; أيام في الجزائر  (3) | مجلة المجتمع

العنوان أيام في الجزائر  (3)

الكاتب د. محمد بن موسى الشريف

تاريخ النشر السبت 03-مايو-2008

مشاهدات 23

نشر في العدد 1800

نشر في الصفحة 36

السبت 03-مايو-2008

زرت الجزائر للمرة الرابعة من أجل المشاركة في الندوة الدولية للإعجاز في الكتاب والسنة، التي أقيمت في ربيع الأول من سنة 1429هـ، مارس 2008م، وكانت في مدينة «سطيف» التي هي في أعالي الجبال، وأكثر أهلها من البربر الذين امتزج الإسلام والعروبة بروحهم وعقلهم، وقدموا تضحيات جليلة رائعة تجلت في حوادث كثيرة، ووقائع جليلة على مدار تاريخ الإسلام، ودافعوا عن الإسلام دفاعاً مجيداً.

ولعل من آخر تضحياتهم ما قدموه في 8 مايو1945م حيث قتل منهم «المستخرب» الفرنسي عشرات الآلاف، وقد سعدت أيما سعادة بهذه المشاركة التي عمّقت في نفسي أن شعب الجزائر متعلق بالإسلام ومحب له أعظم الحب، هذا بعد قرن وثلث القرن من «الاستخراب» الفرنسي البغيض، فما شاهدته في هذه الرحلة شيء عجيب.

وتفصيل ذلك أني تحدثت مع بعض طلاب الجامعة في الجزائر العاصمة في سكن لهم فاجتمع عندي قرابة الألف، ولم يتحركوا إلا بعد فراغي في التزام وأدب عجيبين، ولا تسل عن مشاعر الحب التي أبدوها والاستجابة التي ظهرت على وجوههم.

ثم طارت بنا الطائرة إلى «سطيف» التي تلقانا أهلها بالبشر والترحاب، وابتدأت الندوة في اليوم التالي في جامعتها، وقد عقد في اليوم الأول عدة جلسات، والجلسة الأولى تكلم فيها الشيخ الدكتور عبدالله المصلح، وعالم فلك جزائري، وكنت المتحدث الثالث، فجاء من أسرّ في أذني أن هناك أعداداً ضخمة من الطلاب والطالبات قد حُجِزوا خارج المبنى وهم يصرون على الدخول، وطلب مني أن أكلمهم ليهدأوا، فجئتهم وقد حيل بينهم وبين الدخول بأبواب زجاجية كادوا يحطمونها ضرباً بأيديهم ليدخلوا ويستمعوا، وذلك لأن القاعة التي عقدت فيها الندوات صغيرة نسبياًً، ولم تكن هناك شاشات عرض خارجية، فطلبت من الأمن أن يفتح الأبواب وطلبت مكبراً للصوت فلم يوجد!! فطلب مسؤول كان معي من الطلاب أن يجتمعوا في قاعة أخرى لأتحدث إليهم، وطلبت من هذا المسؤول أن يعجل بكلمتي في المؤتمر لأذهب لأحاضر الطلاب في القاعة الأخرى.. وهكذا جرى الأمر، لكني لا أكتمكم أني لم أر في حياتي مثل هؤلاء الطلاب الذين اجتمعوا وهم أكثر من ألف خارج القاعة في هواء بارد، وثلج كان قد اجتمع من تساقط يوم سابق، وهم لا يأبهون بهذا، ولا يكفون عن الطرق على الأبواب طلباً للدخول، حتى كادوا يحطمونها!!

فلما ذهبت للمحاضرة في القاعة الأخرى وجدتها أكبر قليلاً من قاعة المؤتمر ومع ذلك كان مئات من الطلاب واقفين  داخل القاعة وخارجها، فكان منظراً لا ينسى، حتى أنني كنت جالساً بجوار مدير الجامعة على المنصة فمال علي قائلاً: إن هذا اليوم مشهود، ولم أر مثله في تاريخ الجامعة، وتحدث في القاعة الشيخ المصلح ثم انصرف بعد أن عرض عرضاً شيقاً بالحاسب الآلي بعض وجوه الإعجاز، وتحدث حديثاً طيباً وتفاعل مع الحاضرين كعادته، ثم تكلمت مع الطلاب عن مهمة الطالب الجامعي، وما هو المنتظر منهم، وكيف يصلون إلى مرادهم، ثم خرجت مودعاً لهم متعجباً من عاطفتهم وإقبالهم، الذي هو منقطع النظير.

بـلد الشهيـد

ثم أُخذت إلى «عين مليلة»، وهي بلدة في الجبال تبعد عن «سطيف» قرابة 200كم، وهي تقع بين باتنة عاصمة الأوراس وقسنطينة عاصمة الشرق، وهي مدينة صناعية فلاحية تتبع ولاية «أم البواقي» إحدى الولايات الـ 48 في الجزائر، وهي بلد الشهيد ـ إن شاء الله تعالى ـ محمد العربي بن المهيدي أحد الستة الذين فجروا الثورة الجزائرية، وكان فيما يحكى عنه صواماً قوّاماً رحمه الله تعالى، وقد قتله الفرنسيون تحت التعذيب في 3 مارس 1957م، قتله قائد فرنسي يدعى «بيجار»، وقال عنه: لو كان عندي ثلة من أمثال العربي المهيدي لفتحت بها العالم.

وقد كان لي في هذه المدينة محاضرتان في يوم الوصول: إحداهما: في قصر الثقافة بعنوان: القرآن هدايته وإعجازه، والأخرى: في جامع الصحابة وهو ضخم، وكانت المحاضرة عن أثر المرء في دنياه، ولا تسل عن إقبال الناس منقطع النظير، وعن أدبهم مع المحاضر، ومكثهم في مكان المحاضرة حتى يغادر المحاضر.

ثم توجهت إلى «عين البواقي» للعشاء عند الوالي، وللمبيت في منزله تلك الليلة استعداداً للذهاب في اليوم التالي إلى قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، وهي مدينة الجهاد والمجاهدين، وقد صمدت سبع سنوات أمام الغزو الفرنسي الهمجي منذ سنة 1830-1837م، واستغاث أهلها طويلاً ولا مغيث إلا محاولات عثمانية لم تُجْدِ شيئاً، وقد قدمت المدينة قوافل من الشهداء في الثورة الجزائرية الحديثة منذ الفاتح من نوفمبر سنة 1374هـ/ 1954م إلى خروج «المستخرب» الفرنسي إلى غير رجعة إن شاء الله سنة 1382هـ/  1962م ولقد بقيت فيها يوماً وليلة كانا حافلين بمحاضرات عديدة، ابتدأت أولاها في جامعة «مينتوري» في قسنطينة، وهي جامعة علمية، وجئت القاعة وقد امتلأت تماماً والطلاب الواقفون بالمئات، فبقيت أحدثهم وأجيب عن أسئلتهم أكثر من ساعتين وكان الحديث حول مهمة الطالب الجامعي، وجاءهم الدكتور عبدالله المصلح في نهاية كلامي وبقي قرابة الساعة يتحدث، هذا والقاعة غاصة بالناس، وقد قلت للطلاب: إني محرج بسبب وقوف كثير منكم مدة طويلة، فقام شخص وقال: نحن في راحة وسعة، فتكلم كما تشاء! ثم بعد ذلك أُخذت للغداء، ومن ثم أخذت إلى لقاء مع طلاب كلية الشريعة في جامعة الأمير عبدالقادر الجزائري في قسنطينة، وكان الحديث يدور حول أهمية طلب العلم الشرعي، وما ينبغي لطالب العلم صنيعه في وقت الطلب، وماذا سيعمل في مستقبل أيامه بعد تخرجه، وكانت طالبات الشريعة حاضرات فنصحتهن نصائح خاصة بالمرأة، ونبهتهن إلى قضية «حجاب الموضة» التي أخذت بالانتشار في الجزاير، وواجبهن في مقاومتها، ومن هنالك أخذت إلى قاعة ضخمة اجتمع فيها طلاب الشريعة الذين لم يتمكنوا من حضور اللقاء السابق، فاقترحت أن يكون لقاءً «مفتوحاً» أجيب فيه على أسئلة الطلبة الكثيرة، وكانت أسئلة فقهية في أكثرها، ثم صليت المغرب في جامع عقبة بن نافع في «الخروب»، وهي منطقة قريبة من قسنطينة، وتحدثت عن «الأمة بين الأمس واليوم» وكان المصلون كثيرين، وأبدوا من العواطف الشيء الكثير على عادة الجزائريين.

«قسنطينة» وجسورها العجيبة

ثم بعد العشاء ذهبت إلى السكن الجامعي لإلقاء محاضرة أخرى فما فرغت من المحاضرة والأسئلة إلا قرب منتصف الليل، ثم في اليوم التالي زرت معهد الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله تعالى للقراءات وعلوم القرآن، ودرت في قسنطينة متفرجاً على جسورها العجيبة المقامة فوق أودية عميقة، ومنها الجسر الحجري الذي لا مثيل له في العالم اليوم خاصة بعد أن دمّر الصرب جسر موستار الحجري الشهير، ثم ركبت الطائرة عائداً إلى الجزائر العاصمة، حيث بت فيها ليلة عدت بعدها إلى الوطن.

ولي ملاحظات على ما شاهدته في هذه الرحلة:

1ــ الإقبال العجيب من الشعب الجزائري على المحاضرات والدروس، وهذه ميزة لهذا الشعب لم أرها في أي شعب آخر، وينبغي الاستفادة من هذا الحماس في تقويم المسيرة الإسلامية لهذا الشعب.

2ــ ندرة أو انعدام الرموز الشرعية التي يجتمع عليها الشعب، وهذا عجيب، وربما لم أر مثل هذا في أي شعب آخر!! وهذا الأمر لابد له من علاج حتى لا تعود الفتن إلى أرض الجزائر من جديد لا قدر الله، وقضية ندرة الرموز تكاد تكون متفقاً عليها بين كل من قابلتهم من الخواص والعوام، والله المستعان.

3ــ الحجاب هو الأصل في النساء هنالك ولله الحمد، وإن كان «حجاب الموضة» قد غزى كثيراً من نسائهن لكنهن يبقين أحسن حالاً من مثيلاتهن في بعض البلاد العربية الأخرى.

وأقترح أن يكثر المشايخ الواعون المعتدلون من زيارة الجزائر وتثبيت أهلها، والدوران في ربوعها وعظاً وإرشاداً، وتعليماً وتوجيهاً وتوعيةً، فالقوم في أمسِّ الحاجة إلى ذلك، والله أعلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرابط المختصر :