; الأهمية الحركية لغزوة بدر | مجلة المجتمع

العنوان الأهمية الحركية لغزوة بدر

الكاتب نبيه عبد ربه

تاريخ النشر الثلاثاء 24-أكتوبر-1972

مشاهدات 20

نشر في العدد 123

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 24-أكتوبر-1972

لغزوة بدر في تاريخ الإسلام أهمية عظيمة، ليس لأنها أول غزوة انتصر فيها المسلمون على الكافرين فحسب، ولكن لأنها قد حوت من الأحداث الهامة ما جعلها تؤثر تأثيرًا واضحًا في مسيرة الدعوة الإسلامية في كل زمان ومكان، ستبقى آثارها ما دام هناك دعاة لله ملزمون بالأخذ بكتاب الله والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولهذه الأهمية سماها الله -جلت قدرته- «يوم الفرقان».

 وقد ذكرت أحداث هذه الغزوة في مواضع متفرقة في القرآن ونزلت فيها سورة كاملة هي سورة «الأنفال» إلا أن الله ذكر «بدرًا» بالتخصيص في سورة «آل عمران» ليثبت أهميتها ويدلل على عظيم شأنها بالنسبة للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان. ولقد علت منزلة من اشترك فيها من الصحابة -رضوان الله عليهم- حتى كان يُقال «فلان بدري» أو «فلان كان أبوه وجده بدريًا» وحتى قال رسول الله لعمر: «يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم». وقد سأل جبريل رسول الله: ماذا تعدون من اشترك في بدر فيكم، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام، أفضلنا، فقال جبريل: وكذلك من اشترك فيها من الملائكة.

ولا يهمنا هذا العرض التاريخي لهذه الغزوة، لأن ذلك مثبت في كل كتب السيرة تقريبًا، ولكن الذي يهمنا هو البحث المقارن في أحداث هذه الغزوة والذي نقف به على أسبابها ونتائجها وآثارها مما يفيد الحركة الإسلامية في دعوتها ويوضح الرؤية

أمامها.

 1 - طبيعة المعركة بين الحق والباطل

تؤكد غزوة بدر الكبرى للدعاة إلى الله أن المعركة بين الحق والباطل قديمة قدم الإنسانية ومعقدة الأسباب كتعقيد النفس البشرية، فقد بدأت في السماء بين آدم عليه السلام وبين إبليس، وبدأت في الأرض بين «قابيل وهابيل» وستبقى حامية الوطيس ما دامت على هذه الأرض حياة، لأنها معركة الخير مع الشر، ومعركة النفس مع شهواتها، معركة الفئة الصالحة مع الفئة الباغية، إنها معركة الروح مع الجسد والدنيا مع الآخرة.

وتتميز هذه المعركة على مر السنين بأنها كانت سجالًا بين طرفيها، فكان يعتريها المد تارة والجزر أخرى، وتنتاب طرفيها فترات من الضعف والقوة والانتصار والانكسار، فتأتي على البشرية حقبة من الزمن تقوى فيها شوكة الباطل، لا لأن الباطل أقوى من الحق، بل لأن أهل الحق تهاونوا في حقهم، فلم يلتفوا حوله، ولم يعتصموا بحبله، ولهذا يضعف الحق في نفوسهم وتتلاشى قوته الدافعة من حياتهم حتى يظن الجاهلون أنه لن تقوم للحق قائمة بعد ذلك، وما هي إلا أيام حتى تجد هذا الحق يعود إلى الميدان مرة أخرى وهو أصلب عودًا وأقوى شكيمة وأشد مكرًا، فيهزم الباطل وأهله ويرد كيدهم إلى نحورهم ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ.

وهنا يستعلي الإيمان على الكفر وتعلو كلمة الله في الأرض فيخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولكن هذا النور سيبقى وهاجًا ساطعًا ما بقي الإيمان يعمر قلوب أهل الحق، فإذا غفلوا عنه وغرتهم الدنيا بزخرفها، ونسوا أن كلًا منهم على ثغرة من ثغور الحق فلا يؤتين من قبله، يطل الباطل برأسه وتقوى شوكته ويشتد عوده، وفي غفلة من أهل الحق ويجمع الباطل فلوله ويشحذ همم أتباعه ليشنوا حربًا جديدة على الحق وأهله، وإذا لاذ أهل الحق بحقهم فتمسكوا به والتفوا حوله ارتدت جيوش الباطل على أدبارها خاسرة، أما إذا بقي أهل الحق في غفلتهم يعمهون سيهزمهم أهل الباطل حتمًا، ولكن إلى حين.

لقد بقيت هذه الظاهرة واضحة في تاريخ البشرية وضوح الشمس في رابعة النهار، وفي تاريخ الإسلام بشكل خاص، فقد بقي المسلمون في مد وجزر يعزون ويذلون بمقدار بعدهم أو قربهم من الله، فكانوا كلما هيض جناحهم وتكالبت عليهم الأمم يصحون من غفلتهم على أصوات ضربات أعدائهم، ويدركون أنهم ما كان حالهم يصير إلى ما صار إليه إلا لأنهم ابتعدوا عن ربهم وهجروا سنة نبيهم يفزعون إلى الله تائبين ويرتدون إلى الإسلام ردة صادقة فيرد الله لهم عزتهم ومكانتهم، لقد تكررت هذه الظاهرة في حياة المسلمين حتى لكأنها ملازمة لتاريخهم، تكرّرت يوم حنين وفي أثناء غارات المغول والتتار والصليبيين على العالم الإسلامي، ومهما يكن من أمر فإن الضعف الذي ينتاب أهل الحق لا ولن يكون مرده إلى الحق نفسه -لأن الله هو الحق- ولكن مرده إلى ضعف أهله وأتباعه وتخليهم عنه وصدق الله العظيم». ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

وما دامت المعركة بين الحق والباطل قوية الاستمرار عميقة الجذور، فإنها ستحتاج من المؤمنين في كل زمان الكثير من التضحيات، لأن القوة التي يستند إليها الباطل -فتحول دون انهزامه واندحاره- هي قوة النفس الإنسانية الشهيرة التي يدعمها الشيطان بخيله ورجله وتدعمها الدنيا بمتاعها وزخرفها وشهواتها، ولهذا فلا بد أن يبقى المؤمنون في حالة نفير دائم، لا بد أن يعرفوا مصادر القوة في أعدائهم، ولن يمنحهم قوة الاستمرار هذه إلا إذا استندوا دائمًا إلى قوة الله الأزلية التي تمدهم بإيمان لا يلين، وبعزم لا يستكين وبطاقة لا تعرف الضعف والخور، ويقينًا أن أي قوة غير قوة الإيمان والعقيدة لا ولن تنفع أهل الحق في كسب المعركة على أهل الباطل.

فمهما اشتدت وطأة الحق فلا بد أن يوجد الباطل، ومهما عظمت قوة الباطل فلا بد أن يوجد الحق، ولكن المهم أن العاقبة في النهاية للمتقين الصابرين وصدق رسول الله «ما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله بأمره».

وما دامت المعركة بين الحق والباطل حامية باقية فإن مسيرة أهل الحق ستكون مليئة بالأشواك مضرجة بالدماء تتناثر على قارعتها أشلاء الشهداء، على أن هذا كله لن يثني المؤمنين عن عزمهم لأنهم عرفوا الطريق قبل السير فيه وبايعوا على الموت قبل أن يخطوا خطوة واحدة في طريق الله، ولهذا نجد أن الشدائد لا تزيد المؤمنين إلا إيمانًا وتصميمًا كما لا تزيدهم العقبات إلا اندفاعًا وإقدامًا، فدماء الشهداء شموع تضيء الطريق للمؤمنين، وأجسادهم جسور تعبر عليها كتيبة الرحمن إلى النصر، وصدق الله العظيم ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (آل عمران: ١٧٣).

والناس في هذه المعركة حزبان لا ثالث لهما -حزب الله وحزب الشيطان- ولما كان العداء متأصلًا بين هذين الفريقين منذ الطليعة الأولى من ابني آدم، فإن الله قد دل المؤمنين على مصادر القوة حتى يكونوا أقوياء دائمًا فتكون لهم الغلبة دومًا على حزب الشيطان، ولن يبخل الله على المؤمنين بالعون، ولن يضن عليهم بالدعم والتأييد حينما تقع معركة لا تتكافأ فيها قوى الحق وقوى الباطل - كيوم بدر- فينزل الله المدد من السماء يقوده جبريل على ثنايا النقع ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  (الأنفال:١٠).

﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (الأنفال: ١٢).

وفي الجانب الآخر لا يفتأ الشيطان يدعم جنده ولا يألو جهدًا في تقويتهم وشد عزائمهم مع أنهم الأكثر عددًا وعدة، ولكن كما قال أبو جهل لمن أهدى لقريش جزائر يوم بدر «لعمري؛ لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله ـ كما يزعم محمد- فما لأحد بالله من طاقة».

وصدق الله العظيم: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال: ٤٨).

وعن عروة بن الزبير قال: «لما أجمعت قريش- المسير إلى المدينة».

ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي» وكان من أشراف كنانة فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.

فشد ذلك من عزيمتهم وخرجوا سراعًا لحرب محمد». وصدق الله العظيم...

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (الأنفال: ۷۳،۷۲).

 ٢- التأهب الدائم للمعركة:

وأمام هذه الحقيقة -حتمية المعركة بين الحق والباطل واستمراريتها- لا بد أن يبقى أصحاب الحق دائمًا أقوياء، أقوياء في كل شيء في عقيدتهم وإيمانهم، وفي عزيمتهم وأجسامهم وفي سلاحهم وعتادهم، حتى يكونوا هم الأعلون دائمًا في هذه الأرض.

وأول مظاهر القوة «العمل الجماعي» وذلك بأن يعمل المؤمنون متساندين يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، لأن الجهود القريبة مهما عظمت فإنها لن تكون في مستوى المعركة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولأن الجماعة المؤمنة أقدر على تجميع الجهود والطاقات وتوجيهها الوجهة الصحيحة لمقابلة متطلبات هذه المعركة المستمرة ولأن الجماعة تعين على الطاعة، وطاعة الله والقيادة هي أولى أسباب النصر فيد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.

وتتكون الجماعة المؤمنة كما تتكون الخلية الحية وتمر بنفس الأطوار التي تمر بها الخلية حتى تصل إلى مرحلة النضج، فلا بد من نواة لهذه الجماعة تتمثل في داعية على مقدار كافٍ من الفقه بدعوة الله يؤهله لحمل دعوة الله و التبشير بها، كما يملك بعض العناصر القيادية التي تؤهله أن يجمع قلوب المؤمنين حوله ويوجه جهودهم وطاقاتهم في الوجهة التي تقتضيها طبيعة المرحلة التي تمر بها الدعوة، كما يجب أن يكون هذا الداعية قوي الإرادة ملتزمًا بأحكام الإسلام مضحيًا في سبيل الله بالغالي والثمين لأنه لا يصلح لهذا الأمر إلا من أحاطه من كل جوانبه، وهكذا كان الداعية الأول محمد -عليه الصلاة والسلام- النواة التي نشأت حولها الجماعة المؤمنة الأولى، كما كان القائد الذي قاد هذه الجماعة نحو النصر في كل المراحل التي مرت بها من دعوة الله.

وينشط هذا الداعية في التبشير بدعوة الله، محاولًا إيصالها إلى كل قلب وإسماعها كل أذن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهكذا تنمو الجماعة المؤمنة ويزداد عددها، ولكن إذا لم تنظم العلاقة بين النواة وبين بقية أجزاء الخلية فلا بد أن أيامها معدودة وإمكانياتها ستبقى محدودة، ولهذا كان لا بد لهذا الداعية أن يقيم جماعته على أسس تنظيمية سليمة تضمن لها القوة والاستمرار، وقد حدثنا التاريخ عن دعاة ومصلحين نشطوا في دعوة قومه إلى الله، ولكنهم لم ينظموا بالشكل المطلوب للمعركة، فعاش هؤلاء الدعاة قادة بلا جنود فلما ماتوا تركوا أمتهم جنودًا بلا قادة.

والناس الذين يستجيبون لهذا الداعية واحد من ثلاثة: شخص يستطيع أن يتحرك ويحرك غيره، وشخص يستطيع أن يتحرك بنفسه فقط، ليس له طاقة على تحريك غيره، وشخص يحتاج إلى من يحركه، فعلى الداعية أن يقيم كل واحد من هؤلاء وأن يحدد المجال الذي يصلح فيه ويضعه في المكان الذي يتناسب مع طاقاته وإمكاناته.

فمن الصنف الأول تتكون الطليعة المؤمنة التي يجب أن تتكون منها القاعدة الراسخة لبناء الجماعة المؤمنة، ومثل الداعية في هذه الجماعة كمثل الطاقة في الآلة، لا يمكن أن تعمل بدونها ومثل الطليعة المؤمنة كمثل المحرك «الدينمو» في الآلة فعلى الرغم من صغر حجمه إلا أنه من القوة بحيث يستطيع أن يتحرك ويحرك بقية أجزاء الآلة الضخمة، أما بقية البناء فيمكن أن يتكون من الصنفين: الثاني، والثالث، فهم مؤمنون مخلصون إلا أن الله لم يهبهم من القدرة والطاقة ما يؤهلهم للوصول إلى مرتبة الطليعة المؤمنة، وهكذا بدأ الداعية الأول محمد -صلى الله عليه وسلم، وهكذا عمل على تكوين الطليعة المؤمنة من المؤمنين الحركيين منذ اليوم الأول لدعوته، وأخذ يربيها تربية ربانية تقوم على أساس تعميق الإيمان في القلوب وتنقية العقيدة من براثن الشرك، وتصحيح الأفكار والتصورات؛ كل ذلك استعدادًا ليوم الفصل، ليوم آت لا ريب فيه لمعركة مؤكدة بين الحق والباطل.

لا بد للجماعة المؤمنة -والحالة هذه- أن تكون قوية دائمًا لتكون على مستوى المعركة ومن مظاهر القوة أيضًا «وحدة الصف» ووحدة الصف تشمل وحدة الأفكار والتصورات ووحدة الهدف والغاية ووحدة القاعدة والقمة، إلا أن الذي يجمع هذا كله ويربطه بربـــــــاط وثيق حق «الأخوة في الله» حتى يبدو جسم الجماعة المؤمنة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فضرورة الأخوة للجماعة المؤمنة ضرورة الإسمنت في البناء يجمع اللبنات المتفرقة، ويربط بين جوانبها برباط قوي ويسد أية ثغرة قد تبدو بين البنيتين أو أكثر ويساعد على انتظام البناء حتى يبدو متناسقًا قويًّا، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات: ١٠).

لقد كانت غزوة بدر نموذجًا صادقًا لوحدة الصف كما كانت مثلًا يحتذى به في مجال الإخوة، فقد حلت الإخوة في الله محل الإخوة في النسب، ووقف القرشي إلى جانب الخزرجي والأوسي، وقاتل الأبيض بجانب الأسود، وخاض المعركة السيد إلى جانب العبد، لا تجمع بينهم رابطة سوى رابطة العقيدة ولا يوحد صفوفهم نسب إلا الإخوة في الله.

فقد قتل عمر -رضي الله عنه- خاله «العاص بن هشام» في غزوة بدر وقتل علي ابن عمه وقتل أبو عبيدة أباه، ولما استفتى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- المسلمين في أمر الأسرى قال عمر: «إني أرى -يا رسول الله- أن تمكنني من فلان «قريب لعمر» فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرب عنقه»، ولما رجع المسلمون إلى المدينة ومع كل منهم أسيره كان «أبو عزيز بن عمير» أسيرًا عند أحد الأنصار، فمر به أخوه لأمه وأبيه الصحابي الجليل «مصعب بن عمير» فنظر إلى أخيه الأنصاري قال له: «شد يدك عليه فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك» فقال أبو عزيز مصعب: أهذه وصيتك بي يا أخي! فقال له مصعب: «یا أبا عزيز إنه اليوم أخي دونك» وفعلًا فدته أمه بأربعة آلاف درهم.

وصدق الله العظيم ﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: ٦٣).

هــــــكذا تكون الجماعة المؤمنة: من قيادة مخلصة وعقيدة راسخة وطليعة منظمة وأخوة صادقة.

وهكذا تكونت في عهد الداعية الأول محمد -عليه الصلاة والسلام، فقد بدأ الوحي أولًا، بتربية القائد الداعية فأدبه فأحسن تأديبه حتى كان خلقه القرآن، وأنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(المزمل: ٥).

وانطلق رسول الله من نفسه بنفسه يدعو من حوله إلى رسالة ربه، فانضوى تحت لوائه مجموعة من المؤمنين كانت منهم الطليعة الأولـى والقاعدة الراسخة التي قام عليها صرح الإسلام، وهكذا بدأت الجماعة المؤمنة تنمو وتكبر شيئًا فشيئًا، فكان رسول الله يلتقي بهذه الطليعة كل يوم تقريبًا يدرسهم الإسلام ويتلو عليهم القرآن ويربيهم في محراب النبوة، فلما كثر عددهم اقتضت الضرورة التنظيمية أن يقسموا إلى مجموعات صغيرة، فوزعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مجموعــــات على رأس كل مجموعة منها واحد من أفراد الطليعة الأولى التي كانت أول من آمن برسول الله وتربى على يديه، وفي قصة إسلام عمر دليل على هذا، فقد دخل عمر على أخته وختنه، وكان عندهم «مصعب بن عمر» يعلمهم الإسلام ويتلو عليهم القرآن، فلما سمع مصعب صوت عمر قفز إلى مخدع في البيت واختبأ فيه وخبأت أخت عمر رقعة القرآن التي كانوا يتدارسونها تحت وسادتها، مما يدلل على أن مصعب كان يرعى هذه المجموعة ويفقهها في دين الله، ويمكن أن تسمى هذه المجموعات «الأسر» نظرًا لما بينها من رابطة الإخوة في الله والتي هي أفضل نسبًا من الإخوة في الدم، وعلى رأس كل أسرة منها «نقيب» كمصعب -رضي الله عنه.

ومن مجموع هذه الأسر كانت تتكون كتيبة الرحمن التي كانت تلتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الفينة والأخرى في مدرسة الإسلام الأولى -دار الأرقم بن الأرقم- تغب من روحه وتتعلم منه عمليًا وعن قرب ما سمعته نظريًا من النقباء.

 

٣ - لا بد أن يكون للجماعة المؤمنة هدف تسعى لتحقيقه:

والجماعة المؤمنة تتكون وتنمو وتتقوى لكي تحقق «أهداف» الإسلام، فلا تسمى أية جماعة بالجماعة المؤمنة إلا إذا كان في مخططها تحقيق هذه الأهداف، وليس معنى هذا نزع صفة الإيمان عنها -إذ قد يكون أفرادها مؤمنين صادقين- ولكن هؤلاء الأفراد بالرغم من اجتماعهم لم تكتمل فيهم المقومات الحركية والتنظيمية التي تؤهلهم أن يكونوا جماعة مؤمنة، فلا يكفي لتكوين هذه الجماعة أن يكون أفرادها مؤمنين ولكن لا بد بالإضافة إلى هذا أن يكونوا مؤمنين حركيين لهم «هدف» واضح يسعون لتحقيقه، و «قيادة» مخلصة تقودهم نحو هذا الهدف و«طريق» واضح المعالم يسيرون فيه و«وسائل» محددة يستعملونها لتحقيق أهدافهم، فإذا اكتمل في جماعة من المسلمين هذا الهيكل الحركي التنظيمي أمكن عندها تكوين الجماعة المؤمنة.

وللجماعة المؤمنة هدفان متكاملان:

هدف عام ويتضمن العمل على نيل رضوان الله؛ لأن ذلك هدف كل فرد في الجماعة، وهدف حركي يهدف إلى «إقامة حكم الله في الأرض» وذلك بأن تتجسد عقيدة الإسلام وشريعته في كيان قوي متماسك يعمل على تبليغ دعوة الله للناس كافة ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويزيل العقبات التي تعترض طريق هذه الدعوة، ووسيلة الإسلام إلى ذلك «الجهاد في سبيل الله»، ولهذا كان لا بد أن تكون هناك معركة فاصلة بين «الجماعة المؤمنة» وبين «الجماعة الكافرة» تثبت الأولى وجودها، وتقيم وزنًا لتعاليمها لأن الناس يؤمنون بالمحسوس المطبق عمليًا أكثر من إيمانهم بالمثاليات التي لم تخرج إلى حيز التطبيق، وما أجمل الحق والقوة إذا اجتمعا معًا فبدونها لا يمكن تحقيق أهداف الإسلام، لأن «القرآن والسيف» نزلا من السماء معًا، لتأخذ بهما الجماعة المؤمنة معًا.

لقد كانت غزوة بدر فرقانًا بين عهدين؛ بين عهد يتصف «بالسلبية» اقتضته طبيعة التطبيق المرحلي لتعاليم الإسلام، وعهد يتصف «بالإيجابية» انطلق فيه المؤمنون بقيادة رسول الله لتحقيق أهداف الإسلام، ولهذا لا بد للجماعة المؤمنة أن تدرك أن المرحلة السلبية ليست غاية في حد ذاتها، ولكنها وسيلة لغاية ومرحلة في المخطط العام توصل إلى المرحلة الإيجابية، فكما أن المرحلة السلبية ضرورة لبناء الجماعة المؤمنة، فإن المرحلة الإيجابية ضرورة لإثبات وجودها وتحقيق أهدافها.

 ٤ - حتمية المعركة بين الحق والباطل:

يجب أن تؤمن الجماعة المؤمنة أن المعركة لا بد أن تقع بينها وبين الجماعة الكافرة إن آجلًا أو عاجلًا، فعليها والحالة هذه أن تعد لذلك من الأسباب ما يحقق لها النصر، لا بد من معركة فاصلة بين الحق والباطل تعيد للإسلام هيبته وتعيد للمسلمين كرامتهم ومكانتهم وثقتهم بأنفسهم، وهكذا كانت «غزوة بدر» في المخطط الرباني، لقد سماها الله «يوم الفرقان» لأنها كانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، وقد أرادها الله أن تكون كذلك، وهيأ لها جميع الأسباب لتكون كذلك.

فقد وعد الله المؤمنين إحدى الحسنيين -العير أو النصر- فاختار المؤمنون «العير» و اختار الله لهم «النصر» لحكمة أرادها ومشيئة شاءها، أراد لهم النصر ليرفع روحهم المعنوية ويزيد ثقتهم بأنفسهم ويقيم لهم وزنًا في نظر الآخرين وصدق الله العظيم ﴿إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (الأنفال: ۸).

ولهذا هيأت الإرادة الإلهية جميع الظروف في كلا المعسكرين لتحقيق النتائج المطلوبة.

﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ  (الأنفال: ٤٢، ٤٣،٤٤).

 ٥ - خطة المعركة ومقوماتها:

وإذا كان ولا بد من معركة فاصلة بين الحق والباطل، فإن على الجماعة المؤمنة أن تعد العدة لهذه المعركة وأن تهيئ الأسباب المادية والمعنوية لها لكي يتحقق لها النصر:

لا بد -أولًا- أن يوجد «الجنود» الأقوياء، الأقوياء في كل شيء، الأقوياء في إيمانهم وعقيدتهم، أقوياء في أجسامهم، أشداء في ثباتهم يؤثرون الحياة الآخرة على الدنيا الفانية، ولهذا نجد أن القرآن المكي بقي طيلة ثلاثة عشر عامًا يعد هؤلاء الجنود إعدادًا روحيًا ويربيهم التربية العقائدية السليمة انتظارًا لمعركة ستقع حتمًا بين الحق والباطل.

لقد جعل الله الجنود المؤمنين أحد دعائم النصر في غزوة بدر فقال جلت قدرته ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنفال: ٦٢، ٦٣، ٦٤).

وبالإضافة إلى الجنود المؤمنين لا بد أن توجد «القيادة الواعية» التي تنظم هؤلاء الجنود وتربيهم وتوحد جهودهم وتوجهها الوجهة المطلوبة، ولهذا نجد القرآن الكريم في سورة «الأنفال» يؤكد على ضرورة وجود هذه القيادة، كما ينظم العلاقة بينها وبين جنودها تمديدًا واضحًا قائمًا على أساس السمع والطاعة في المنشط والمكره في كل ما يرضي الله، وأساس ذلك الأخوة الصادقة والثقة التامة، فيقول جلت قدرته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ  (الأنفال: ۲۰).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (الأنفال: ٢٤).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (الأنفال:٢٧)

ومن أهم واجبات القيادة في هذا المجال العمل على إقامة «التنظيم» العام للجماعة والمعركة وتنفيذه بكل وحي وإخلاص، لأن كل عمل يقوم على الارتجال والعشوائية عمل فاشل لا محالة، وحتى تصل القيادة إلى هذا التنظيم السليم لا بد أن تحدد للمعركة «هدفًا» محددًا واضحًا لمعظم الجنود وهدف المؤمنين في أية معركة مع الكفر هو جزء من هدف الإسلام الأكبر «إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده»، ولهذا تنتهي المعركة بواحدة أو أكثر من هذه النتائج: إما أن يسلم الأعداء فيكونون إخوة للمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإما أن يبقوا على دينهم إن كانوا أهل كتاب فيدفعون عندها الجزية نظير رعاية الدولة الإسلامية لهم وحمايتها إياهم، أما إذا أصروا على الكفر فعندئذٍ يشكلون عقبة في طريق كتيبة الرحمن فليس لهم عندها إلا السيف.

الرابط المختصر :