وعظمته ورحمته ورضوانه.

هذه الممارسة الواعية لفريضة الصلاة تحيي في نفسك يا أخي معاني الإيمان التي يتشدق بها أناس أحيانا وهي لم تتمكن بعد من قلوبهم، ولم تصل بعد إلى يقينهم، وليس من وسيلة لتثبيت هذه المعاني الإيمانية في قلوبهم إلا بهذه الممارسة العملية المستمرة الواعية وبهذا ستفهم جيدا قوله تبارك وتعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات:١٤).

لقد نزلت الآيات في شأن جماعة من الأعراب ظنوا الإيمان حكمة يقولها اللسان بعد اقتناع عقلي سطحي وإن كان من دليل وبرهان.

فبين الله لهم أن الإيمان حقيقة كبيرة لتدخل القلب وتستقر فيه لا بد من ممارسة عملية طويلة ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ(الحجرات ١٤) وها قد أسلمتم أي أعلنتم دخولكم طريق هذه الحقيقة الإسلام وممارسة أعماله الظاهرة سيدخل الإيمان إلى قلوبكم.

وهذا البيان الواضح سيغنيك أيها الأخ عن قراءة البحث الأصولي الجدلي في التفريق بين الإسلام والإيمان، وارجع إلى كتابنا «الحد الفاصل بين الإيمان والكفر» لتتضح أمامك الصورة الصحيحة لمسمى المؤمن.

والحج هذه العبادة العظيمة لها بعد الصلاة النصيب الأوفى في إشعال جذوة الإيمان وترجمة المعاني العقلية الوجدانية إلى واقع عملي حسي مشاهد. فإذا كانت الصلاة تنفرد بخصائص في هذا المضمار عن سائر العبادات: وهي الدوام والاستمرار والمصاحبة للإنسان في سفره وإقامته ومرضه وصحته وخوفه وأمنه حيث لا تسقط في أي من هذه الحالات، وتختص أيضا بالسجود والركوع وفيهما ما فيهما من معاني الذل والخضوع، وأبرز الفوارق الأساسية بين منزلة العبد ومنزلة الرب وهذا صلب عقيدة التوحيد.

فإن الحج فيه من الصور والأشكال والمشاعر والمناسك ما يجعل عقيدة الإيمان الباطنة صورة حية متحركة تلمس وتحس وتهز الكيان الإنساني المادي كله، وتشرب الروح معاني الإيمان شربا وكل هذا لا يتحقق إلا مع علم بأهداف الحج وغاياته وآدابه وواجباته. والطريق السليم لممارسته وإتمامه، وهذا ما حررت هذه الرسالة لأجله مستعينا بالله بعد أن أصبح الحج عند كثير من الناس ضربا من اللهو واللعب والرحلة الفارغة للتنزه والتفرج «ومشاهدة آثار مكة!!»

مناسك الحج في خدمة عقيدة التوحيد

الإحرام وحكمته ومعانيه

يبدأ الحج بانقلاب عجيب في حياة الفرد. إذ تستلزم الرحلة مفارقة الأوطان، وفي هذا تخليص الإنسان من مشاغل حياته الفانية، واستخلاص نفسه لله سبحانه وتعالى، ولا يكاد يقترب من مكة البلد الحرام حتى يحصل التجريد الثاني، والتصفية الثانية، إنها ملابس الإحرام البديلة لملابس الدنيا وزينتها.

لفافات من القماش تكون بيضاء غالبا، فلا حياكة ولا نقش ولا زينة، ونعل تحمي القدم من حر الأرض وبردها وشوكها، ورأس عار، وفي هذا من معاني التجرد ما فيها، ها أنت أيها الحاج قد خلعت ملبسك الذي خوله الله لك في الدنيا، ولربما كانت تحجبك رؤياه من رؤية فقرك واحتياجك لخالقك فإن من طبيعة الإنسان أنه إذا رأى نفسه غنيا عن الله ترك سؤاله، بل إنه يطغى ويظلم ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(القلم:٦:٧) فهذه هي ملابس الإحرام تشعرك إن فقهت معناها فقرك، انظر إلى نفسك الآن، وقد خلعت نعمة الله المستعارة من فوق جسدك ما أنت!! عبد فقير محتاج!!

وغدا ستأتي الله تبارك وتعالى على هذا النحو بلفافة أو لفافتين من القماش، وليس إلا الأرض، حفرة منها تحيط بك من كل مكان، هناك أفقر منك في ذلك الوقت إلى خالقه ومولاه. كلا. إذن فهذه تجربة مصغرة فاهتبلها، واغتنم فرصتها أنك الآن ميت منقطع من الأوطان والديار، مقدم على ربك تبارك وتعالى، وهناك أعلام حسية ستشعرك بربك حتى لتكاد أن تراه، وقد حرم عليك الرفث والفسوق والجدال، فقد جئت إلى هنا لتحاسب نفسك وتندم على ما فات لا لتكتسب إثما جديدا، وتضيع فرصة العمر، وهذا هو الإحرام: الإحرام نية عقدها الحاج وعزم فيها أن يدخل في عبادة العمرة أو الحج يؤدي أعمال هذه العبادة، وقيمها، ويمتنع عما نهاه الله فيهما من الرفث والفسوق والجدال وصيد البر والزينة من ملابس وعطور.

إنك الآن أيها الحاج في رحلة صوب الآخرة لا جهة الدنيا، فآمن بالآخرة أولا، آمن بذلك اليوم الذي ستخرج فيه مهرولا من قبرك إلى خالقك ومولاك تقف بين يديه، ويحاسبك على أعمالك في الدنيا، فتذكر واحذر أن تقول كما قال الكفار المفرطون: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ (الكهف:٤٩) واحذر أن تقول: ﴿ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ  وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ  يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ  مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ (الأحقاف:٢٥:٢٩) ها أنت في تجربة حية للآخرة خرجت من ملكك وسلطانك، وتجردت من ملابسك فانظر الآن إلى نفسك. تذكر ماضيك وأعمالك السالفة. لقد حملت كل ما فيها من أوزار وأثقال، وها أنت قادم على ربك ليحاسبك. هل أنت راض الآن عما قدمت!!

أم خائف حذر من آثامك وأوزارك، لا تخف فإنك الآن في التجربة وتستطيع أن تتحلل اليوم من جميع آثامك وتتخلص الساعة من جميع أوزارك. وتصدر وتعتذر فيقبل العذر!! وتندم فيقبل الندم لأنك في التجربة تجربة الآخرة: الحج. وأما غدا، فلا عذر ولا ندم ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ(المرسلات:٣٦)

أسرار التلبية ومعانيها

والآن انطلق إلى بيت ربك. اهتف بأعلى صوتك «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة والملك لا شريك لك» 

هل فهمت ما قلت؟ إنك تعلن الآن أنك استجبت لنداء ربك يوم دعاك على لسان إبراهيم عندما نادى الناس لحج بيت الله وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعلن على المروة قوله «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» إنك تعلن اليوم استجابتك لهذا النداء ثم تعلن أنك قد أتيت قاصدا عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له الملك وله الحمد فهو الخالق الآمر سبحانه وتعالى. فهل أيقنت ذلك عندما أعلنت التلبية، هل أقررت أن الملك لله لا شريك له فخلعت صفة الملك عن الملوك والطواغيت الذين استعبدوا عباد الله فاتخذوهم خولا، وتحكموا في أرزاق الناس، وزعموا أنهم أرباب نعمتهم، وبناة حضارتهم ومجدهم وهل قصرت الحمد لصاحب الملك وحده أم ما زلت تنسب الفضل لغيره وتشكر سواه. إنك هنا في مقام التجريد. تجريد التوحيد والمعرفة الكاملة بحق الله سبحانه وتعالى فتخلص من الشرك بكل صورة، وأكبر هذا الشرك وأعظمه انتشارا نسبة الفضل لغير الله سبحانه وتعالى، وانظر معي كيف فهم صحابة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قضية التوحيد. قال ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:٢٢) هو قول القائل: «لولا البط لسرق الصوص ضفينا البارحة!!» انظر هذه العبارة التي لا تدل بظاهرها في فهمنا اليوم على أي نوع من الشرك. فالبط صاح ليلا فأيقظ أهل الدار فأدركوا اللصوص فمنعوهم من سرقة منزلهم فأصبح رب البيت يحدث بهذا قائلا: «لولا البط......» ونسي أن ينسب البط لله سبحانه وتعالى الذي له الملك والحمد، والذي سخر الربط ليصبح، فأضحى هذا شركا يفسر به ابن عباس الآية السالفة فأين هذا من نسبة الخير والتقدم والازدهار إلى ملوك الأرض وجبابرتها من الذين يفسدون أكثر مما يصلحون ومع ذلك يسبح بحمدهم ليل نهار، وينسى الخالق صاحب الملك والحمد، فلب أيها الحاج قائلا: «إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» مذكرا ذلك مجردا الحمد لله وحده فكما أنه ليس هناك شريك مع الله خلق وملك فكذلك لا ينبغي أن يكون هناك شريك يحمد بما يفعله الله سبحانه وتعالى وييسره ويقدره.

وأعل صوتك أيها الحاج بهذا الدعاء فإنه حقيقة الحج ومغزاه، وتذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث سأل من واد من الأودية بين مكة والمدينة فذكر له اسمه فقال: «كأني بموسى بن عمران على ناقة خطامها ليف وله جؤار إلى الله بالتلبية» وتذكر أيضا أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصلوا «الروحاء» وهي على بعد سبعين كيلومترا من المدينة فبحت أصواتهم من كثرة التلبية، فلب وتذكر هذه الحقائق وتيقن هذه المعاني.

الحجر الأسود وحكمة تقبيله

قيل إن الحجر الأسود قد نزل من الجنة، وقيل إنه يشبه يمين الله في الأرض وقيل إنه كان أبيض من الثلج فسودته خطايا بني آدم وكل هذه أقوال ساقطة لا تثبت، وكل ما ثبت أن الرسول قبله قبل البدء بالطواف، وقبله بعد أن صلى ركعتي الطواف وأنه كان يستلمه بيده ثم يقبل يده، وأن عمر قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. فما الحكمة من تقبيل الحجر الأسود؟  نستطيع أن نقول إنها العبودية والامتثال والاختبار ويكون هذا الجواب صوابا وقاطعا للجدل، ولكننا بسبيل معرفة أسرار هذه العبادة العظيمة، ليكون إتمامنا لها على الوجه الأكمل. أرأيت السجود ليس عبادة الله تبارك وتعالى؟ أوليس فيه من معاني الذل والخضوع ما فيه؟ حتى أنه أكمل وضع دال على العبودية معبر على كمال الفقر والذل. ولذلك كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، نسب المسجد الحرام إلى الله فقيل بيت الله ونسبت الكعبة إلى الله فقيل عنها بيت الله، وهذا البيت لله تبارك وتعالى قد أمرنا بأن نقصده من أي مكان نكون فيه، وأن نتوجه إليه بصلاتنا حيث كنا، إن هذا البيت رمز حسي لتقريب حقيقة الإيمان من الفهم وتجسيده في الشعور والوجدان والقلب. وإذا كان عباد الملوك يعظمونهم فيقبلون أعتاب بيوتهم ودواوينهم عند دخولها. وهذا شرك فالرب أحق بذلك، وعتبة بابه هي الحجر الأسود ولم تلتصق بالأرض حتى لا يكون الوصل في الطواف إليها متعذرا بل رفعت لتكون بمستوى الركوع، فاركع أيها الحاج وقبل الحجر فإنه عتبة بيت ربك وهو رمز لذلك ولا تستكبر من هذا فأنت تسجد لربك، والسجود أبلغ من هذا ولذلك كله كان تقبيل الحجر الأسود هو العمل الأول في دخول البيت بل هو العمل الأول في العمرة والحج مطلقا، في الحرام تمهيد وتهيئة فقط للعبادة، والتلبية إعلان عن الاستجابة، والعمل الأول هو تقبيل عتبة باب بيت الرب أو تقبيل الحجر الأسود ونحن هنا لا نعبد الحجر، ولا نعظمه لذاته وإنما نعظم صاحب البيت، ورب الحجر، كما أن عابد الملوك والبشر يقبل الأرض بين أيديهم لا عبادة للأرض ولكن عبادة لذلك الإله الصغير من البشر المتربع على ما يسمى بالعرش والكرسي!!

فالله أولى سبحانه بل هذا من حقوق الله فلا يعرف لغيره ولا يعطى لسواه. والحجر الأسود رمز ليس إلا، رمز حسي لعتبة بيت ملك الملوك دخلت أيها الحاج بيته وقبلت عتبته كناية عن ذلك وخضوعك لربك، فقبل الحجر بعد كل دورة من الطواف إن استطعت ذلك، ثم صل ركعتين في مقام إبراهيم ثم عد إلى الحجر فقبله ختاما لطوافك، واستشعر هذه المعاني كلها فإنك الآن بأشرف مكان، وأقدس بقعة، إنك بجوار بيت الله، الذي لا شريك له الذي له الحمد والنعمة والملك وحده.

الطواف والسعي

الطواف والسعي حلقتان من حلقات المناسك والمشاعر تدلان على معنى واحد في البداية: الطلب الدعاء، طلب العبد الذليل يطوف خاشعًا حول بيت ربه. أعطني، آتني!! إنني فقير أتيت من بلاد بعيدة، وهذا بيتك يا رب، وها أنا ذا أدور حوله، ودوراني حوله تعبير عن الحاجة والذل، أدور سبع دورات، وأطلب سبع مرات وأؤكد حاجتي وفقري «ربنا اَتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» بهذا الدعاء الجامع المانع دعا رسول الله بين ركني البيت اليمانيين وليس هناك مكان خير من هذا المكان للدعاء وهؤلاء الطائفون جميعهم عربا وعجما نساء ورجالا قد جاءوا ليعلنوا فقرهم الذاتي واحتياجهم الحتمي الأبدي لخالقهم ومولاهم سبحانه وتعالى.

وهناك على بعد أمتار من البيت يقوم جبل الصفا مبدأ السعي يبتعد الحاج من البيت فيصعد فوقه ويشرف

على البيت ليعلن:

«الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» فقد أنجز الله وعده لمحمد في أتم نعمة عليه وعلى المسلمين جميعا وهي إنجاؤه والمؤمنين في غزوة الأحزاب التي استهدفت استئصال الإسلام من جذوره وذلك باستئصال المسلمين جميعهم تتولى الله بنفسه الدفاع ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (الأحزاب:٢٥) هذه نعمة الله على رسوله محمد وعلى الصحابة معه وعلى المؤمنين جميعا إلى يوم القيامة، فلو استؤصل الإسلام يومئذ لما اهتدينا ولا عرفنا طريق الله تبارك وتعالى، ولكن أفرادا من هذا القطيع الهائم في الأرض لا يعرف إلا بطنه وفرجه وحاجته الدنيوية فحمدا لله على نعمته. وإذا كان الله قد استجاب لرسوله صلى الله عليه وسلم دعوته وأنجز له وعده، وهزم الأحزاب وحده فهي نعمة تشكر الله عليها هنا عند بيت الله، لأنه لولا هذه النعمة لما كنا إلا أنعاما أو أضل وإذا كان الله ينجز وعده، وينصر عبده، فإن ما طلبه كل طائف سيتحقق ما دام أنه في الحق والاعتدال.

ويقف المسلم على الصفا حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد الله بهذه النعمة وهو ينظر إلى بيته، وكأنه يقول: يا صاحب البيت أشهد بنعمتك، وأقر بفضلك وحدك، فقد حميت الإسلام حتى وصلنا، فقد نصرت رسولك وحدك، وهزمت الأحزاب وحدك وعلى هذه الشهادة بعيدة عن البيت نسبيا، موحية بأننا نشكر لله على البعد.

ويأتي الطلب في الطواف لأنه موطن الطلب وذلك بمناسبة القرب.

ويكرر الحاج دعاءه ذلك على المروة كما بدأه على الصفا، وهو ينظر إلى البيت ليؤكد المعنى لنفسه أيضا حتى يستقر الأمر في حسه ويتمكن من قلبه، فتطرد الشكوك، وتنتفي الوساوس.

وهذا السعي حركة عجيبة تشعر بالحاجة والجد في طلب الخير، والاجتهاد في الشكر ويتوج السعي الصعود على الصفا من جهة، والصعود على المروة من جهة ثم النظر إلى البيت ومعنى ذلك الترقب: ترقب الاستجابة واليقين بالاستجابة لأنه البيت، هذا هو انظر إليه بيت الله، وبهذه الرؤية الحسية يتضح للقلب معان من الإيمان ما كان ليبلغها بمجرد الاعتبار والنظر العقلي والدليل المنطقي فإن هذه الرؤية الحسية تسكب في القلب مشاعر وأحاسيس يستحيل النظر العقلي والدليل المنطقي أن يبلغها.

الحلق والتقصير ما حكمة ذلك؟

تجرد الحاج من ملابسه ولبس اللفائف «ملابس الإحرام» وأعلن ملبيا أنه قد استجاب نداء الله بحج بيته وأعلن أن الملك والنعمة والحمد لله وحده، ودخل البيت فقيل عتبته «الحجر الأسود» وطاف فطلب واستشعر الذل والخضوع والحاجة وسعى وهرول وصعد على الصفا والمروة، يعلن شكره لربه وخالقه ولم يبق من معاني عزته واعتداده بنفسه إلا الشعر.

كانت العرب تجز ناصية الأسير كناية عن إذلاله، وما زال هذا التقليد معمولا به في السجون يجزون شعورهم كناية عن إذلالهم وإخضاعهم والحاج قد جاء ليتجرد أمام الله سبحانه وتعالى من كل شيء ويعلن خضوعه كاملا وذلته تامة ولذلك فإنه يقدم رأسه في ختام مناسك زيارته لبيت ربه ليحلقه ليجز، ها أنا ذا يا رب أقدم آخر مظهر من مظاهر عزتي، شعري فلا عزة لي بغيرك، وذلي لك هو العزة بعينها فمن ذل لك اعتز ومن تأبى عليك ذل كائنا من كان. ألا تقرأ قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾  (الحج: ١٨).

ومن يهن الله أي فلا يوفقه في السجود له فلا مكرم له، فالمتأبي على السجود مهان مبعد، والساجد مكرم معزز لأنه عابد لربه تبارك وتعالى وكل من عبد الله واتصل بمحبته ومرضاته عز وأفلح، وكل من انقطع حبل وصله بالله فإنه تائه هالك لا رب له ولا مولى له ولا ناصر له ولا معز له.

وها أنت أيها الحاج تقدم رأسك في ختام زيارتك لبيت ربك ليحلق، والحلق كناية عن الذل الخالص ولذلك دعا الرسول للمحلقين ثلاثا وأما التقصير فهو أقل درجة وليس فيه من معاني الذل ما في الحلق فلذلك لم يكن في الأجر والمثوبة مثله» اللهم اغفر للمحلقين «قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال «اللهم اغفر للمحلقين» «قالوا: والمقصرين يا رسول قال» اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال» و«المقصرين»

فالتعبير الذي تريده أيها الحاج ذلك وخضوعك فاختره، الحلق أو التقصير، وقد عرفت ما يرمز له الحلق وما يرمز له التقصير.

والآن عرفت نفسك، وعرفت ربك، وانقلبت المعاني القلبية إلى مدركات حسية لمستها وشاهدتها وسمعتها فافهم هذا واحرص عليه والآن البس ملابسك وأنه شعثك وغبرتك وتفثك، فقد تمت عمرتك واستعد للرحلة الثانية والمرحلة القادمة: الحج!!

عبد الرحمن عبد الخالق

***

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حج المَدين.. صحيح أم باطل؟

نشر في العدد 2122

56

الأربعاء 01-أغسطس-2018

الحج.. وهموم الأمة

نشر في العدد 2122

43

الأربعاء 01-أغسطس-2018

الحـج.. ووحـدة الأمــــة

نشر في العدد 2181

43

السبت 01-يوليو-2023