; الاستقطاب.. بين دعاوى التغريب والتطرف | مجلة المجتمع

العنوان الاستقطاب.. بين دعاوى التغريب والتطرف

الكاتب د. أحمد طه

تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020

مشاهدات 15

نشر في العدد 2147

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 01-سبتمبر-2020

الاستقطاب.. بين دعاوى التغريب والتطرف

جهود العلمانيين انصبّت مؤخراً باتجاه تقويض الهوية الحضارية وملاحقة مظاهرها بالمجال العام

رموز تاريخية ليبرالية ترى أن لنا مرجعية حضارية مميّزة ينبغي احترامها لأنها تحمل قيمنا وتاريخنا

مفهوم العلمانية تجاوز عند العلمانيين الجدد فصل الدين عن السياسة إلى فصله عن المجتمع وسلخه عن هويته

شهد الفضاء المصري خلال السنوات الماضية عدّة معارك جدلية ضارية، دارت حول عدة أمور مثل الحجاب، وأحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، بالتزامن مع صيحات تجديد الخطاب الديني التي يطلقها «التنويريون» إيّاهم، بين حين وآخر، فضلاً عن انطلاق حملات متتابعة تجاه الأزهر الشريف، تستهدف رموزه، وشيوخه، ومناهجه، وتاريخه، وترميه بأنه معقل الجمود، والرجعية، والتطرف، وتطالبه بضرورة تجديد خطابه، وتغيير مناهجه كي تتواءم مع روح العصر.

من الوضوح بمكان أن هذه المعارك ذات الطابع الهوّياتي تدور بالأساس حول مدى حضور الدين في المجال العام، ودوره الذي يؤديه بين الشرعي، والسياسي، والاجتماعي، وتعدّ تلك المعارك جولات مُتكرّرة، لمسلسل الاستقطاب الإسلامي - العلماني في مصر.

«مناكفة ومكايدة الإسلاميين»، كان هو العنوان الرئيس للمعارك ذات الطبيعة «الاستشراقية» التي افتعلها غالبية العلمانيين المصريين في الفترة الأخيرة، حيث انصبّت كلّ جهودهم تقريباً في اتجاه تقويض الهوية الحضارية، وملاحقة مظاهرها، ومحاولة تحجيم حضورها في المجال العام، في حين أنها غابت بصورة شبه كلية عندما يتعلّق الأمر بالحقوق والحريات، وبالقضايا التي تُعدّ من صميم الليبرالية.

فقد انشغل العلمانيون طيلة السنوات الماضية بالإجابة عن سؤال كيفية مكايدة الإسلاميين ومناكفتهم وتحجيم حضورهم، أكثر من محاولاتهم كسر حالة الهزال الجماهيري، والضمور الشعبي، التي يعانون منها منذ عقود، عبر التمددّ ومحاولة بناء قواعد شعبية، واكتساب أرضية مجتمعية، بالاشتباك مع قضايا تمس اهتمامات عموم المصريين؛ وهو ما أوقع العلمانيين في تناقضات ذاتية صارخة، ودفعهم إلى ارتكاب أخطاء أيديولوجية، وفكرية، وأخلاقية فادحة، تمثّلت في تنكّرهم لأبسط مبادئ الليبرالية، عبر تحالفهم مع قوى سلطوية، واصطفافهم مع توجّهات «دولتية» فجّة، وتأييدهم لإجراءات استثنائية بالغة الخشونة نكاية في خصومهم الإسلاميين.

الليبرالية الوطنية

كل تلك المواقف العجيبة التي اتّخذها بعض العلمانيين المصريين، مؤخراً، تدفعنا لاستدعاء مواقف أخرى صدرت من رموز ليبرالية تاريخية، تندرج تحت ما يمكن أن نسميه «الليبرالية الوطنية» المتصالحة مع الهوية الحضارية، فلم تقع في تلك الوهدة «الاستشراقية» التي سقط فيها أدعياء الليبرالية، من «المُتلبلرين «والعلمانيين المتطرّفين في الحاضر، فقد كانت تلك الرموز التاريخية الليبرالية ترى دوماً أن لنا «مرجعية حضارية» مميّزة لمجتمعاتنا ينبغي احترامها، تحمل قيمنا، وتاريخنا، وثقافتنا، وهو ما دفعها إلى قصر مفهوم العلمانية على فصل الدين عن السياسة، لا فصل الدين عن المجتمع، وسلخه عن هويته، وتبني قطيعة معرفية كاملة معها، والسعي للصدام مع قيم مرجعيته الحضارية المميِّزة للتشكيل الحضاري العربي الإسلامي.

فعلى سبيل المثال، عندما أصدر قاسم أمين كتابه «تحرير المرأة»، انبرى كثيرون للردّ عليه، وكان في مقدّمتهم الليبرالي الوطني العظيم طلعت حرب باشا -أحد رموز الحركة الوطنية المصرية- عبر كتابَيْن كاملَيْن تحت عنواني «تربية المرأة والحجاب»، و»فصل الخطاب في المرأة والحجاب»، هاجم خلالهما ما تبنّاه قاسم أمين من مرجعية غربية في دعواه لتحرير المرأة، مشددّاً على أن الدين الإسلامي لا يمنع مطلقاً من تعليم المرأة وتهذيبها وتربيتها، بل هو يحضّ على ذلك ويأمر به، مختتماً الأول منهما بقوله: «الحجاب أصل من أصول الأدب، فيلزم التمسّك به، إلا أن المطلوب أن يكون منطبقاً على ما جاء به الشرع».

وخلاصة ما ذهب إليه طلعت حرب في كتابه هو التأكيد على نقطة الحفاظ على هويتنا الحضارية من الاستلاب أمام الحضارة الغربية، وأنّ الحجاب ليس «فريضة شرعية» وحسب، وإنّما هو سمة من سمات «الخصوصية الحضارية» التي يجب التمسّك بها في مواجهة موجات التغريب ومشروعات الاستشراق.

ونستحضر أيضاً هنا ردّ الزعيم الوطني مصطفى كامل باشا، أحد روّاد مدرسة «الوطنية الإسلامية»، فقد كتب عدّة مقالات في صحيفة «اللواء» جاء فيها: «فنحن مصريون، ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمّة مدنيّة خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلّدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله، فالحجاب في الشرق عصمة، وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم، وعلموهنّ التعليم الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة، وركيكة غير نافعة».

والقاسم المشترك بين كلام حرب، وكامل، هو التأكيد على نقطة الحفاظ على هويتنا الحضارية من الاستلاب أمام الحضارة الغربية، وأنّ الحجاب ليس «فريضة شرعية» وحسب، وإنّما هو سمة من سمات «الخصوصية الحضارية».

وفي السياق نفسه، يُروى عن الزعيم مصطفى النحّاس باشا (وهو أحد روّاد الليبرالية الوطنية المتصالحة مع الهوّية الحضارية التي تختلف عن الليبرالية الأوتوقراطية ذات الطبيعة الاستشراقية) أنه كان شديد التديّن، فلم يكن يتخلّف عن صلاة الفجر إلا نادراً، كما كان له وردٌ قرآني يومي، وبالرغم من هذا فإنه كان يرفض استخدام الدين في العمل السياسي، فقد كان مع إبعاد السياسة عن الدين، وليس إبعاد الدين عن السياسة، حتى إنه عنّف أحمد حسين، زعيم «مصر الفتاة»، على شعارها الذي كان «الله.. الوطن.. الملك»؛ لأنه رأى أن وضع كلمة «الله» في شعار سياسي لون من الشعوذة.

العلمانيون الجدد

إلا أن مفهوم العلمانية يتجاوز عند «العلمانيين الجدد» نقطة فصل الدين عن السياسة، إلى مرحلة فصل الدين عن المجتمع، وسلخه عن هويته، وتبني قطيعة معرفية كاملة معها، والسعي للصدام مع قيم مرجعيته الحضارية، ونفيها بالكلية من المجال العام وشطبها من العقل الجمعي للمجتمع، وتحويله إلى مجتمع منزوع المرجعية، وهو أمر غير قابل للتحققّ حيث لا توجد دولة، ولا نظام، ولا فرد، ولا جماعة، إلا ولها مرجعية ما في تعاملاتها، ونظمها، وعلاقاتها، تتكوّن من الأصول الفكرية، والثقافية العامة التي تؤمن بها الجماعة، وتشكّل قوة التماسك الأساسية في تشكّلها، بوصفها جماعة بشرية وفقاً لطارق البشري.

المفارقة الطريفة هنا أن العلمانيين يُسْدون بتلك الحملات التي تتبنّى ذلك الخطاب -من دون قصد منهم– خدمات جليلة لتيارات التطرّف، التي تقتات على ذلك الخطاب الاستشراقي التغريبي المتطرّف، وتستمدّ منه مبررات حضورها، فثمّة علاقة خفية وطيدة بين التغريب والتطرّف، فكلّما ارتفعت دعاوى التغريب انتشر التطرّف والعكس صحيح، فالتغريب هو أفضل وقود لنشر التطرّف.

عملية «العلمنة» التي يتبناها بعض العلمانيين، هي الوجه الآخر لعملية «الأسلمة» التي ينتهجها بعض الإسلاميين من أتباع التنظيمات والجماعات الحركية، وكلتاهما محكوم عليها بالفشل، لأنهما تقومان على فرضية نقصان أهلية المجتمع وعدم بلوغه الرشد، واستخدام أنياب الدولة لفرض الوصاية عليه.

ولا بد أن يدرك الفريقان أن المجتمع هو وحده الذي يختار مرجعيته الحضارية، وليس بإمكان أحد أيّاً كان أن يفرضها عليه، كما أنّ المجتمع هو الوصيّ على المنظومة القيمية والأخلاقية، وليست الدولة وصيّة عليها إلا بالقدر الذي يمنحه لها المجتمع.

أُصيبت ثورة 25 يناير بانتكاسة كبيرة بعد سقوطها في هاوية الاستقطاب الإسلامي - العلماني، الذي أشعله فريقان؛ ظنّ أحدهما أنّ الثورة قامت لإعادة اكتشاف الهوية الحضارية، بينما ظنّ الثاني أنّها فرصة لسلخ المجتمع عن هويته، في حين غابت مطالب الثورة، وغاب الوعي بالتناقض الرئيس مع شبكات المصالح الفاسدة، وبجوهر الصراع السياسي والاجتماعي، والمعركة الحقيقية مع البنية السلطوية المتجذّرة، واحتكار السلطة والثروة، وتغوّل الدولة على المجتمع، وبكل أسف يبدو أنّ هذا المشهد الاستقطابي مرشّحٌ للتكرار مستقبلاً.

هذه المشاهد الجدلية ليست حالة استثنائية منفصلة، وإنّما هي حلقات في سلسلة طويلة متصلة، تمتدّ جذورها إلى نشأة الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، والتشوهّات الخلقية التي صاحبت ولادتها، بعد فشلها في تقديم إجابات عن أسئلة بنيوية كبيرة، متعلّقة بالهوية الحضارية، وحضور الدين في المجال العام، والموقف من التغريب، وتذويب الذات الحضارية، والموقف من التراث، والصراع التاريخي بين الوافد والموروث، وإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي.

وعليه، فمن المتوقع أن نشهد في المستقبل القريب حلقات جدلية جديدة ذات طبيعة استقطابية نخبوية، حتّى يأتي وقت تحصل فيه تلك الأسئلة العالقة على إجابات «الحدّ الأدنى»، التي تقود بدورها إلى نواة تمثّل توافق «الحدّ الأدنى» بين النُخَب من الإسلاميين والعلمانيين، يتفقون فيه على إطار فكري وسياسي لإدارة الخلافات فيما بينهم، وعدم انفجارها إلى صراع صفري، يجنح خلاله كل طرف إلى الإجهاز على الآخر، فلن يشهد المجال العام العربي قدراً من الاستقرار، حتى يعرف العلمانيون أنّ احترام المرجعية الحضارية للمجتمع، وحضور الدين في المجال العام، لا يعني ردّة حضارية، أو النيْل من الحريّات، وحتى يعرف الإسلاميون أنّ مناخ الحريّات لا يعني الانحلال القيمي والأخلاقي، أو استباحة المُقدّسات.. وحتى ذلك الحين سيستمرّ هذا الصراع، وستتجدّد جولات تلك المعارك الاستقطابية.

الرابط المختصر :