العنوان التفاهمات التركية الروسية.. والأزمة السورية
الكاتب د. سعيد الحاج
تاريخ النشر الأحد 01-يناير-2017
مشاهدات 752
نشر في العدد 2103
نشر في الصفحة 40

الأحد 01-يناير-2017
يحاول الحزب الحاكم بتركيا تفعيل المساعي الدبلوماسية في تخفيف الحصار عن أهل سورية ورفع المعاناة عنهم؛ إعمالاً للقيم الإسلامية التي تحض على نصرة المظلوم، ومساعدة المحتاج، كما يسعى من جهة أخرى إلى مواجهة المد الطائفي الإيراني الذي بدأ يتمدد ويتسع في المنطقة.
فخلال عام فقط، انتقلت العلاقات التركية الروسية من شفا الحرب إلى التعاون والتفاهم، وفي الحالتين كانت الأزمة السورية هي السبب والنتيجة في آن معاً.
منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1924م، وعلى مدى عشرات السنين، ظل المحور الغربي هو الأساس والبوصلة في سياستها الخارجية، بحيث غدت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية أساس المحور السياسي، والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي أساس المحور الاقتصادي، والعلاقات مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) أساس المحور الأمني والعسكري.
في السنوات القليلة الأخيرة، حاول العدالة والتنمية إضفاء شيء من التوازن على سياسته الخارجية بالتوجه شرقاً دون القطيعة مع الغرب، فطور علاقات بلاده الاقتصادية مع روسيا، وطلب عضوية منظمة «شنغهاي» للتعاون، وأصبحت تركيا «شريكاً للحوار» فيها عام 2013م، وسعى لشراء منظومة دفاع صاروخي من الصين، لكن كل هذه الخطوات عادت إلى نقطة الصفر لحظة إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية في 24 نوفمبر 2015م.
أزمة إسقاط المقاتلة
أدت هذه الأزمة إلى إحكام سيطرة روسيا على الأجواء والميدان في سورية، وحرمان أنقرة من ممارسة أي دور مهم هناك، وأصبح غاية ما تستطيعه القوات المسلحة التركية في الشمال السوري هو إطلاق القذائف المدفعية من بعيد لمنع تقدم الفصائل الكردية المسلحة.
حاولت أنقرة إقناع موسكو أنها لم تتعمد إسقاط طائرة روسية بل أسقطت طائرة مجهولة الهوية اخترقت أجواءها ورفضت العودة أدراجها رغم عدة تحذيرات، وأرسلت رسائل مفادها الحرص على العلاقات الجيدة مع روسيا، لكن الرد الروسي الأولي كان نشر منظومة «S400»، واستقدام حاملات طائرات وقوات إضافية لسورية والمنطقة، لاحقاً وبعد عدة رسائل واتصالات عديدة، بدا وكأن الطرفين قد اقتنعا بمسؤولية «الكيان الموازي» المتغلغل في المؤسسات التركية عن إسقاط الطائرة دون قرار مباشر من القيادة التركية لتوريط أنقرة وتفخيخ مسار تقاربها مع موسكو، وهو ما ساعد - ضمن عوامل أخرى عديدة - على ردم الهوة في العلاقات بين الطرفين وعودتهما للتقارب.
دلالات «درع الفرات»
بدأت خطوات التقارب الأولى قبيل المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في يوليو الماضي، وتوجت بموقف تركي علني قابل ببقاء «الأسد» في الفترة الانتقالية ضمن أي حل سياسي للأزمة السورية، بيد أن الانقلاب كان نقطة تحفيز وتسريع لهذا التقارب، سيما مع موقف موسكو السريع والواضح في دعم «أردوغان» والحكومة التركية، في تناقض واضح مع المواقف الغربية المتأخرة أو الرمادية بخصوص الانقلاب أو الإجراءات المتبعة بعده في ظل حالة الطوارئ.
المُخرج الأهم لعملية التقارب بين تركيا وروسيا كانت عملية «درع الفرات» التي أطلقتها أنقرة في أغسطس الماضي بضوء أخضر روسي، وهو ما يعني أنها في الحد الأدنى غير متعارضة مع المصالح الروسية في سورية، وأن موسكو على اطلاع على تفاصيلها وحدودها وأهدافها، وأن موسكو قد أخذت من أنقرة على ضمانات معينة لعدم خروجها عن مسارها المرسوم، وأنها حصلت على ثمن مقابل.
ولأن عملية «درع الفرات» كانت تسير بالتزامن مع القصف الوحشي من قبل كل من روسيا والنظام لأحياء حلب الشرقية، فقد اعتبر الكثيرون ذلك إشارة على أن التفاهمات التركية - الروسية تشمل مقايضة حلب بالباب، بمعنى السماح للقوات التركية ومجموعات الجيش السوري الحر بالسيطرة على الباب في مقابل غض أنقرة الطرف عما يحصل في حلب وعدم دعم المعارضة السورية فيها.
تفاهمات حلب
خلال زيارته إلى موسكو في السادس من ديسمبر الماضي، أكد رئيس الوزراء التركي «بن علي يلدريم» أن عملية «درع الفرات» لا تشمل حلب، وأن بلاده لا أطماع لها في المدينة، بل قال: إن هذا التصريح العلني أتى بعد طلب روسي لتوضيح موقف أنقرة الحقيقي من المدينة، جاءت هذه الزيارة بعد أقل من أسبوعين من قصف جوي تعرضت له القوات التركية قرب مدينة الباب واتهمت النظام بالوقوف خلفه، بينما فسر بعض المراقبين ما حصل على أنه رسالة روسية ضمنية في الذكرى السنوية لإسقاط المقاتلة.
هذه التوترات دفعت الطرفين للجلوس إلى الطاولة مراراً، كانت إحداها عبر زيارة مفاجئة من رئيس جهاز الاستخبارات التركية «حاقان فيدان»، ورئيس أركان الجيش «خلوصي أكار» إلى موسكو، فكانت المحصلة تفاهمات لم نحظ يوماً بالاطلاع على تفاصيلها، لكننا رأينا إشاراتها في الواقع الميداني.
المُخرج الأوضح لهذه التفاهمات تبلور في اتفاق وقف إطلاق النار في شرق حلب، وإخراج المدنيين والعسكريين منها، وهو الاتفاق الذي أبرم ثنائياً بين موسكو وأنقرة في البدء، قبل أن تفرض إيران نفسها عليه من خلال تعطيل عملية الإجلاء على يد المليشيات التابعة لها أكثر من مرة، هذه الصيغة الثلاثية أنتجت بدورها «إعلان موسكو» الذي صدر عن القمة التي جمعت الدول الثلاث على مستوى وزارات الخارجية والدفاع في 20 ديسمبر الماضي، وهو أشبه بإعلان مبادئ حول حل الأزمة السورية سياسياً.
اغتيال السفير الروسي
بيد أن القمة الثلاثية في موسكو استبقت بحادث مهم وخطير، وهو اغتيال السفير الروسي في أنقرة «أندريه كارلوف» على يد شرطي من القوات الخاصة التركية خلال افتتاحه معرضاً فنياً عن العلاقات التركية - الروسية.
وبغض النظر أكانت العملية فردية بدافع الحماسة والانتقام لحلب كما ظهر من الشعارات التي أطلقها الشرطي، أو كانت منظمة ومدبرة لأهداف سياسية، وبغض النظر هل هي عملية داخلية بحتة أم ثمة أصابع تدخل خارجي رسمتها، فإن تداعياتها على العلاقات التركية - الروسية وعلى الأزمة السورية أكبر من أن يتم تجاهلها.
مرت الساعات الأولى للعملية في ظل تصريحات من المسؤولين في كل من أنقرة وموسكو اعتبرت أن الاغتيال استهدف العلاقات الثنائية بينهما؛ وبالتالي زال مؤقتاً التخوف من تدهورها كما حصل إثر إسقاط الطائرة الروسية، وإن كان مستقبل هذه العلاقات ليس مضموناً وسيعتمد إلى حد كبير على مخرجات التحقيق، إضافة لعوامل أخرى كثيرة، بيد أن الحادث قد أراح موسكو من الضغوط الدولية الممارَسة عليها في حلب وسورية بشكل عام، ويتوقع أن يطلق يدها أكثر فيهما، بينما يزيد من الضغوط على تركيا المطلوب منها إبداء حسن النوايا وتطمين الهواجس الروسية؛ وبالتالي يضعف ذلك موقف أنقرة في المحادثات المتعلقة بسورية وموقف المعارضة السورية بالتبعية.
الحاجة الروسية لتركيا، وآفاق الدور التركي في سورية يمكن تصنيفها ضمن أربعة مسارات:
الأول: عملية «درع الفرات» وحدودها ومستقبلها ومآلاتها.
الثاني: التوقعات بفتح جبهة إدلب بعد حلب، إثر تجميع جزء كبير من الفصائل المعارضة فيها.
الثالث: مسار الحل السياسي وضرورة مشاركة المعارضة فيها، لما تتمتع به تركيا من نفوذ وثقة في أوساطها.
الرابع: احتمالية انتقال المواجهات في سورية من المدن إلى القرى والريف، وتحول الأوضاع من مواجهة عسكرية شبه نظامية إلى حرب عصابات واستنزاف على المدى البعيد، وهو تطور - إن حصل - سيطرح موقف الدول الداعمة وفي مقدمتها تركيا بقوة.
في كل الأحوال، فإن الدور التركي في الأزمة السورية آخذ في التعاظم والتعمق، أحياناً وفق رغبة أنقرة وغالباً على توجس منها، من ناحية أخرى، فإن العلاقات التركية - الروسية ليس مضمونة المسار ولا مأمونة العواقب في ظل معوقات كثيرة، في مقدمتها عضوية تركيا في «الناتو»، وحالة التنافس في سورية، وتضارب المصالح في أكثر من ملف؛ منها التنافس على السيادة في البحر الأسود، وملف أتراك القرم، والاحتمال القائم دائماً بتغير مسار العلاقات حين تتبدل أو تقل الحاجة المتبادلة بينهما والقائمة حالياً بشدة.
في الخلاصة، ستستمر التفاهمات بين أنقرة وموسكو في تقوية مسار العلاقات المتنامية بينهما في ظل المعطيات الحالية، دافعة باتجاه تهدئة الأمور في سورية وفرض الحل السياسي، بيد أن أي متغيرات كبيرة على صعيد الوضع الميداني في سورية، أو عملية «درع الفرات»، أو الموقف الدولي من الأزمة السورية، أو التفرد الروسي فيها، يمكن أن يعرض هذه العلاقات لهزات كبيرة، بل قد يعيد الطرفين إلى مربع التنافس والمواجهة المباشرة أو غير المباشرة.>
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
العلاقات الروسية الأفريقية تحت المِجهَر.. ماذا يريد «بوتين» من أفريقيــا؟
نشر في العدد 2176
33
الأربعاء 01-فبراير-2023

