العنوان التقارب الدولي.. و.. المصالح المتشابكة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 18-يوليو-1972
مشاهدات 19
نشر في العدد 109
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 18-يوليو-1972
التقارب الدولي.. و.. المصالح المتشابكة
من فترة والعالم يشهد تحولًا تاريخيًّا في مجال العلاقات الدولية. وربما لأنه كان تغيرًا تدريجيًّا، لذلك فإن القليلين هم الذين تنبهوا إليه وأدركوا مغزاه.. فالمتتبع لمجريات الأحداث، يجد أن الحدود الأيديولوجية تميعت وتراخت إلى درجة التخطيط المشترك بين الأيديولوجيات التي قسمت العالم في يوم من الأيام...
وكانت الإشارة الأولى بهذا التحول الكبير هي إنشاء الخط التليفوني المباشر بين موسكو وواشنطن في أعقاب الأزمة الكوبية الشهيرة، وكان المبرر ولا زال لهذا الاتصال المباشر، هو الخوف من الصدام النووي الرهيب... ولكن تطور الآن إلى نوع من التقارب أملاه إدراك القوى الكبرى إلى أن هناك مصالح مشتركة بينها حتى وصلت في نظر الكثيرين إلى درجة التآمر وإغضاء الطرف عن متطلبات الأيديولوجية.. وأكبر مثل لذلك هو التطور الأخير للحرب الفيتنامية.
ففي الأيام القليلة الماضية قام بدغورني رئيس الجمهوريات السوفياتية بزيارة مفاجئة إلى هانوي عاصمة فيتنام الشمالية، ولم ينتج عن الزيارة أي بيان مشترك، وهذا يعني أن المباحثات كانت سرية للغاية.
وأجمعت كل المصادر على أن الغرض من الزيارة هو التوصل إلى حل عاجل لحرب الفيتنام، وعلى أن المحادثات السوفياتية الفيتنامية كانت ناجحة بحيث توصل الطرفان إلى التفاهم حول ثلاث نقاط:
الأولى: السعي إلى الوصول إلى حل سياسي لا عسكري للنزاع في فيتنام.
الثانية: إعادة محادثات باريس بين أميركا وفيتنام بأسلوب جاد.
الثالثة : أن يقدم الطرفان مقترحات معقولة في محادثات باريس.
وهذا يعني أن روسيا تساعد أميركا، عدوتها الأولى، للخروج من حرب فيتنام بطريقة تحفظ لها كرامتها وماء وجهها..
وفي نفس الوقت الذي كان يقوم فيه بدغورني بإقناع قادة فيتنام بإنهاء الحرب سياسيا، كان هنري كيسنجر مستشار نیكسون للشئون الخارجية يقوم بزيارة مفاجئة أيضًا، لبكين بغية الحصول على تأييد الصين للتوصل إلى حل سياسي للأزمة.
ومن المصادفات العجيبة أن «لودك تو» رئيس وفد فيتنام في محادثات باريس كان موجوداً هو الآخر في بكين عندما وصل كيسنجر إلى هناك وهذه حقًا مصادفة مريبة للغاية، فلا يعقل أن يعرض المسؤولون الصينيون أنفسهم لهذا الحرج، ما لم يكن هناك اتصال مسبق على لقاء الرجلين في بكين، خاصة وكل منهما يعتبر المسؤول الأول عن مجرى المحادثات في باريس، ومن ناحية أخرى فقد نفى المسؤولون في كل من واشنطن وموسكو أي ارتباط بين زيارة كيسنجر وبودغورني للصين وفيتنام الشمالية، ولكنّ المراقبين يجمعون على أن الزيارتين قد تم الاتفاق عليهما في محادثات نيكسون مع السوفيات عندما زار موسكو في الشهر الماضي.
ولكن ما الذي يدفع روسيا بقيادة الحزب الشيوعي؛ الذي نصب نفسه المدافع الأول عن مصالح الطبقة العاملة، وبالتالي عن الدول التي انتصرت فيها الطبقة العاملة وتسلمت زمام القيادة.. ما الذي يدفعه إلى وضع يده في يد قلعة الرأسمالية والاستعمار وهي الولايات المتحدة، لإخراجها من ورطة الهزيمة في فيتنام؟؟، الواقع أن محادثات نيكسون في موسكو غير المعلنة كانت طويلة لكلا الجانبين بالذات حول موضوع فيتنام، ومن التحركات التي تبعت هذه المحادثات يبدو أن الكرملين قد وافق على مساعدة أميركا على إنهاء الحرب سلميًّا والتخلي عن تصعيد العمليات العسكرية ضد أميركا في فيتنام، ولكن حتى لا يغضب هانوي فقد أصر الكرملين على ضرورة إيقاف كل العمليات العسكرية الأميركية الرامية إلى مساعدة الجيش الفيتنامي الجنوبي حتى تكلل مفاوضات باريس بالنجاح.
ولأسباب كثيرة، يتمنى الكرملين أن يرى نهاية للنزاع في فيتنام.. هذا النزاع الذي يضع الاتحاد السوفياتي في موضع حرج. فبعد أن بثت أميركا الألغام البرية حول موانئ فيتنام الشمالية، أصبح من المتعذر على الاتحاد السوفياتي أن يواصل مد هانوي بالسلاح بدون معاونة الصين.. وقد أوضح الاتحاد السوفياتي بكل صراحة أن الصين لم تسمح للسفن السوفياتية بالرسو في موانيها، كما حرمت على الطائرات السوفياتية عبور أجوائها إلى فيتنام الشمالية.. ولذلك فإن الكرملين وضع في موقف غاية في الإحراج، وهو لا يستطيع أن يساعد فيتنام الشمالية بالعتاد والسلاح، ولا هو في وضع يستطيع فيه أن يدخل في مواجهة عسكرية مع أميركا، لأن ذلك سيؤدي إلى حرب نووية شاملة..
وفوق ذلك فإن السياسة الخارجية السوفياتية في هذه المرحلة تسعى إلى تحقيق شيء واحد، وهو كما ظهر من زيارة نيكسون لموسكو- تحقيق أكبر قدر من العلاقات الطيبة مع أميركا..
وبناء عليه فإن مصالح السوفيات البعيدة المدى، والتي ستحقق بالسلام مع أميركا تتغلب ولها الأولوية على المتطلبات العاجلة للأزمات في الشرق الأوسط، وبالذات في الهند الصينية، لأنها منطقة بعيدة جغرافيًّا عن سيطرة الاتحاد السوفياتي وحيث تلعب الصين الدور الأول.
ولكن المحير فعلاً هو موقف الصين. وقد أخذت الصين على عاتقها موقف المدافع عن حقوق الدول الصغرى، وأعلنت تأييدها لكل حركات التحرر من الاستعمار الأميركي، وأكدت هذا الموقف بالفعل بإرسال الأسلحة والمدربين وكل أنواع التأييد المادي والمعنوي، ليس فقط في شرق آسيا، ولكن أيضًا في أفريقيا والجزيرة العربية؛ حتى استطاعت أن تحقق لنفسها قدرًا كبيرًا من الثقة بين الدول الصغيرة. فلماذا تسعى الصين إلى أسلوب اللين والتفاهم مع أميركا في هذه الأيام؟ فهل يكون هذا التغيير نتيجة الاتفاقيات التي عقدت بين روسيا وأميركا أثناء زيارة نيكسون الأخيرة لموسكو؟
الواقع أن الصين قد التزمت جانب الصمت تجاه زيارة نيكسون لموسكو على الرغم من أنها زيارة في غاية الأهمية والتأثير بالنسبة للصين، خاصة أن اجتماعات موسكو كانت بين أعدائها التقليديين، ومن جهة أخرى فإن قصف الطائرات الأميركية، قد وصل إلى حوالي ۲۰ ميلا من حدود الصين مما يعتبر تهديدًا مباشرًا لمجهودات الصين لمساعدة فيتنام الشمالية في مواصلة الحرب ضد أميركا.. ورغم كل ذلك لم تظهر كلمة واحدة في صحافة الصين تعلق على كلا الحادثين..
ويفسر كثيرًا من المعلقين هذا الصمت بأن لدى المسئولين الصينيين شكوكًا كثيرة حول علاقتهم مع الدولتين الكبيرتين.. فهل كان نيكسون أمینا وصادقًا في تنفيذ الاتفاقية التي عقدها مع شوان لاي في فبراير الماضي؟ وهل نوايا روسيا تجاه الصين تنطوي على عداء أصيل يستحق أن تخاف منه الصين؟
هذا نموذج من الأسئلة التي يبدو أنها تدور في أذهان القادة الصينيين هذه الأيام...
وهذا في رأي الكثيرين ما يفسر عزوف الصين عن التعليق على اتفاقيات موسكو، ولذلك فإن موقف الصين الآن هو موقف الترقب والانتظار..
اما بالنسبة لقصف فيتنام في الأيام الأخيرة قريباً من حدود الصين، فقد اتسم تعليق الصحافة الصينية بالحذر الشديد، وكل ما قالته وكالة أنباء الصين أن الشعب الفيتنامي ليس بمفرده في هذا الصراع.. وهذا التعليق بالمقارنة مع التصريحات السابقة حول الإمبريالية الأميركية يعتبر ضعيفًا للغاية.
وهذا الحذر يناسب تمامًا رأي خبراء الشئون الصينية بالنسبة للسياسة الخارجية للصين؛ منذ انتهاء الثورة الثقافية.. فمن الواضح أن نهاية هذه الثورة بهزيمة الحرس الأحمر قد وضعت الجانب العملي والمصالح القومية فوق الاعتبارات الأيديولوجية..
وبذلك دخلت الصين لعبة الدبلوماسية مثل أي دولة أخرى، حتى ولو على حساب فيتنام الشمالية.
ولكن هذا التفسير لم يأخذ في الاعتبار الحقيقة الأساسية وهي أن قيادة الصين، على اختلاف ميولها، قد التزمت برأي أيديولوجي وفكري معين؛ منذ أعلنت دولة الصين. كما أن هذا التفسير فشل في اعتبار تعقيدات الموقف الراهن كما تراه بكين في هذه المرحلة..
ولذلك فيمكن تفسير صمت الصين اليوم بأنه تعبير عن مزيج من الشك، وعدم التأكد أكثر منه كتحول نحو انتهاج سياسة واقعية عملية بدلاً من التقيد بمتطلبات الخط الأيديولوجي، ويؤكد ذلك أن أحداث الشهور الأخيرة؛ منذ زيارة نيكسون للصين، كان لها تأثير فعال على الرأي..
والصورة المتفائلة، التي تبنتها الصين عن اتجاه الأحداث والتاريخ في العالم.. فيبدو أن الزعماء الصينيين قد تبنوا رأيًا متفائلًا للغاية عن نوايا نكسون تجاه فيتنام وكانوا واثقين بأنه سيأمر بسحب القوات الأميركية بأسرع ما يكون قبل موعد انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة..
ومما ساعدهم على بناء هذه الصورة الوردية انتصارهم في دخول الأمم المتحدة وطرد الصين الوطنية؛ ثم مجيء نيكسون لزيارة الصين والذي يعتبر انتصارا دبلوماسيا وسياسيا للصين، التي لم تعترف بها الولايات المتحدة لما يقرب من ربع قرن، ولكن الآن وبعد انتهاء خمسة شهور على زيارة نيكسون لبكين، وقبل موعد انتخابات الرئاسة في أميركا بحوالي ستة شهور، لا يوجد ما يدل على أن هناك أي نية في سحب القوات الأميركية من فيتنام... بل على العكس فقد أثبتت لهم أحداث الشهور الأخيرة بأن نيكسون لديه الإصرار التام على وضع حكومة من اختياره في فيتنام، حتى يقبل سحب القوات الأميركية.
والعامل الثاني الذي قلب حسابات المسؤولين الصينيين رأسًا على عقب، وجعلهم يلتزمون جانب الشك والصمت، أنهم كانوا يبغون من وراء دعوة نيكسون لبكين أن يضعوا أكثر ما يمكن من العوائق للحيلولة دون الوصول إلى اتفاقات ودية بين أميركا وروسيا، على الرغم من أن هذه الزيارة؛ وما ترتب عليها، قد أساءت للصورة الثورية التي بنوها لأنفسهم في السنوات الماضية.. ولكن روسيا أدركت طبيعة اللعبة ولم تقفل الباب في وجه نيكسون، وكذلك لم تثر للحد الذي يجعلها تهدد الصين بصورة مباشرة، مما قد يدفع واشنطن إلى عدم التقارب الشديد مع روسيا خوفًا من تغيير ميزان القوى بصورة مكشوفة..
ولذلك شعر الزعماء الصينيون هذه الأيام بالفشل في كسر حلقة التآمر الروسي الأميركي... وربما يكون ذلك هو السبب في أنهم لا يناقشون ولا يعلقون على اتفاقيات موسكو، لأن الصورة قاتمة لدرجة أنه من الأفضل ألا يعلنوا عنها... ولكنهم في نفس الوقت يطمئنون أنفسهم بالاعتقاد أنه على المدى الطويل هناك عناصر وعوامل أساسية تدعو للتنافس والصراع بين موسكو وواشنطن، أكثر من وجود أسباب تدعو إلى التعاون والاتفاق.
وقد لاقت هذه النقطة الأخيرة تركيزاً شديداً في الأيام الأخيرة داخل الصين.. فقد نشرت صحيفة «العلم الأحمر»، وهي الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، سلسلة من المقالات بعنوان «كيف تدرس تاريخ العالم».. وقد تعرضت المقالات لدراسة عميقة لتاريخ الاستعمار منذ الإمبراطورية الرومانية حتى الحرب العالمية الثانية؛ بدون أن تذكر ولو سطرًا واحدًا عن الأحداث العالمية؛ منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.. ولكن الدرس الذي يخرج به القارئ من هذه المقالات يشير إلى أن الإمبريالية؛ وهي كلمة تعنى في الصين الاستعمار الاشتراكي السوفيتي.. سوف تهدم نفسها بنفسها من خلال التناقضات الداخلية الموجودة داخل الدولة الاستعمارية..
وهذا لا شك يعني تفسيرًا للموقف الراهن للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، كما تراه الصين في المدى الطويل، على الرغم من المواقف الودية والتعاون بين الدولتين الكبيرتين.
والسؤال الآن هو: ماذا ستفعل الصين؟، هل في استطاعة بكين أن تقفز من عربة الدبلوماسية التي ركبتها أخيرًا مع الولايات المتحدة؛ وتعود مرة أخرى إلى مواقفها الصلبة التي تلتزم بما تمليه عليها أيديولوجيتها؟ أم إنها ستتجه إلى روسيا في محاولة أخيرة لكسر حلقة التعاون بينها وبين أميركا؛ وبذلك تنجح في تفريق أعدائها؟.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل