; الافتتاحية (العدد 588) | مجلة المجتمع

العنوان الافتتاحية (العدد 588)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 21-سبتمبر-1982

مشاهدات 16

نشر في العدد 588

نشر في الصفحة 4

الثلاثاء 21-سبتمبر-1982

    فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم

  إنها إحدى دعوات إبراهيم -عليه السلام- الذي اختار لبعض ذريته مجاورة البيت العتيق؛ طلبًا للأمن في العبودية لله، وطمعًا في استمرارية عقيدة التوحيد جيلًا بعد جيل، ولقد قاسى إبراهيم وعانى، فعرف أهواء الناس ورغابهم، وخبر فتن الدنيا ومكرها، واكتشف -وهو الداعية الأصيل- مكر أعداء الدعوة وفتنتهم، وواجه كيدهم وتحديهم، أولئك الذين أرادوا أن يفتنوه عن دينه فما استطاعوا، فأوقعوا به، وقالوا حرقوه، لكن الله نصره عليهم، وهو في قلب النيران التي أشعلوها لتصفية واجتثاث دعوته، فكانت النار بردًا وسلاما عليه، لذا حق لإبراهيم -عليه السلام- أني يتوخى الحرص كل الحرص في مصير ذريته؛ فاختار لها مسكنها بمجاورة الكعبة ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (سورة إبراهيم: 37). وهكذا تهوى القلوب إلى مكة على مر الأزمان، حيث تنتظم الجموع في موكب عظيم يوم الحج في ذلك الوادي عند البيت الحرام. 

     لقد أجاب الله دعوة إبراهيم ولباه، فاستمرت عقيدة التوحيد التي حملها الرسل بعده، وتعاقبت الأجيال المؤمنة من (بعض الذرية) الإبراهيمية، حاملة الرسالة نفسها التي اكتملت يوم أن أكمل الله الدين باكتمال دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، وذلك كما قال المولى -سبحانه-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (سورة المائدة:3)، ومن ثم انتشر عباد الرحمن في أرجاء المعمورة كلها ليربطهم اللقاء كل عام عند البيت العتيق، الذي رفع إبراهيم قواعده بعد أن حطم الأوثان بيده، وقهر أتباعها بدعوته، وانتصر على أهل الفتنة والكيد بإخلاصه ودعائه.

     هنا يتأمل المسلم يوم الحج فيرى أفئدة المسلمين تهوي نحو مقام إبراهيم، وهي تحيي تلك الذكرى في أروع مشهد تبتهل إلى الله معتصمة بدينه، أما أعداء هذا الدين فهم على حال أسلافهم، يكيدون، وينبشون، ويزرعون بذور الفتنة، كما كان يفعل أعداء الأنبياء، لكنهم ﴿كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله (سورة المائدة: 64) فلا هم منتصرون على هذا الدين، ولا هم بقادرين على إخفاء شعلة الإسلام: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة التوبة: 32)، لقد حاول أعداء الدعوة على مر الأزمنة والأجيال فتنة رجال الدعوة، ومازالوا يتفننون حتى اليوم في ابتداع المؤذيات للإيقاع بالفئة المؤمنة؛ بغية تصفيتها، ووأد فكرها، واجتثاث حركتها، لكن كل تلك المحاولات لم تطفئ الجذوة.

  • ففي أيام الخلافة العثمانية ظن أعداء الإسلام أن تصفية الخلافة، وقطع استمرارها سيؤدي إلى خنق حركة الإسلام الموارة، لكن سقوط الخلافة لم ينه دعوة الإسلام؛ فانبثقت الحركة الإسلامية بعد سنوات قليلة بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا.
  • وفي زمن الاستعمار تفنن المستعمر في إخراج المسلمين عن دينهم؛ فغير عادتهم، وجلب إليهم كل فتنة، وحاول التغيير في صميم حياتهم، فغير لغة البعض، واستولى على أموال البعض، واشترى قادة البعض، وسجن البعض، وقتل البعض، لكن بعض الذرية مازالت قابضة على دينها، متمسكة بأهداب شريعتها، منافحة عن عقيدتها حتى النهاية.
  • وفي هذا الزمن هنالك من يحاول وأدا الإسلام بتصفية دعاته، كما يحصل في كثير من الأقطار الإسلامية كسورية، وتونس، ومصر، وأفغانستان، وغيرها.
  • ولم ينس أعداء الإسلام منطقة الخليج أيضًا؛ فبالأمس تعالت همسات التحريض على الإسلام وأبنائه ودعاته على لسان واحد من أصحاب الكيد والغل، ليصبها حروفًا من الفتنة، وأسئلة من العداوة والبغضاء في أذن أمير الكويت.

     ومنذ أيام حاولت إحدى مجلات اليسار المعادي للإسلام ودعاته العزف على نفس الأغنية التحريضية البشعة، عندما تحدثت عن الملتقى التربوي لشباب الخليج العربي، وإذا كانت هذه النماذج القليلة أمثلة من الحرب التحريضية التي يقوم بها من لا يستطيعون الدس إلا عندما تكون رؤوسهم في الرمال، فإن سلوكية هؤلاء لا تختلف بحال من الأحوال عن المجاهرين في حرب الإسلام ودعاته، كما أن نتائج هذه الحرب لن تكون أفضل حالًا من أعداء هذا الدين السابقين، فكلهم يزرع بذوره في الهواء، ولن يحصد إلا الريح التي لا بد أن تجتثه، فلا تحميه عقيدة، ولا يسعفه يقين.

     إن دعوة الإسلام مازالت تقف بصلابة أمام كل المحاولات العدوة، وهي سرعان ما تسرى موارة بين الشعوب إثر كل ضربة يقوم بها أعداء الإسلام ضد دعاة هذا الدين، مما أسقط في أيدي أولي المكر وأصحاب الفتنة المتربصين بأصحاب الاتجاه الإسلامي في دائرة السوء، وهو الأمر الذي أدهش رجال الاستشراق الغربيين الذين يراقبون صراعات جميع الاتجاهات السياسية والحزبية والاستعمارية مع الإسلام ودعاته، على أن أسباب الدهشة تعود إلى جهل أولئك بحقيقة الدعوة الإسلامية، حقيقة بنيتها الروحية، وحقيقة بنيتها التنظيمية المعجزة، الأمر الذي جعل ظاهرة البعث الإسلامي التي يعيشها المسلمون -وهم في أحلك ظروفهم- مجهولة الفهم والسببية عند أولئك.

  • وللإسلام ظواهر كثيرة غير محسوسة تحير المستشرقين والمراقبين من أعداء الدعوة الإسلامية، تلك هي روحية هذا الدين التي استوعبتها فطرة الفرد المسلم، وهيأته بالتالي لمواجهة جميع الظروف والصروف مع الفئة المؤمنة مهما قلت وندرت في وحدة واحدة، يشدها إلى بعض توحيد الإله الواحد لينبني بعد ذلك أساس المجتمع المسلم بالوحدانية، وهي الطاقة المعجزة التي تفتقر إليها جميع المجتمعات اللاإسلامية.
  • وللإسلام ظواهر محسوسة كثيرة لها فاعلية التنظيم الرائع المكين، الذي يوحد من ثم المجتمع وفق ناموس واحد، وما الصلوات الخمس التي يقيمها المسلمون كل يوم إلا ظاهرة واحدة من المحسوسات التنظيمية، كذلك فإن الصيام واحد من أهم عوامل التنظيم الإسلامي الرائع، ويبقى الحج أكبر مشهد مرئي لذلك التنظيم؛ حيث تهوي أفئدة المسلمين من كل حدب وصوب نحو الهدف الواحد، وأداء النسك الواحدة، وعبادة الله الواحد.

     نعم إن الإسلام دين الحياة، ولن يضيره كيد أعدائه، ولن ينهيه إيذاء دعاته؛ فأصوله ثابتة في الأرض، وجذوره ضاربة إلى أبعد ما يتصور المحرضون والمفتنون، وذلك حتى قيام الساعة، ومن شرائط هذا البقاء والامتداد للإسلام بقاء الفئة المؤمنة لحمله حتى يوم القيامة، وهو ما نص عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» (رواه الستة)، وفي حديث آخر: «ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله» (رواه مسلم، والبخاري، واللفظ لمسلم).

     هنا تبدو محاولات العدوان والتحريض على أبناء الإسلام، وحملة شعلته يائسة، فالله أعطى الوعد للفئة المؤمنة بالنصر، كما أعطى الوعد بتعطيل كل الوسائل المعادية للدعاة، قال -تعالي-: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (سورة الأنفال: 30).

     وهكذا يظل دولاب الحياة يسير السيرورة نفسها، حيث تتحقق معه إرادة الله التي نزل القرآن معبرًا عنها -بقوله-:﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (سورة الأنبياء: 18). 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الحج.. نسك ودعوة

نشر في العدد 2111

23

الجمعة 01-سبتمبر-2017

جولة مع ركب الله

نشر في العدد 46

16

الثلاثاء 02-فبراير-1971