; الأزمة السودانية البريطانية.. هل تقف عند حد طرد السفير البريطاني؟ | مجلة المجتمع

العنوان الأزمة السودانية البريطانية.. هل تقف عند حد طرد السفير البريطاني؟

الكاتب المحرر السياسي

تاريخ النشر الثلاثاء 11-يناير-1994

مشاهدات 21

نشر في العدد 1083

نشر في الصفحة 30

الثلاثاء 11-يناير-1994

كان الحادي والثلاثين من ديسمبر الشهر الماضي البداية الحقيقية لانفجار أزمة أخرى في سلسلة الأزمات بين السودان والغرب، وذلك بعد أن قامت الحكومة السودانية بطرد السفير البريطاني في الخرطوم بيتر ستريمز على إثر التغيير المفاجئ لبرنامج زيارة كبير أساقفة كانتربيري جورج كاري –والذي كان من المفترض أن يقوم بزيارة رسمية للسودان في ٢٩ ديسمبر الماضي– واعتبار السفير البريطاني المسؤول عن ذلك، وقد وصفت الحكومة البريطانية القرار السوداني «بأنه غير مبرر إطلاقًا» وقامت عن طريق الخارجية – باستدعاء القائم بأعمال السفارة السودانية في لندن عبد الرحمن بخيت الذي قدم بدوره مذكرة تفسيرية لأبعاد وأسباب القرار، ولا يبدو أن الخارجية البريطانية قد اقتنعت كثيرًا بمبررات المذكرة؛ حيث طالبت الخرطوم بمراجعة القرار -إلغاؤه- ووضعت لذلك مدة أقصاها يوم الثلاثاء الرابع من يناير؛ حيث أمهلت بريطانيا السفير السوداني ١٤ يومًا لمغادرة أراضيها.

 من جانب آخر أشارت المصادر السودانية إلى أنها لن تتراجع عن موقفها، إذ إن حيثيات القرار لازالت قائمة. ولم تخف هذه المصادر توقعاتها من أن يسفر الاستمااك بالقرار عن طرد السفير السوداني في لندن، وهو ما ألمحت إليه فعلًا مصادر بريطانية فيما لو كان الرد سلبيًّا، ولعل تأكيد الرئيس السوداني في كلمته التي ألقاها بمناسبة الذكرى ۳۸ لاستقلال السودان في أول يناير الجاري؛ معلقًا على قرار حكومته بطرد السفير البريطاني في الخرطوم، وأنه «ينبغي أن يكون درسًا للحكومة البريطانية» و«أن السودان يريد أن يلقن البريطانيين درسًا بأنه ليس مستعمرة بريطانية».

السيناريو البريطاني

قالت مصادر موثوقة في الكنيسة الإنجليكانية البريطانية في تصريح لها مؤخرًا بأن الاتفاق على زيارة كبير أساقفة كانتربيري والقائد الروحي لأكثر من ٧٠ مليون أنجليكي نصراني – جورج كاري للسودان قد تم في نهاية الشهر الماضي، وقد تمت المحادثات التمهيدية للزيارة في الخرطوم بين مساعد كاري الأول روجر سايمون والقس جبرائيل جور وزير الشئون الخارجية السودانية. وقد أبدى جور الموافقة التامة لزيارة كاري للخرطوم ومناطق أخرى، ورحب به ضيفًا على الكنيسة الإنجيلية بالسودان.

وتشير هذه المصادر إلى أن الحكومة السودانية لم تبد أي اعتراض؛ لأن يكون منزل السفير البريطاني ستريمز هو محل إقامة الضيف طوال فترة إقامته في البلاد. كما لم تبد اعتراضها كذلك على رغبة كبير الأساقفة في زيارة المناطق النصرانية «المتمردة» في الجنوب، وتقول هذه المصادر: بأنها فوجئت في الحادي والعشرين من ديسمبر الشهر الماضي بطلب من الحكومة السودانية؛ لأن تكون زيارة كبير الأساقفة رسمية للبلاد بدلًا من أن تكون على شرف الكنيسة الإنجيلية في السودان، وأن يكون قصر الرئاسة محل إقامته بدلًا من منزل السفير، وعندما رفض الأسقف كاري العرض، ودخل رغم ذلك إلى مناطق الجنوب الأسبوع الماضي عن طريق كينيا، قامت الحكومة السودانية من جانبها بإشعار السفير ستريمز بضرورة مغادرة البلاد؛ وذلك خلال مدة لا تتعدى الأسبوعين.

السيناريو السوداني

قالت مصادر سودانية موثوقة في تصريح خاص بالمجتمع: بأن الاتفاق على زيارة كبير الأساقفة قد تم في نهاية العام الماضي، وذلك بعد أن ألتمس رؤساء الكنيسة الإنجيلية في الخرطوم الإذن بالسماح لهم بدعوة زعيمهم الروحي لزيارة السودان؛ وذلك أسوة بزيارة البابا للخرطوم في مطلع العام الماضي، وقد وافقت الحكومة على الزيارة، وتم الاتفاق على ترتيبات برنامجها، وتشكلت لجنة بهذا الخصوص برئاسة محمد الأمين خليفة وعضوية عدد من كبار رجال الكنيسة، وأكدت هذه المصادر بأن الاتفاق على بنود البرنامج كان كاملًا حتى منتصف ديسمبر الماضي، وإلى أن التقى السفير البريطاني في السودان بالأمين خليفة، وأبلغه باقتراحه أن تكون إقامة كبير الأساقفة بمنزله؛ حيث يتولى هو شخصيًّا الإشراف على برنامج زيارته، وقد أبلغ السفير ستريمز في حينه بأن ذلك مخالفًا تمامًا لما قد تم الاتفاق عليه مسبقًا، خصوصًا وقد رفضت اللجنة الممثلة للحكومة والكنيسة الإنجيلية الاقتراح، وعندما عرض كبير أساقفة الكنيسة الإنجيلية السودانية بنجامين واني أن يقوم شخصيًّا بترتيب إقامة «الضيف» في منزل الكنيسة اعترض مكتب الأسقف على ذلك، وعلل الاعتراض بأن المنزل يفتقد إلى التسهيلات الخاصة بالاتصالات الدولية، وأن كبير الأساقفة يفضل الإقامة في منزل السفير البريطاني، ولما عرضت الحكومة السودانية توفير كافة مستلزمات وخدمات الاتصال ونحوه، وأرسل الأمين خليفة رسالة إلى «الضيف» عبر السفارة السودانية في لندن بهذا الخصوص، رفض كبير الأساقفة ذلك أيضًا. وقد كان رد الحكومة على هذا الرفض بأنه «لو كانت السفارة البريطانية هي التي ستتولى الإشراف على زيارته، فإن الحكومة ستنسحب بدورها من البرنامج ولن تتدخل بأي طريقة».

مخاوف بريطانيا وتطمينات الخرطوم

نظمت الحكومة البريطانية من جانبها وحسب تصورها لتسلسل أحداث نشوب الأزمة بأن قرار الحكومة السودانية المفاجئ باعتبار كبير الأساقفة كاري ضيفًا على شرفها، ومحاولتها فرض برنامج زيارته تحت إشرافها الخاص، قد تم لعدة أسباب منها:

١- قلق الحكومة السودانية من أن يلتقي كبير الأساقفة برموز معارضة «مسلمة وغير مسلمة».

٢- من أن يكتب تقريرًا خاصة لمنظمة حقوق الإنسان عن وجود تعصب ديني من جانب الحكومة يكره غير المسلمين «النصارى» على اعتناق الإسلام، غير أن المصادر السودانية تنفي مثل هذه الأسباب، وتقول: بأن الحكومة لم تفرض أي برنامج على أسقف كانتربيري، وإنما كان البرنامج قد اتفق عليه مسبقًا بين مكتب كبير الأساقفة والكنيسة السودانية والحكومة، ولم يكن عند الحكومة أي اعتراض لأن يلتقي الضيف بمن شاء، وتؤكد هذه المصادر بأن الخلاف الحقيقي لم يكن برنامج الزيارة، وإنما كان إصرار السفير البريطاني على التحكم في الزيارة؛ وذلك لخدمة أهدافه الخاصة على حد وصف هذه المصادر.

وتشير هذه المصادر– ردًّا على إتهام الحكومة بإكراه غير المسلمين إلى أن هذا محض افتراء؛ لأن الإكراه في الدين ليس من الإسلام في شيء، كما أن عدد منظمات الإغاثة السودانية التابع للحكومة –على حد وصفها– محدود جدًّا مقارنة بعشرات المنظمات الكنسية التي تكره الناس وتمارس عليهم الضغوط، ومن ناحية أخرى يعتقد الجانب البريطاني بأن رفض الحكومة السودانية إقامة «الضيف» في منزل السفير البريطاني في الخرطوم سيمنع تحرك الضيف بحريته، ويجعله تحت إشراف وناظري الحكومة، وقد ردت السفارة السودانية في لندن على ذلك، وقالت في البيان الذي أصدرته بتاريخ ٣ يناير الحالي بأن هذه تهمة غير منطقية.. إذ إن كبير الأساقفة لن يستطيع التحرك بحريته في ظل دول ذات سياسة مستقلة؛ سواء أقام في منزل السفير أو لم يقم... وهذا لو كانت الحكومة تريد فعلًا فرض وصاية على تحرك الضيف، وهذا ما تم نفيه.. وقد طالب كبير الأساقفة الجمعة ٣٠/١٢ وفي كلمته التي ألقاها في إحدى مناطق التمرد بالجنوب – طالب الأمم المتحدة بضرورة «عمل شيء»؛ لوقف الجور الذي تمارسه السودان على أبناء الجنوب النصارى، واعتبرت مصادر سودانية مثل هذه الدعوة تخلي صارخ عن دور كبير الأساقفة المزعوم، كرجل سلام، وتحوله إلى صاحب حملة صليبية مسعورة.

الأبعاد الحقيقية وراء طرد السفير

لم تخف مصادر سودانية مقربة من الحكومة قولها: بأن قرار طرد السفير لم يكن فقط من أجل موضوع زيارة كبير الأساقفة جورج كاري، وإنما كان نتيجة عدة تراكمات لأنشطة مشبوهة قام بها السفير ذاته طوال فترة عمله في الخرطوم، ويمكن إدراجها تحت عنوان التدخل في الشئون الداخلية، وتشير هذه المصادر إلى عدة أمثلة منها:

١- احتضان وتدعيم رموز معارضة النظام، ويظهر هذا جليًا في زيارة السفير المتكررة إلى مناطق التمرد، وفي احتفالات السفارة التي تستدعي فيها أعدادًا كبيرة من رجالات المعارضة، وتكتفي بدعوة شخصيات بسيطة ممثلة عن الحكومة. وهذا ما لم يكن يحدث في احتفالات أي سفارة أوروبية أخرى في الخرطوم.

 ٢- التحريض المباشر والمنتظم للعديد من سفراء الدول الأوروبية بعدم حضور احتفالات استقلال السودان أو أية احتفالات وطنية أخرى.

٣- عدم تلبية السفير البريطاني بعض دعوات الحكومة لزيارة مناطق الجنوب للتأكد من سلامة أوضاعها السياسية والاقتصادية، مثال ذلك الدعوة التي وجهتها الحكومة لزيارة مدينة واو عاصمة ولاية بحر الغزال بجنوب السودان؛ حيث لبى الدعوة تسعة عشر دبلوماسيًّا من معظم السفارات الأوروبية، بالإضافة إلى الملحق العسكري الأمريكي، وقد حضر الزيارة ممثل السفارة البريطانية الملحق الثقافي جيمس باودن الذي رفض التعليق على نتائج الزيارة للصحافة السودانية؛ بحجة أنه «لا يريد أن يقول شيئًا لصالح السودان».

٤- عندما أثارت أمريكا عام ٩٢ قضية محاكمة وإعدام السودان لأحد رجالتها العاملين في وكالة الإغاثة الأمريكية، كان الصوت البريطاني المندد بالحادثة أعلى من الصوت الأمريكي ذاته، وقد كتب السفير البريطاني في الخرطوم رسالة قال فيها: إن السودان ينتهك حقوق الإنسان بصور منتظمة في كل أنحاء البلاد، وقد اعترضت الخارجية السودانية على ذلك في حينه، واعتبرت ذلك تعميمًا وحكمًا غير عادل.

٥- ممارسة السفير البريطاني لبعض الضغوط على الصحافيين البريطانيين الذين يزورون الخرطوم، وذلك كي يتجنبوا كتابة الحقائق عن البلد، وقد حدث أن زار صحافي بريطاني – رفضت المصادر ذكر اسمه – الجنوب «منطقة جوبا» وبيده قائمة بأسماء بعض المتمردين الذين زعمت بعض الجهات بأن الحكومة قد قتلتهم، وفوجئ بهم أثناء تجواله في المنطقة بأنهم أحياء لم يموتوا، وقد عبر عن تجربته هذه في إحدى محطات الإذاعة السودانية، عندما استدعاه السفير البريطاني وقرعه على ما صرح به حتى اضطر الصحافي إلى مغادرة البلد تجنبًا للمشاكل.

بقي أن نشير في الختام إلى أن نسبة السكان النصارى في جنوب السودان لا تتجاوز العشرة في المائة فقط؛ وذلك حسب تقارير غربية عديدة، علاوة على خمسة في المائة من المسلمين والباقين من الوثنيين الذين زارهم كبير أساقفة كانتربيري لتنصيرهم..

الرابط المختصر :