; الإجابة لفضيلة الإمام د. يوسف القرضاوي يرحمه الله | مجلة المجتمع

العنوان الإجابة لفضيلة الإمام د. يوسف القرضاوي يرحمه الله

الكاتب د. أحمد ناجي

تاريخ النشر السبت 01-يوليو-2023

مشاهدات 27

نشر في العدد 2181

نشر في الصفحة 36

السبت 01-يوليو-2023

إعـداد- د. أحمـد ناجـي:

 

العلمانية الإسلامية!

• البعض يردد مصطلح «العلمانية الإسلامية»، فهل يقبل التشريع الإسلامي هذا المصطلح ويتعامل معه؟

- من غرائب ما ذكره بعض الليبراليين، ممَّن يعيشون في أمريكا، ويدورون في فلكها الفكري والسياسي، ما يسمونه «العلمانية الإسلامية»! ولا أدري كيف تكون العلمانية إسلامية؟! هل يقبل أن نقول: الشيوعية الإسلامية، أو اللادينية الإسلامية؟!

إن العلمانية معناها فصل الدِّين عن الدولة، بل فصل الدِّين عن حياة المجتمع، بحيث يبقى المجتمع معزولاً عن الدِّين وتوجيهاته وتشريعاته، فهذا هو مفهوم العلمانية المعروف عند الناس في الشرق والغرب، فكيف يكون هذا المفهوم إسلامياً؟

هل يقر الإسلام على نفسه أن يُعزل عن توجيه الدولة والتشريع لها، بل عن حياة الناس والمجتمع كله، وتبقى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بغير دين؟

تذكر «موسوعة العلوم السياسية» الكويتية: أن العلماني عكس الدِّيني، ويستخدم اصطلاحاً للإشارة إلى مدخل للحياة ينفصل تماماً عن الدِّين، ويتشكل كلية باهتمامات زمنية دنيوية، وهي على المستوى الشخصي تعني استبعاد الحسِّ والشعور الدِّيني من نظرة الفرد إلى جميع الأمور التي تتعلَّق بحياته وعلاقاته وسلوكياته ومعاملاته السياسية وغيرها.

والعلمانية على المستوى العام هي المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات والمضامين الدينية عن ممارسة أي تأثير في أي من مجالات الحياة، بما في ذلك التعليم والتشريع والإدارة(1).

وهكذا يرى جميع الباحثين من كل الاتجاهات التناقض بين العلمانية والدِّين، لأن العلمانية هي «اللادين»، فكيف تلتقي مع الدِّين؟!

 

فشل العلمانية في ديار الإسلام

• لماذا فشلت العلمانية في بلاد المسلمين؟

- لا يتصور للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي؛ لأنها مناقضة لطبيعة الإسلام الذي تدين به الشعوب المسلمة، ومناقضة لمفاهيمه وسلوكه وتاريخه، ولا يوجد أي مبرر لقيامها، كما وجد ذلك في الغرب النصراني.

كل ما تفعله العلمانية أنها تحاول تغيير طبيعة الأمة واتجاهها، والأمة لا تستجيب لها، حيث ترفض أجهزة المناعة في كيانها زرع هذا الجسم الغريب في داخلها، وتقاومه بكل قوة؛ فينشأ بين الحكم العلماني والأمة المسلمة صراع، يظهر حيناً ويختفي أحياناً، ويمتد يوماً، وينكمش يوماً آخر، ولكنه صراع باق مستمر؛ لأنه صراع بين الذات والعدوان على الذات، وقد يكمن كمون النار في البركان، ولكنه لا بد يوماً أن ينفجر.

والاتجاه العلماني يعوق انطلاق الأمة بكل طاقاتها؛ لأنه غريب عنها، دخيل عليها، لا يحركها من داخلها، ولا يخاطبها، باللسان الذي يهز كينونتها.

وأبرز بلد إسلامي حكمته العلمانية، ونفذت فيه خططها، وضربت بيد من حديد كل من يقاومها، وخاضت في ذلك بحراً من الدم؛ تركيا، بلد الخلافة الإسلامية الأخيرة، الذي قهره «أتاتورك» على تطبيق النموذج الغربي في الحياة كلها، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتعليم والثقافة، وسلخه من تراثه، وقيمه، وتقاليده، كما تسلخ الشاة من جلدها، وأقام دستوراً لا دينياً، يعزل الدين عن الحياة عزلاً كاملاً، قامت على أساسه قوانين مجافية للإسلام كل المجافاة، حتى في شؤون الأسرة والأحوال الشخصية.

فهل استطاع «أتاتورك» وخلفاؤه من بعده، ومعهم الدستور والقوانين، والتعليم، والإعلام، والجيش والشرطة، ومن ورائهم الغرب بكل جبروته وقوته، أن يجتثوا جذور الأفكار الإسلامية، والمشاعر الإسلامية، والتطلعات الإسلامية، والقيم الإسلامية، من حياة الشعب التركي المسلم؟

الواقع الذي يشهده كل من زار تركيا في السنين الأخيرة، تشهد به المساجد المزدحمة بالمصلين من كل الأجيال، وتشهد به المدارس القرآنية، التي تعد بالآلاف، وتشهد به معاهد الأئمة والخطباء، ويشهد به انتشار الكتب الإسلامية، ويشهد به حال الأتراك الذين يعيشون في ألمانيا، وغيرها من بلاد أوروبا، هذا الواقع يقول: لا، وألْف لا.

ولا بأس أن أنقل هنا ما كتبته جريدة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية، في 18 يناير 1983م، عن «تركيا بين مدنية الغرب وأصالة الإسلام»، ونقلته مجلة «الرائد»، التي تصدر في آخن بألمانيا، تقول الصحيفة: بعد قرنين من الإصلاحات، الرامية إلى طبع المجتمع التركي بالطابع الغربي، وبعد نصف قرن من الحكم العلماني، هنالك حديث الآن عن انبعاث الإسلام مجدداً في تركيا، التي كانت من أوائل الدول الإسلامية، التي فصلت بين السياسة والدين.

فالثورة الكمالية (كمال أتاتورك) كانت قد جعلت من العلمانية أساس الدولة وأساس التحديث فيها، مما كان يعني أن الإسلام يجب أن يخرج من الحياة العامة، ليحتفظ فقط بحق التأثير في ضمائر المتدينين، وهكذا تحول الإسلام، الذي هو دين وسياسة قبل كل شيء، إلى مسألة خاصة، بجرة قلم من جانب الدولة، التي راحت تشرف عليه.

والواقع أن فصل الإسلام عن السياسة في بلد مسلم بصورة تامة تقريباً كانت تجربة فريدة، تقوم بها دولة علمانية قائمة على النمط الغربي، وأدى هذا الوضع إلى انتقال الإسلام من موقع السيادة والسلطة إلى موقع الظل في الأوساط الشعبية، وخاصة الفلاحين في الأناضول، وأصبح عرضة للقمع غالباً، فالمدارس القرآنية والزوايا اعتُبرت غير شرعية، ابتداء من عام 1925م، على اعتبار أنها مراكز للتخلف والتآمر الرجعي!

ولكن هل انطفأ الإسلام مع ذلك في ضمائر الأتراك، واختفى من الحياة السياسية التركية؟ يبدو أن العكس هو الصحيح، ومع اختفاء الإسلام من عالم الطبقة الحاكمة، تحول إلى مركز الخيارات السياسية في البلاد، فالجمعيات الإسلامية والتعاليم الدينية استمرت تمارس نفوذها وسط الجماهير في الأناضول، بل اكتسبت أنصاراً جدداً.

إن حماس الجماهير التركية للرموز الإسلامية لا يرجع فقط إلى نشاط جمعيتي «النقشبندي» و«القادري» وغيرهما، أو لكون الحكم معادياً للدين، بل يرجع كذلك إلى رفض المجتمع التركي لأي نموذج اجتماعي يخرج عن الإطار الثقافي الإسلامي، وخشية هذا المجتمع من رؤية الهوية الثقافية التركية تذوب شيئاً فشيئاً وسط تنام ي نفوذ نمط الحياة الغربية داخل تركيا(2).

 

فشل بعلاج الطائفية

• قرأت مقالة لأحد الكتَّاب يذكر فيها أن البلاد التي يكون فيها أكثر من دين تكون العلمانية علاجاً لأوضاعها، حماية لها من التعصب الطائفي، وضرب مثلاً على ذلك بالهند، وإعلان ياسر عرفات بعلمنة الدولة، فما رأيكم في هذا؟

- إن ما يذكره هذا الكاتب حجة عليه لا له، فإعلان العلمانية في كل من الهند ولبنان لم يعالج الطائفية الكامنة في صدور الناس، بل لم يشهد العالم خلال هذا القرن ما شهده من التعصب الطائفي البغيض في كلا البلدين.

فالمسلمون تعرضوا على يد الأكثرية الهندوسية لمذابح شتى، تشيب لهولها الولدان، أقربها مذابح آسام، وبين الهندوس والسيخ معارك ضارية، وصدامات مسلحة، وقد ذهبت ضحية هؤلاء السيخ رئيسة وزراء الهند الشهيرة «أنديرا غاندي»، والعجيب أن هؤلاء الهندوس، الذين يتورعون عن إبادة الفئران والحشرات، ولا يستخدمون مبيدات الذباب والبعوض في الفنادق الكبرى، لأن هذه الحشرات «ذات روح» استباحوا ذبح المسلمين بالألوف، كأنهم ليسوا من «ذوي الأرواح»!

وما أعلنه عرفات يوماً من نيته إقامة الدولة العلمانية في فلسطين ليس حجة شرعية، يستدل بها في مواضع الخلاف، بل إن إعلانه أو توجهه هذا لقي من الاعتراض في الداخل والخارج ما جعله يحاول التعفية على آثاره، والسكوت عنه فيما بعد.

فقد ظن يوماً أن مثل هذا التوجه، أو الإعلان عن الدولة العلمانية، يتعايش فيها العرب المسلمون والنصارى واليهود، ويُطمئن اليهود وأنصارهم في معسكري الغرب والشرق، ويُرضي الفصائل المتعصبة ضد الإسلام من الفلسطينيين، ويُرضي الدول الطائفية من حوله في سورية ولبنان، ويُرضي الحكام العلمانيين من العرب.

والواقع أن هذا التوجه لم يحل المشكلة عند أحد، لا عند اليهود، ولا عند الأمريكيين، أو الروس، أو الغربيين، ولا عند الفلسطينيين أنفسهم، ولا عند جيرانهم في سورية أو لبنان، ولا عند حكام العرب العلمانيين.

هل أوقف توجه عرفات للعلمانية معركة «تل الزعتر»، وما خلفته من مآسٍ وضحايا؟! أو منعت مذبحة «أيلول الأسود»؟! أو أخرت غزو لبنان وحصار بيروت، وإخراج الفلسطينيين منها؟! هل منعت حمامات الدم في صبرا وشاتيلا، ومخيمات اللاجئين في لبنان إلى اليوم(3)؟!

 

الهوامش

(1) موسوعة العلوم السياسية، مادة «العلمانية»، فقرة (204) ص 298، 299.

(2) بتصرف من كتاب «الإسلام والعلمانية وجهاً لوجهه» لفضيلة العلَّامة يوسف القرضاوي يرحمه الله.

(3) بتصرف من موقع العلَّامة يوسف القرضاوي.

الرابط المختصر :