; الإعدام كلمة غريبة على الحس الإسلامي | مجلة المجتمع

العنوان الإعدام كلمة غريبة على الحس الإسلامي

الكاتب عبدالحليم خفاجي

تاريخ النشر الثلاثاء 29-أغسطس-1972

مشاهدات 18

نشر في العدد 115

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 29-أغسطس-1972

حالات «القصاص» محدودة .. ومحاطة بضمانات قوية بعد صدور الحكم… لا يغلق باب الأمل في الحياة هناك العفو المجرد... وهناك دفع الدية للولي
..وأبادر قبل تناول الموضوع فأنبه إلى مجافاة لفظة «الإعدام» للحس الإسلامي الذي يفهم الموت على أنه انتقال من دار إلى دار وليس إفناء وعدمًا، ومن هنا كانت كلمة القصاص هي التعبير الصحيح المنبثق من العقيدة الصحيحة وحتى يؤْلف هذا المعنى الجديد سأضطر على مضض أن أقرن به كلمة الإعدام على مدار البحث حتى يسهل التدرج بالقارئ فأقول:
 أما في ظل الإسلام فسأتناول الإعدام «القصاص» من عدة نواح:
أ- متى يحكم به
ب- مبرراته 
جـ- حالات الحكم به
د- الحكم وما بعد الحكم من ضمانات

◘ أولا: متى يجوز الحكم به:
الإعدام «القصاص» شأن بقية العقوبات الإسلامية مجرد حراسة غير منظورة حول المجتمع المسلم ولا محل لوجودها إلا بعد أن يقوم المجتمع أولا على أصلية.
۱- العقيدة اليقينية التي تعطي التفسيرات الحقة للوجود والحياة والإنسان.
۲ - التشريعات التي تفتح آفاقا جديدة في العلاقات والقيم ولا تخلق وراءها محتاجًا أو مهضومًا وتحقق تقدم الجماعة من خلال نشاط الفرد.
بعد قيام هذين الأصلين لا يكون هناك عذر لأحد؛ لأن كل الحاجات النفسية والمادية قد تحققت بأحكام حلقة الحق والخير في النفس وبأحكام حلقة العدل والحرية والإخاء في المجتمع، وبذلك يتوفر للتشريعات العقابية بيئتها التي تعمل فيها والتي تقوم بدور الحراسة الأمينة وعلى أماكن خاصة تقف عقوبة الإعدام. 
إذن لا تقوم هذه العقوبات عموما والإعدام «القصاص» بصفة خاصة إلا بعد أن يرتفع عن الناس عذر الجهل والفقر والشرور الخارجية التي تبدد الطاقات البشرية في منازلات متعددة، وليس ذلك من طبيعة المجتمع المسلم الذي يهدف إلى تخليص إرادة الإنسان حرة نقية من جميع أنواع التأثيرات التي تعطلها أو تحرفها عن الاختيار السليم بل يعمل الإسلام من خلال تشريعاته الحكيمة على ملء الحياة بفرض الاختيار في جميع ميادين التعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ولا يكون أمام الإنسان إلا بواعثه النفسية والفكرية وما لهذه البواعث من صلة مؤثرة في المجـال الخارجي وما للمجال الخارجي بدوره من صلة موحية وحافزة على الاختيار لا أكثر .. 
بذلك تتحرك الإرادة حركة حرة داخل مجتمع مفتوح برغم كماله ودقة ترابطه... فالإرادة الحرة مسؤولة عن اختيار الخير أو الشر.. مسؤولة عن اختيار الحق بتبعاته أو الباطل بشهواته.. مسؤولة أن تتقدم أو تتأخر... وتلك فضيلة الإنسان المكرم المكلف الذي فارق بها الكائنات المجبولة واستحق من أجلها الجزاء. 
في هذا المجتمع وحده يقرر الإعدام على الحالات التي قررها الشارع الحكيم.. 
أما قبل أن توجد هذه الحياة فتكون حياة الناس مليئة بألوان الصراع التي تقيد الإرادة عن الحركة الحرة فكان من الطبيعي أن تتعثر في خطاها وأن يشق عليها الاختيار ويكون الفرد في حالة ارتكابه أية جريمة أقرب إلى الكائنات المجبولة منه إلى الإنسان المختار، ومن ثم فلا محل في مثل هذه البيئات للكلام عن الحدود أو العقوبات الإسلامية ولا عن الإعدام بصفة خاصة.
◘ ثانيا: مبررات الحكم بالإعدام
كل النظم الاجتماعية المعاصرة تجعل مصلحة المجتمع هي المبرر الأول إن لم يكن الوحيد لتوقيع عقوبة الإعدام... ولكن أي نوع من أنواع المصلحة؟ الاتجاه يتزايد لجعل المصلحه الاقتصادية مبررًا لتوسيع دائرة الإعدام ولا مشاحة في أن مصلحة المجتمع تبرر الحكم بالإعدام لقوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾(البقرة :179) وقوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ…﴾ (المائدة: 32) ولكن الإسلام لا يدخل إلى هذه المصلحة من زاوية الإقتصاد وإنما يدخل إليها من زاوية قيمة الحياة ذاتها ومن خلال قيمة الفرد ذاته وكرامته على ربه.. وحرمة نفسه التي هي عند الله أعظم من حرمة بيته الحرام فهو من ثم لا يقـرر الإعدام إلا مقابل ما ينال الفرد من اعتداء على نفسه أو على عرضه ولا يقرره مقابل ما ينال المرء من اعتداء على ماله، حتى إن جريمة الإفساد في الأرض التي أمر الله فيها أن يقتل الجناة أو يُصلّبوا أو يُنفوا من الأرض كان لتوقيع جزاء القتيل شرط اقتران الإفساد بجرائم قتل من جانب المفسدين في الأرض وإلا اتجه وجهة التصليب أو النفي. 
◘ ثالثا : حالات الحكم بالإعدام
كان من الطبيعي إذن أن نلاحظ أن الإسلام يقلل من الحالات التي يحكم فيها بالإعدام فلا يصل بها إلى ۷۰ حالة كالمجتمعات الشيوعية ولا يصل بها إلى ۲۰۰ حالة كبريطانيا في عصرها الإقطاعي، ولا يزيف فيجعل الحالات أقل من ذلك في مجتمع مفروط العقد مملوء بالعاطلين والمهضومين والهائمين على وجوههم والمندفعين كالفراش كل ساعة على المهالك.. كالمجتمع الرأسمالي وإنما يسد الإسلام مسالك الجريمة في النفس بالعقيدة أولا، وفي المجتمع بتحقيق ضرورات الحياة والعدل فيها ثانيا وبسماحة كافة التشريعات وعدم إعناتها للفطرة السليمة في جميع ميادين التعامل ثالثا، وبعد ذلك يحصر الحالات التي يحكم فيها بالإعدام مع الاعتذار لاستخدام هذه الكلمة البغيضة في هذا المقام يحصرها في أضيق نطاق عرف في جميع الأنظمة حيث يعاقب به في:
 ۱- الردة، ٢- القتل العمد، 3- الزنا بعد إحصان - وما وراء ذلك من حالات فهى محدودة ومختلف عليها وقد وضع الرسول الكريم حدود ذلك في قوله «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بنفس».
◘ رابعا : ضمانات «في الحكم وبعد الحكم» 
 ورغم هذه الحالات المحدودة فالإسلام يحيطها بسياج قضائي كبير .
1 - فهو في جريمة الردة يفتح باب الاستتابة .
2 - وهو في جريمة الزنا يتطلب في الإثبات إما الإقرار الحر، بل يجوز بعض الفقهاء الرجوع عنه، وإما أربعة شهداء مشهود لهم بالصلاح والتقوى رأوا رؤية العين.. وعندما استطلع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رأى الصحابة فيما لو شاهد بنفسه واقعة زنا أجابوه بأن يحضر معه ثلاثة شهداء وإلا تعرض للحد.
وفي هذا التشديد صيانة للأعراض، وهو يكاد ينشيء استحالة عملية في الإثبات، اللهم إلا إذا بلغ الزاني في مجاهرته بالفحشاء حدًّا يجعل من السهل أن يجتمع على رؤيته أربعة شهداء أمناء على دينهم... 
ورغم هذه الاستحالة العملية فإن ذلك كفيل بإحداث الأثر النفسي الرادع في الأمة ضد هذه الجريمة النكراء من إنسان كفل له المجتمع أسباب الحلال.
أما في جريمة القتل فلها الأخرى معاملة بالغة الحكمة والرحمة معا فنجد أنه بعد ثبوت الجريمة ثبوتًا قاطعًا يستلزم الحكم بالقصاص، نجد أن الإسلام ينفرد عن كل المجتمعات المعاصرة بميزة أخرى فيها أكثر من مصلحة في أكثر من جهة.. فيها من العدل والرحمة والحكمة مثلما فيها من الإدراك العلمي المرن لحدود المصالح وروح الإصلاح مما يقصر عنه أي نظام آخر .. 
فالحكم بعد أن يصدر لا يغلق بعده أبواب الأمل والتفاعل النفسى والمصلحي لا في وجه القاتل.. ولا في وجه أولياء دم المقتول ولا في وجه المجتمع... إذ يتقدم على كافة التشريعات مرحلة أخرى أعجب وأرق حيث يوقف تنفيذ الحكم حتى يأتي ولي الدم ويقرر فيه أمرًا.. فولي الدم هو الذي يملك التصديق النهائي على الحكم بالإعدام مثلما يملك حقوقًا أخرى...
1 - فإن المضي في التنفيذ كان له ما أراد وهذا ما حكم به القضاء من قبل، وهي خطوة زائدة عن المجتمعات الأخرى، ولكن في هذا المقام يكون ولي الدم قد طابت نفسه وأحس أنه اشترك اشتراكًا فعليًّا في القصاص.. والإسلام يحترم النفوس ويعاملها بما يتمشى مع فطرتها ولا يتجاهل حظها من الحق باسم المجتمع.
٢- وإن شاء ولي الدم عفا عن المحكوم عليه كلية، وبذلك يأسر هذا القاتل بكرمه ومنه ويعينه على شيطانه الذي أرداه ولا يمكن أن يكسبه من وراء هذا الصنيع إلا صديقًا مقرًّا له بفضل إعادته إلى الحياة، ولكن من زاوية أخرى لا يمكن أن يحدث مثل هذا العفو الشامل إلا من قلب عامر بمعرفة الله وتقواه مرتفع من السوء مستجيبا لدواعي المروءة والنجدة والشهامة التي يبذل منها أفراد المجتمع المسلم في علاقتهم ببعضهم وبغيرهم من البشر ما وجد المسلم إلى بذلها من سبيل لإنقاذ صديق أو قريب أو صاحب فضل زلّت به القدم أو غير ذلك من الاعتبارات الإنسانية العديدة، ولا خسارة على المجتمع من وراء ذلك لأن إحدى خلاياه المريضة قد دبّت فيها الحياة ولم تبتر، ولا يمكن أن يغري ذلك أحدا بارتكاب جريمة قتل لأنه لا يضمن العفو ممن هو في العادة أحرص الناس على أن يقتص منه.
جـ - وولي الدم إن شاء عفا عن القاتل مقابل دية القتيل وهي تقدر بـ5000 جنيه مصري في وقتنا هذا يدفعها القاتل أو يشترك معه أهله فإن عجزوا دفعها عنه أهل دیوانه، وإلا تولت الدولة دفعها من مصارف الزكاة..
ولا غرابة في تسلسل حلقات الدفع هذه إذا علمنا بطبيعة النظام المالي الإسلامي والذي يطلب الدية صنف آخر من الناس غير الذي يعفو كلية، ولا يتجاهل الشرع درجات الناس في الموقف الواحد ولا يتغاضى عن ظروفهم النفسية أو المادية.
ولكن الإسلام في أمر العفو أو قبول الدية يظهر وكأنه يتلمس الطريق إليهما في الدرجة الأولى بحيث يقرر الفقهاء أن الذي يملك العفو أو قبول الدية هم أولياء الدم، ويرون أن أولياء الدم هم العصبة «الإمام مالك» أى كل أقرباء القاتل من الذكور، ومنهم من يوسع الدائرة فيجعل أولياء الدم هم كل من له حق في الإرث من تركة المقتول ذكورا وإناثا. 
ويختلف الفقهاء حول وجوب إجماعهم، ولكنهم يجمعون بأنه إذا عفا أحد أبناء المقتول البالغين وجبت الدية في حق الجميع إلا من شاء أن يتنازل عن حقه في الدية. 
وهناك سر حكيم وراء هذه العمليات كلها: 
أن الشارع الحكيم قد طيّب نفوس أولياء الدم بجعل الأمر بيدهم بعد أداء القضاء لدوره.
 أنه يدفع الناس بطريقة غير مباشرة إلى جو الإخاء والتصالح وهي طبيعة الإسلام الغالبة على تشريعاته. 
أنه يجر الإرادات المنكسرة ويهيئ مناخ الاختيار والتفاضل فيه لجميع الأطراف المعنية، وبهذا يتمشى الجزاء مع الصبغة العامة للشريعة الإسلامية بصبغة الاختيار ... 
4- أنه يحقق أسمى ما تصبو إليه النظم المعاصرة في إلغاء عقوبة الإعدام أو إبقائها... ولكن بطريقة عملية.. وسط... لا يصل بها إلى حد الإلغاء بالفعل دائما ولا يصل بها إلى حد التنفيذ بالفعل دائما.. ويترك الأمور تتحرك بين هذين الحدين حسبما تدعو المصلحة النفسية والاجتماعية وحسبما يفرضه الواقع المتغير... بطريقة فنية... رشيدة.. لا تخلف وراءها آثارًا ضارة كتلك التي يخلقها الإلغاء التام أو التنفيذ التام..
بذلك يتخلص المجتمع بحكمه من كل ما يفسد حياته أو يضيع مصالح أفراده النفسية أو المادية... 
﴿ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

الرابط المختصر :