العنوان الإفراط والتشدد في القضايا الفرعية.. عبث لا يحقق مقاصد الدين
الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود
تاريخ النشر السبت 11-أغسطس-2007
مشاهدات 30
نشر في العدد 1764
نشر في الصفحة 54

السبت 11-أغسطس-2007
إذا كان المفرّطون في الدين يمنحون خصوم الإسلام فرصة ذهبية لإخراج المسلمين من حظيرة الدين وإدخالهم في مجال التبعية والانبطاح، فإن الإفراط أو التشدّد يمنح الفرصة نفسها، وخاصة إذا ارتبط هذا الإفراط بالجزئيات والفروع والشكليات التي تحتمل الاجتهاد والخلاف في الرأي..
ومن رحمة الله سبحانه بالمسلمين، أن جمعهم على الثوابت التي يتفق عليها علماء الأمة بلا استثناء، أما المتغيّرات والفرعيات، ففيها مجال لاجتهاد المجتهدين الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد وأصوله ومقتضياته، وقد عرفت الأمة الإسلامية على مدى تاريخها مذاهب أربعة رئيسة، عدا المذاهب الأخرى غير المشهورة، وفي داخل كل مذهب من هذه المذاهب آراء واجتهادات بعضها راجح والآخر مرجوح، وكانت مستجدات الحياة واختلاف البيئة من المجالات الخصبة للاجتهاد أو الرأي الذي يسنده الدليل ويدعمه البرهان.
ووصل المسلمون في بعض المراحل الفكرية الخصبة إلى افتراض قضايا لم تحدث، واجتهدوا في كيفية الحكم عليها وبيان موقف الشرع منها؛ ما أدى إلى ثراء فكري غير مسبُوق في أية حضارة أخرى، وهو ما يدحض اتهام بعض غلاة العلمانيين والمفتونين بالغرب الاستعماري للإسلام، بعدم العقلانية أو ابتعاده عن العقل، وإيثاره للنقل!
وفي هذا الإطار فإن الإفراط والتشدد في القضايا الفرعية، وإنفاق الوقت في التدليل على صحة ما يزعمه المفرطون والمتشدّدون، يتحول إلى نوع من العبث الذي لا يحقق مقاصد الدين بحال من الأحوال، لأنه يتحول إلى تنطّع. وقد توعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) المتشدّدين والمتنطّعين، فقال: «.. ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا» وقال أيضاً: «هلك المتنطعون..»، مما يعني أن التشدّد في الجزئيات والمختلف عليه أمر غير مقبول، وترفضه الفطرة السليمة فضلاً عن الدين.
وتأمّل قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): « وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ..»، فطلب المثالية في تطبيق الدين أمر مشروع، ولكن الإلحاح على هذا الطلب، دون مراعاة الظروف والإمكانات الملائمة لن يحقق المثالية أبداً، وقد أعفانا الحق سبحانه من ذلك بقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}(البقرة).
فالتكليف في الإسلام مرهون بالقدرة والوسع والطاقة، ولكن قوماً من المنتسبين إلى الإسلام يصرّون على حمل الناس على تطبيق فروع الدين بمقياس واحد لا يراعي ظرفاً، ولا يضع في الحسبان عذراً. والأدهى من ذلك أن يصر على التطبيق بالقوة والشدّة، في إطار من إساءة الظن بالناس، التي قد يتبعها أمرٌ كريه آخر هو التجسس المنهي عنه.
ويروي التاريخ قصة طريفة بطلها «عمر بن الخطاب» ــ رضي الله عنه ــ وكان خليفة المسلمين، وكان من دأبه أن يمضي الليل يمرّ بشوارع المدينة ليطمئن على أحوال الرعيّة، فسمع بعض الهرج صادراً عن أحد البيوت، فراح يستمع ويتحسّس، ثم تسلق الدار حتى وصل إلى مصدر الأصوات، فرأى مجموعة من الشباب يتناولون الخمر، وأراد أن يعاقبهم ويوقع بهم القصاص، فردّوا عليه بأنهم أخطأوا خطأً واحداً، أما هو فقد أخطأ ثلاثة أخطاء (الدخول بغير إذن أصحاب الدار ــ التجسس ــ دخول البيت من غير بابه)، بالرغم من نواياه الحسنة، لإصلاح هؤلاء الشباب، وكان اعترافه وتركهم دون عقاب، سبباً لإقلاعهم عن شرب الخمر!
ومن ثم لابد أن تكون الدعوة إلى الله بالحسنى، وقد خاطب الحق سبحانه وتعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } (آل عمران).
وتشير الآية الكريمة بوضوح قاطع إلى عنصري الرحمة واللين يقابلهما الفظاظة والغلظة ــ غلظة القلب أقسى من كل غلظة ــ وبسبب الرحمة واللين، فإن العفو والاستغفار ثم المشاورة تفتح الطريق أمام العزم، ومن ثم التوكل على الله وإمضاء الأمر أياً كان، فالذين يعتمدون الشّدة والقسوة على المدعوّين أو المخالفين لهم في المذهب أو الاتجاه، لا يمكن أن يحققوا تواؤماً اجتماعياً إسلامياً، ولكنهم يزرعون ــ بفظاظتهم وغلظتهم ــ بذور البغضاء والكراهية والتعصّب، وهذا زرع مسموم يجب تنقية الحديقة الإسلامية من بذوره تماماً، وإلا كانت النتيجة وبالاً على الإسلام والمسلمين.
تعايش المذاهب الفقهية
لقد عرف الأزهر الشريف على مدى ألف عام، أروع صور التعايش بين المذاهب والآراء الفقهية، ولم يكن غريباً أو نادراً أن ترى في كتب المالكية مثلاً استعراضاً لآراء المذاهب الأخرى، مسبوقة بلغة راقية تقول مثلاً: «وللسادة الشافعية أو الحنفية رأى في كذا وكذا»، أو «يرجح السادة الحنابلة الرأي القائل بكذا وكذا».
لقد كانت تلك هي القاعدة التي تحكم الفكر الإسلامي في أعرق معاهد العلم على الإطلاق. فأين هذا من بعض الغلاة الذين يسيئون لأنفسهم وللدين جميعاً؛ بإصرارهم على أن موقفهم هو الصواب، وموقف غيرهم هو الخطأ؟
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل«تحرير الإسلام» على المستوى الشعبي والرسمي ضرورة لإنقاذ الأوطان وتوحيد الأمة
نشر في العدد 1766
23
السبت 25-أغسطس-2007


