العنوان أنا.. وهي.. ورمضان
الكاتب د. أحمد عيسى
تاريخ النشر الخميس 01-يونيو-2017
مشاهدات 20
نشر في العدد 2108
نشر في الصفحة 34
الخميس 01-يونيو-2017
هذه المقالات المشتركة تعبر عن حالات زوجية رمضانية، تركنا القلم بين أيدينا ليفصح كل منا عن مشاعره، ولتشهد الصفحة الواحدة ذات الشقين المتعانقين مدى الاندماج الزوجي الذي يرفع شهر رمضان قدره ويزيد أثره.
أنا الفرار واللجوء
ألم تجدي – زوجتي - في مبادرة الصائمين إلى الإمساك عن الطعام فراراً إلى الله بالصيام طاعة؟
كيف يشعر اللاجئون في غربتهم وافتقادهم الوطن حيث كان هذا الشهر ذا طعم مختلف؟
علينا في رمضان أن نفر من تضييع الأوقات إلى استثمارها ولجوئنا إلى أمن الله
تذكرني زوجتي ونحن في رمضان مشاهد الذين فروا وهُجّروا، وهاجروا، وأُخرِجوا من ديارهم، والذين يبحثون عن ملجأ، والذين وجدوا ملجأً، والذين رُفِض لجوؤهم، والذين يفتشون في بقاع الأرض عن مكان آمن من خوفهم، وسكن من شتاتهم، وقرار من حيرتهم، وطعمة من جوعهم، تذكرني تلك المشاهد بصراع الخير والشر، والحق والباطل، وكيف تكون الهجرة ديناً، فراراً بالدين لأجل الدين.
تلك هي الهجرة الحقيقية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهل من وجه شَبَهٍ وتلاقٍ بينها وبين مشاهد اللاجئين، وزمن المظلومين، وفرار الحائرين؟
من أوجه الشبه في الهجرة إلى الحبشة، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخروج الصحابة هروباً بالدين من أذى قريش إلى أرض الحبشة مادحاً ملكها أصحمة الحبشي بأنه ملك لا يُظلم عنده أحد، فخرج عدد من المسلمين في الهجرة الأولى في رجب من العام الخامس للبعثة، ثم الهجرة الثانية، فذكرت كتب السيرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه».
ففروا إلى الله
وفي رمضان يكون الفرار إلى الله واللجوء إليه، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50}) (الذاريات)، قال الطبري: اهربوا من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان، واتباع أمره والعمل بطاعته، وقال القرطبي: ففروا من معاصيه إلى طاعته، وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم، ومن المعاني الجميلة قول الجنيد: الشيطان داعٍ إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه، وجاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ففروا إلى الله»؛ أي اخرجوا إلى مكة، وعن عروة بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم، وقال السعدي: سمى الله الرجوع إليه فراراً؛ لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المَحابّ والأمن والسعادة والفوز، وكل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه.
وفي الفرار لجوء إلى الله، وإن كان مصطلح اللجوء لم يرد صراحة في القرآن الكريم، لكن يوجد له ما يماثله مثل: الاستجارة، والاستئمان، الهجرة، أين السبيل؛ (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) (التوبة: 6)، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) (البقرة: 125)، (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الحشر: 8).
من بين هذه المعاني يطل رمضان علينا بنفحاته وجماله، ولكن يقع المرء في مشاعر كثيرة، تدعو إلى التدبر والتفكر والإشفاق العميق على من فر وهاجر ولجأ، والأسئلة التي تأتي في رمضان: كيف يشعرون في غربتهم وافتقادهم الوطن حيث كان هذا الشهر ذا طعم مختلف؟ ماذا يأكلون؟ كيف يصلون؟ كيف يجتمعون؛ وهم بين مرحَّب به أو غير مرحَّب، أو بين آمن وخائف، وجائع وطاعم؟!
مع فرارهم مما يخافون إلى حيث يأمنون كما جاء عن عثمان رضي الله عنه، أليس هناك وجه شبه في حالتنا حين نفر في رمضان من العقاب إلى الرحمة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن أنفسنا إلى ربنا، وتسبّح صدورنا: «وعجلت إليك رب لترضى»؟
رمضان كله فرار
علينا أن تكون أوقاتنا كلها في رمضان فراراً إليه ولجوءاً، فراراً من تضييع الأوقات إلى استثمارها، ولجوءاً إلى أمنه وكلئه.
يا الله.. نفر إليك من أنفسنا الأمارة بالسوء، الجهولة، الظلومة، المخدوعة بزخارف الدنيا.. إليك حيث طاعتك ورحمتك والطمع فيما عندك من جزاء عظيم وخلود مقيم.
يا الله.. نفر إليك من أنفسنا حين تصوم عادة، فتصوم عبادة، وحين تصلي لاهية، فتصلي خاشعة، وحين تنفق رياءً، فتنفق إخلاصاً!
يا الله.. هو ابن سبيل انقطعت به الطرق وامتدت الأسلاك الشائكة حول الحدود، وأنا كذلك ابن سبيل قطع الشيطان عليَّ طريق التوبة والإنابة والرجوع إليك، فسهّل يا الله رجوعنا إلى وطن الأمان، وأمان الإيمان!
ألم تجدي في مبادرة الصائمين إلى الإمساك عن الطعام فراراً إلى الله بالصيام طاعة، ورجوع قوافل الجماهير إلى طعام الإفطار في نفس الوقت، فراراً إلى الله بالإفطار طاعة كذلك؟
وحين يتوافد المسلمون من كل صوب إلى المساجد للصلاة خاصة العشاء والتراويح فراراً إلى الله بالسجود طاعة؛ (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {19}) (العلق).
وكذلك تنافسهم في إطعام الطعام وإخراج الزكوات والصدقات وفك الكروب؛ فراراً إلى الله بالإنفاق.
ويأتي وقت اللجوء القلبي والجسدي في بيت الله بالاعتكاف الذي هو قمة اللجوء إلى الله وطلب الأمان من الله، يترك المعتكف بيته وأهله، مما يشابه رحلة الحج إلى بيت الله العتيق، يفرغ الذهن من هواجس الدنيا؛ ليتفرغ إلى رضا الرحمن الرحيم، ويهتف قلبه: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك».
هي
إنه الفرار إلى الله في شهر الفرار واللجوء إليه في زمن اللجوء
بريق الأمل يلوح مع بريق هلال رمضان ففيه ترتفع حالات الفرار إلى الله بصدق وإخلاص
نعم - يا زوجي - إنه الفرار إلى الله في شهر الفرار، واللجوء إليه في زمن اللجوء، وما أعظم الفرار إلى ملك الملوك سبحانه وتعالى والاحتماء بجنابه نستمد منه القوة، ونشعر في القرب منه بالأمان، ونشكو إليه ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
أتذكَّر كيف يفر المرء منا من أمراض الأبدان المعدية خشية انتقالها إليه، ويأخذ التطعيمات المضادة لها خوفاً من الإصابة بها، ويفر كثير من النساء بل والرجال إلى حيث رشاقة الجسد باتباع النظام الغذائي القاسي الذي تُحرم معه النفس من كثير من ملذاتها وشهواتها خشية الإصابة بالسمنة، وهذا كله حرصاً على سلامة الأبدان وقوتها؛ لأن «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أضاف لذلك فراراً إلى الله تعالى فساعد بفضل قوته ضعيفاً أو محتاجاً، وأطعم ما تركه من الطعام حمية لفقير جائع أو مسكين بائس لكان عمله ذلك فراراً إلى الله من شح البخل إلى حيث العطاء وسد الحاجة، ولو قام بإصلاح قلبه والحفاظ على سلامته فراراً من أمراض القلوب المهلكة كالشرك والرياء والعُجب والكبر والغل والحسد وغيره؛ لتمتع بقلب قوي وبدن سليم.
وكذلك يفر كثير منا من الفقر وذل الحاجة إلى حيث الغنى والثروة، وقد نسي القناعة، فيصل ليله بنهاره في العمل دون توقف، فينسى معه في غمرة انشغاله الفرار الحقيقي إلى الله عز وجل فيضيع صلاته، ويهجر مصحفه، وينسى والديه، ويقصر مع زوجه، ويهمل أولاده، ويقطع رحمه، وكأنه يعيش ليعمل، وليس يعمل ليعيش!
كما تفر بعض النساء من الله، وليس إليه، حين تكون ضعيفة أسيرة لملبس لا يرضاه ربها، أو زينة تفتن بها الرجال، ولو فرت إلى الله حقاً لسمعت وأطاعت حين قال لها: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31)، ولآثرت أن تكون في ركب أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنات؛ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59).
شهر الفرار الحقيقي
إن شهر رمضان هو شهر الفرار الحقيقي إلى الله تعالى، بما فيه من طاعات وعبادات تجتمع فيه، ويزيد فضلها مع شرف الزمان فيضاعفها الله لمن يشاء، وفيه يفر الصائم إلى ربه حين يشعر بالجوع والعطش؛ فيحس بآلام الجائعين الذين لا يجدون ما يسد جوعهم أو يروي ظمأهم؛ فيفر إلى الله بإطعامهم والنفقة عليهم فيشبع حين يشبعهم، يتذكر فرارهم من بلدانهم خوفاً من الفتنة في الدين وحفاظاً على ذراريهم من الهلاك؛ فيلجأ إلى الله طالباً لهم النجاة والستر، والعودة والنصر.
أتذكر حالنا في رمضان وقد تغيرت خارطة العالم مع ما آلت إليه حال كثير من المسلمين من ضعف وهوان وتفرق وشتات، فألجأ إلى الله أن يزيل الغمة ويعيد نصر الأمة، ورمضان فرصة لصدق اللجوء، فللصائم فيه دعوة مستجابة، لا بد للصائم ألا يضيعها؛ فيدعو ربه ويلجأ إليه حتى يعود الغائب ويرجع الطريد ويعانق تراب وطنه، ويأمن الخائف فيمشي دون أن يلتفت، ويُحرر السجين دون أن تمزقه سياط الجلاد، ويطعم الجائع حتى الشبع، ويشرب حتى يرتوي، ويخرج الوليد من بطن أمه دون أن تقطعه سكين الظلم، فيُرفع الظلم ويعود العدل والميزان، فما أعظم الحاجة إلى الفرار إلى الله من هذا كله واللجوء إليه ليفرج الكرب.
ومع كل ذلك، فإن بريق الأمل يلوح ويلمع مع بريق هلال رمضان، ففيه ترتفع حالات الفرار إلى الله لأقصى معدل لها في السنة، ويحصل اللجوء إليه بصدق وإخلاص وتكرار وإلحاح، من نفوس تعلقت بالله وفرَّت إليه بالجوع في نهار رمضان وبالقيام في لياليه، وبالصدقة والأخوة والإيثار، وبالقرآن والذكر والاعتكاف، تدعوه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وتلجأ إليه أن يحفظها من نفسها ومن كل أعدائها، تستعيذ بالله من الشرور والآثام، وكما بدأت رمضان بالصيام فإنها تنهيه بصدقة الفطر فراراً إلى الله من أي لغو أو شائبة حصلت في الصيام، فما أعظمك يا الله إذ تفضلت علينا بشهر رمضان.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل