العنوان الانتفاضة وحكم الجنرالات ومأزق الصهيونية التاريخي
الكاتب أحمد محمد إبراهيم
تاريخ النشر السبت 23-فبراير-2002
مشاهدات 16
نشر في العدد 1490
نشر في الصفحة 24
السبت 23-فبراير-2002
منذ ٤ يونيو ١٩٦٧م احتكر جنرالات الصهيونية القرار السياسي ولا يزالون ينفردون به حتى هذه اللحظة
سواء سموا شارون "ملك إسرائيل" أو البلدوزر أو الثور الهائج.. فإن سياساته كانت على الدوام تتحول إلى مآزق لبني قومه
يقول نابليون بونابرت: "إن الحرب مسؤولية الأمة كلها، ولهذا فإن قرار الحرب سياسي، والقتال ليس قراراً عسكرياً، بل هو أمر سياسي ينفذه العسكريون" إن فهم هذه المقولة يكشف لنا مدى المأزق التاريخي والفشل الاستراتيجي الذي يحياه الكيان الصهيوني بسبب احتكار جنرالات القتال لقرارات السياسة، وتصرفهم تحت غواية السلاح تجاه المدنيين الفلسطينيين، كما لو كانوا في ميدان قتال حقيقي يستخدمون فيه الدبابات وطائرات "إف ١٦" ومروحيات الأباتشي والقصف الصاروخي، ومن نافلة القول: إن الانتفاضة الفلسطينية المباركة قد أدخلت الصهاينة النفق المظلم الذي أراد جنرالاتهم أن يحبسوا فيه القضية الفلسطينية، كما أن انتقال الانتفاضة من الحجر إلى السلاح، ووصولها إلى عمق الأرض المحتلة في فلسطين ١٩٤٨م، قد أفقد الصهاينة حلم الأمن الذي وعدهم به الجنرال باراك ومن بعده الجنرال شارون.
وهكذا فإن نظرة سريعة لتاريخ الجنرالات الصهاينة تثبت أنه منذ استيلائهم على القرار السياسي في أعقاب نجاحهم الظاهر في حرب ١٩٦٧م، والكيان الصهيوني يجري وراء سراب موهوم اسمه الأمن الذي لا يتحقق أبداً، وقد كانت قراءة رئيس الوزراء آنذاك "ليفي أشكول" للمستقبل مبكراً على ضوء معطيات الواقع الجديد الذي أوجدته حرب ١٩٦٧م كفيلة بتشخيص الواقع المر الذي يعيشه الصهاينة هذه الأيام، فقد قال "أشكول" عن جموع الجنرالات وتجاوز السلاح لحدوده في تلك الحرب، وكما يروي مدير مكتبه العسكري الجنرال "إسرائيل ليور": "ماذا يريدون؟! هل يريدون أن نعيش بالسيف وحده؟! هل يريدون المستقبل إسرائيل أن يكون بالسيف إلى الأبد؟!".
والحاصل أن جنرالات الصهيونية وابتداء من يوم ٤ يونيو ١٩٦٧م أي اليوم الذي سبق العدوان، قد استولوا على القرار السياسي، ولا يزالون حتى هذه اللحظة يمسكون به، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات، ذلك أنه من يومها وإلى الآن فإن صناع القرار السياسي الصهيوني ظاهراً وباطناً كانوا ولايزالون من الجنرالات أمثال "إسحق رابين، موشي ديان" إيجال الون، إسحق موردخاي، حاييم برليف، أمنون شاحاك، إيهود باراك، وأخيراً أربيل شارون".
ومثل جنرالات الصهيونية بسلوكهم وتفكيرهم الذي بنى على أن القوة والسلاح هي الأداة الوحيدة لتنفيذ السياسة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، تجسيداً واضحاً، وبعثاً جلياً للأساطير اليهودية القديمة التي تقدس القوة، وتقول إحداها: "إن السيف والتوراة نزلا من التوراة ملفوفين معاً"، كما تقول إحدى الصلوات اليهودية: "فلتحل البركة على إله القوة الذي يدرب يدي على الحرب، وأصابعي على القتال"، وتحمل كل وحدة من وحدات الجيش الصهيوني تابوتاً توضع فيه التوراة، نقشت عليه هذه العبارة: "انهض بالله ودع أعداك يسيرون ويحملون تابوت العهد".
وهو التابوت الذي كان آية ملك "طالوت" الفقير الذي ملكه الله بني إسرائيل.
وإذا كانت هذه عقيدة جنرالات الصهيونية ونظرتهم إلى القوة والسلاح، فإن النظرة إلى جيش الاحتلال وما يمثله في الضمير الصهيوني والمعتقد اليهودي هي الأخرى تلفتنا إلى أمر شديد الخطورة مثير للانتباه والاهتمام، فقد ذهب الحاخام اليهودي "كوك" في نظرته إلى الجيش الإسرائيلي على أنه القداسة الكاملة، وهو الذي يمثل حكم شعب الإله فوق أرضه. أما "ديفيد بن جوريون" مؤسس الكيان الغاصب والأب الروحي لجنرالاته فقد قال: "إن خير مفسر للتوراة هو الجيش الإسرائيلي".
لقد كان من حسن حظ الفلسطينيين وسوء طالع اليهود بالطبع، أن الذي يقود الكيان المحتل فر في هذه اللحظة الحرجة من تاريخها هو الجنرال شارون، وقد قدم أربيل شارون نفسه في انتخابات رئاسة الحكومة الأخيرة على أنه المسيح المخلص الذي سيخلص إسرائيل ويقود شعبه إلى الأمن النهائي المطلق والأبدي، وهذه الكلمات تواترت خلال حملته الدعائية في الانتخابات عام (۲۰۰۱م)!.
لكن النظرة التحليلية والقراءة الموضوعية لتاريخ الجنرال شارون تخلص إلى أنه ليس سوى ورطة محيطة بالسياسة الإسرائيلية، وكارثة محققة للكيان الغاصب، وقد كانت القاب تطلق عليه من قبيل "البلدوزر" و"الثور الهائج" أكثر تعبيراً عن واقع الحال اليوم أكثر من ذي قبل، ولكن بفهم مختلف يتعلق بوجود ذلك الكيان.
والجنرال شارون الذي يحلو له أن يطلق على نفسه "ملك إسرائيل"، يحيط نفسه بسياج من الادعاءات نشأت وترعرعت معه منذ صباه، فقد بدأت علاقته بالسلاح حين أهداه والده في عيد ميلاده الخامس (۱۹۳۳م) مسدساً، وقد اشترك في حرب ١٩٤٨م، وأصيب في بطنه، بينما كان يحرق أحد الحقول الزراعية العربية، لكن شارون كان يحقق نجاحات عسكرية غالباً ما تتحول إلى مأزق للسياسة الإسرائيلية.
ففي عام ١٩٤٨م، أحرز نجاحات عدة، لكنه وجد نفسه يحارب ضد "المتسللين العرب" عاماً أخر، وبدأ يدير بنفسه حلقة من العنف واليأس. وهكذا، ففي عام ١٩٥٢م، حمل شارون مسدسه ومقصه هو ثمانية آخرون وقطعوا الأسلاك الشائكة، وعبروا الحدود لينسفوا بيت أحد الفدائيين العرب المشهورين بتسللهم عبر الحدود. ثم ما لبث أن وصف هذه العملية بأنها ناجحة مع أنها نسفت بيتاً غير المقصود.
ونظراً لنجاح هذه العملية الفاشلة!!، قرر الجيش تشكيل وحدة للعمليات الخاصة "وحدة ١٠١" لتقوم بعمليات إرهابية ضد العرب، وقاد شارون جنوده أو "شياطينه كما كانوا يدعون" في أول حملة رسمية سرية إرهابية يوم ١٤ أكتوبر سنة ١٩٥٣م، فاتجه إلى قرية "قبية" الفلسطينية، وطوقت قواته القرية وغمرتها بوابل من نيران المدفعية، فدكتها دكاً، ثم تقدم شارون المشاه، فأجهزوا على من بقي على قيد الحياة.
واستمر يشارك في حروب، تحرز نجاحات متتالية، لكنها لا تحقق الأمن المرجو، ولا تأتي بالسلام المنشود!!.
وفي حرب ۱۹۷۳م تساقطت حوائط "خط بارليف "الناجح" تحت أحذية القوات المصرية، وحينما عبرت القوات المصرية قناة السويس
وأسقطت "١٠٤٠" طائرات صهيونية ودمرت (٤٠٠) دبابة في الأيام الثلاثة الأولى للحرب سقط الصهاينة في هوة اليأس، وتقدم الجنرال المنفذ شارون لينفذ عملية الدفرسوار بالالتفاف حول القوات المصرية والعبور إلى غرب القناة، وفي عنفوان الفرح كتب أحد الجنود على دباباته "شارون. ملك إسرائيل"، وملك إسرائيل هو أحد القاب المسيح المخلص، ثم ما لبث أن انسحب الجنرال شارون بقواته مرة أخرى إلى شرق القنال، بل كان هو نفسه وزير الحرب الصهيوني الذي انسحب من سيناء المصرية بكاملها، وأصبر أوامره بتدمير المستعمرات اليهودية فيها.
لكن هذا الجنرال نفسه قاد إسرائيل وجيشها إلى المستنقع البناني في أكتوبر ،۱۹۸۲م، فيما كان يعرف بعملية "سلام الجليل" آنذاك، ويكشف تطور الأحداث كم كان غزو لبنان مازقاً صنعه الجنرال شارون، فقد تحقق النجاح الظاهر للحرب التي انتهت بالجيش الصهيوني إلى احتلال أول عاصية عربية هي "بيروت" وإلى خروج المقاومة الفلسطينية المسلحة من لبنان إلى تونس، لكن المقاومة اللبنانية "التي حلت بدلاً من المقاومة الفلسطينية"، ما لبثت أن نشأت وترعرعت وزرعت بهجماتها الناجحة وتفجيراتها الرعب في قلوب جنود الاحتلال في بيروت، واضطرتهم إلى طلب الأمان لأنفسهم ليخرجوا سالمين منها إلى جنوب لبنان حيث أقامت قوات الاحتلال ما عرف بالحزام الأمني، لكن هذا الحزام ما لبث أن تحول إلى حزام من الفزع والرعب بفعل صواريخ الكاتيوشا والعمليات البطولية لجنود حزب الله.
وهكذا ظلت "نجاحات" الجنرال شارون تطارد الصهاينة، فأصيب رئيس وزرائها أنذاك "مناحيم بيجين" بالاكتئاب واستقال من منصبه وعاش في عزلة إلى أن مات، واضطر الجيش الذي "لا يقهر" إلى الفرار المهين من جنوب لبنان دون قيد أو شرط في عهد حكومة الجنرال باراك.
لكن "نجاحات" الجنرال شارون لم توضع لها خاتمة بعد، فبعد أن خرج إلى الاحتياط لم يستطع صيل أن يرضى بالانسحاب من الساحة، وإنما إلى مراكز السلطة السياسية، وأصبح رئيساً لحزب الليكود المتطرف، وقام منذ أكثر من عام- تحت حراسة الفي جندي- بانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك للمزايدة على حكومة الجنرال باراك ووضعها في مأزق.
وبالفعل فقد كانت الزيارة هي الشرارة التي أشعلت نار الانتفاضة الفلسطينية المباركة.
وهكذا وجد الجنرال باراك وحكومته أنفسهم في مأزق أمني كبير، وضعهم فيه رفيق السلاح الجنرال شارون، فالجنرالان- باراك وشارون تربيا في الواحدة "۱۰۱" الخاصة بتنفيذ العمليات الإرهابية، وكلاهما قتل بيده وخنق بأصابعه وكان تصرف باراك تجاه الانتفاضة كما هي عقيدة جنرالات الصهيونية، وكما تربى في الوحدة (۱۰۱)، فقصف المدنيين بصواريخ المروحيات وال "إف ١٦" وحاصر المدن بالدبابات، لكنه لم يفلح في وقف الانتفاضة، وذهب غير مأسوف عليه، وركب سدة الحكم من بعده الجنرال شارون.
ومن تصاريف القدر أن الجنرال شارون الذي غزا بجيشه لبنان ليخرج المقاومة الفلسطينية المسلحة من هناك، عاد هذه المرة ليجد المقاومة الفلسطينية المسلحة تقوم بعملها من داخل ،فلسطين، وكان المأزق هذه المرة خانقاً ممسكاً برقبة "إسرائيل" و"ملك إسرائيل".
هذه المرة استطاعت الانتفاضة الفلسطينية تطوير وسائلها وعملياتها النوعية والانتقال من الحجر إلى البندقية، وهزيمة الاستراتيجية التي وضعها "بن جوريون" مؤسس الكيان الغاصب والتي تقوم على أساس أن تحقق "إسرائيل" لنفسها قوة ردع تواجه بها "الكم البشري الإنساني الضخم، المحيط بها، وشروط هذه القوة كما يلي:
جيش أقوى من كل الجيوش العربية مجتمعة.
قادر على نقل المعركة من أول يوم إلى أرض العدو.
مهيأ لحسم المعركة في عدة أيام لأنه جيش شعبي من الاحتياط
يدعم هذا الجيش صداقة استراتيجية مع قوة عظمي
لكن هذه الاستراتيجية تتهاوى الآن بفعل الانتفاضة المباركة التي حيدت قوة الردع الصهيونية، وحولتها إلى هراوات المطاردة الأطفال في الشوارع، أو البحث في ضمائر الاستشهاديين الذين يزلزلون أمن الصهاينة ويرحلون ومعهم أسرارهم.
فقد وضعت الانتفاضة جيش الاحتلال في مواجهة مع المدنيين، وفي حرب مدن غير معلنة فضلاً عن حالة استنفار دائم وشامل في صفوفه تحسباً لأي طارئ، إذ لا يدري من أين ستأتيه الضربة المقبلة، وانتقلت الانتفاضة إلى العمق في المدن المكتظة بالسكان، وأدخلت عملياتها المتتابعة الرعب في قلوب الصهاينة، بينما يقف الجيش عاجزاً عن تأمين مواطنيه.
واستطاعت الانتفاضة إطالة أمد معركتها، واستخدمت أسلحة نوعية جديدة كالهون والآر بي جي، وصواريخ القسام ١ و ٢ ، فضلاً عن البندقية والمتفجرات.
لقد حولت الانتفاضة جيش الاحتلال الذي يبلغ قوامه ۹۰۰ ألف جندي مزودين بـ ۳۸۰۰ دبابة و ٥٥٠٠ عربة نقل، و ٤٥٩ طائرة حربية، و١٣٠ مروحية و ٥٣ قطعة بحرية، و ۱۰۰ صاروخ نووي، حولته إلى كتلة من العجز، وشلت قدرته على العمل والحركة، ورغم أن شهداء الانتفاضة قد جاوزوا الألف شه، فإن قتلى اليهود قد قاربوا الثلاثمائة فضلاً عن الجرحى وافتقاد الأمن الذي جاء شارون إلى سدة الحكم لتحقيقه.
إن الانتفاضة تكشف الآن حجم المأزق الذي صنعه جنرالات الصهيونية، أو ما يعرف ب "مؤسسة الأمن"، ابتداء من الجنرال ،ديان، في عام ١٩٦٧م، وانتهاء بالجنرال "شارون" في عام ۲۰۰۲م، كما تكشف مدى الفشل الاستراتيجي الذي يعيشه الصهاينة، وكيف أن غواية السلاح وغطرسة القوة لا تأتي بالأمن المفقود، ولا تصنع السلام المستحيل.
لقد كشفت الانتفاضة لكل يهودي مذعور يفرض على نفسه حظر تجوال قسرياً تحت تأثير الخوف والفزع، كيف أن "ملك إسرائيل" المخلص شارون، ما هو إلا "مسيخ دجال" ظل بعدهم ويمنيهم وما وعدهم إلا غروراً، وأماني كذاباً.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلدراســـــات فـي التطبيـــــع مع الكيـــــان الصهيونـــــي
نشر في العدد 2176
43
الأربعاء 01-فبراير-2023