; الجذور التاريخية لأزمة كوسوفا.. وامتداداتها المعاصرة | مجلة المجتمع

العنوان الجذور التاريخية لأزمة كوسوفا.. وامتداداتها المعاصرة

الكاتب د. محمد علي البار

تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999

مشاهدات 15

نشر في العدد 1350

نشر في الصفحة 42

الثلاثاء 18-مايو-1999

الصرب لم يحكموا كوسوفا سوى ٤٣ سنة دخلت بعدها تحت الحكم العثماني مدة خمسة قرون

لم يستطع ميلوسوفيتش مواجهة سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا فوجه حقده كله على البوسنة ثم كوسوفا

يدعي الصرب أن كوسوفا هي مهد قوميتهم وأرض آبائهم.. ولكن التاريخ يكذب هذه الادعاءات، ويجعل قصة كوسوفا وصربيا الكبرى أسطورة، تقول دائرة المعارف البريطانية إن الصرب -وهم قوم من السلاف- كانوا قبائل متفرقة عندما دخلوا إلى البلقان في أواخر القرن السابع الميلادي.. وكان الألبان قد سبقوهم إليها وسكنوا كوسوفا وما يعرف اليوم بألبانيا. ولم يدخل السلاف النصرانية إلا في القرن العاشر الميلادي بما في ذلك روسيا ذاتها.

وانخرط السلاف في الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت ديانة الدولة البيزنطية الدولة الرومانية الشرقية التي كانت عاصمتها القسطنطينية والتي عرفت فيما بعد باسم إسلامبول أو إسطنبول بعد أن فتحها محمد الفاتح، وكانت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية تخوضان معارك ضارية ضد بعضهما فتحول الكروات على سبيل المثال إلى الكاثوليكية وكذلك فعل سكان سلوفينيا، بينما دخل الأرثوذكسية البعض على مدى قرون متطاولة وتتنافسان في استقطاب شعوب البلقان وضمها إلى جناحيهما، الشعوب السلافية في روسيا وفي صربيا والجبل الأسود، واليونان، والبلقان، والألبان وتكونت إمارة صغيرة مستقلة للصرب لأول مرة في التاريخ عام ۱۱۸۰م واستطاع أميرها أسطفان الثاني أن يحولها إلى مملكة « حكم في الفترة من ۱۱۹٦ » إلى « ۱۲۲۸م» وفي عام ١٣٣١م قام الملك أسطفان دوشان بتوسيع رقعة المملكة الصغيرة واستولى على معظم مقدونيا وأراضي الألبان فيما يعرف اليوم باسم ألبانيا وكوسوفا وفي عام ١٣٤٦م استولى على اليونان وسمى مملكته إمبراطورية. وهذا هو أقصى ما وصلت إليه ما يسمى بصربيا الكبرى، ولكنها لم تستمر إلا سنوات معدودة فقط حيث سقطت سكوبيا عاصمة مقدونيا بيد الدولة العثمانية الفتية الصاعدة عام ١٣٧١م. 

وسقطت كوسوفا وصربيا في معركة كوسوفا الشهيرة في ۲۸ يونيو عام ۱۳۸۹م، وكانت تلك إحدى المعارك التاريخية الكبرى حيث تجمعت أوروبا بقضها وقضيضها لمحاربة الدولة العثمانية واجتمعت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية لتقف ضد المد العثماني الإسلامي. وكان السلطان مراد الأول يقود الجيش العثماني الباسل وبدأت بوادر الهزيمة للصرب وحلفائها من الأوروبيين تظهر، فقام أحد الأمراء بالتظاهر بالانضمام إلى معسكر المسلمين وطلب مقابلة السلطان نفسه، ولما اقترب منه طعنه بخنجر مسموم فقضى عليه، وساد الهرج والمرج معسكر السلطان، وكادت الهزيمة تحل بالمسلمين، ولكن بايزيد « الصاعقة» ابن السلطان استطاع بسرعة فائقة أن يضبط المسلمين وأن يتم الانتصار وأن يقتل ملك الصرب لازار وخضعت ألبانيا التي كانت نصرانية آنذاك للحكم العثماني عام ١٣٥٨م، وكانت سياسة الدولة العثمانية أن تعطي جميع المناطق المفتوحة حكمًا ذاتيًا واسعًا، وأن تختار من سكان الإقليم مجموعة من الشباب تدربهم ليكونوا قادة عسكريين وسياسيين في جيش الدولة، وتعترف دائرة المعارف البريطانية بأن البلقان لم تشهد في تاريخها الطويل حكمًا معتدلًا ومتسامحًا مثل حكم العثمانيين حيث كانت جميع القوميات والإثنيات والأديان تتمتع بالحرية والعدل.. ولذا تقدمت البلقان في عهدهم تقدمًا كبيرًا، وكان من بين الألبان الذين ذهبوا إلى الأستانة للتدريب العسكري والسياسي الألباني جورج كاستريوتا الذي اعتنق الإسلام هناك وعرف باسم إسكندر بيه، وقد أتاح له ذلك أن يتسلم مناصب مهمة في الجيش والدولة العثمانية، ولما عاد إلى ألبانيا كحاكم من قبل الدولة العثمانية استطاع البابا أن يغريه بالعودة إلى النصرانية والاستقلال بحكم ألبانيا معتمدًا على المساعدات من جميع دول أوروبا وعلى رأسها البابا في عام ١٤٤٣م، وقد واجهت الدولة العثمانية بتمرده حربًا ضارية في تلك المناطق الجبلية استمرت حتى عام ١٤٦٨م، عندما هزمه العثمانيون هزيمة ساحقة  انتهت بموته، وبدخول الألبان في دين الله أفواجًا. وكان هؤلاء الألبان يعرفون باسم الأرناؤوط وتولوا المناصب الباذخة في الدولة العثمانية وكان منهم محمد علي باشا حاكم مصر وحكام الأقاليم وعلماء ظهروا في مصر والشام والمدينة المنورة، وأخرهم الشيخ ناصر الدين الألباني المحدث المعاصر. ودخلت البوسنة تحت السيطرة العثمانية عام ١٤٦٣م ودخل أهلها كذلك في الإسلام طوعًا بعد ما رأوه ولمسوه من سماحة الإسلام وأهله، واستطاع العديد منهم أن يصلوا إلى المراكز القيادية في الدولة العثمانية بما في ذلك منصب الصدر الأعظم رئيس الوزراء. ولكن أوروبا كانت تغلي بالحقد ضد الدولة العثمانية وتنادي البابا وملوك أوروبا بالهجوم على الدولة العثمانية وتحالف ملك هنغاريا « المجر» والملوك المحليين من الصرب والألبان والجبل الأسود مع البابا ودول أوروبا المحاربة الدولة العثمانية مرة أخرى ودارت رحى المعركة هذه المرة أيضًا في سهل كوسوفا في ١٧ أكتوبر ١٤٤٨م وانتهت المعركة بعد ثلاثة أيام من القتال الضاري بنصر مؤزر للأتراك.

 واستمرت الدولة العثمانية في سيطرتها على البلقان خمسة قرون متتالية وكانت تحكم صربيا وكوسوفا، وألبانيا، والجبل الأسود، ومقدونيا واليونان بالإضافة إلى بلغاريا. وقد أدت الحروب التركية النمساوية إلى توقف الدولة العثمانية عند أسوار فيينا، ثم بدأت في القرن الثامن عشر هزائم الأتراك أمام الإمبراطورية النمساوية التي احتلت بلجراد عاصمة صربيا اليوم عام ۱۷۱۸م، ولكن العثمانيين استعادوها منهم عام ۱۷۳۹ م وظلت تحت حكمهم المباشر لمدة قرن من الزمان عندما حصلت بلجراد على استقلال ذاتي تحت الهيمنة التركية عام ١٨٣٠م ولم تستقل صربيا عن الحكم العثماني إلا بعدما انهزمت تركيا في حربها ضد روسيا عام ۱۸۷۸ م وأدت معاهدة برلين الموقعة عام ۱۸۸۲ م إلى استقلال صربيا عن الدولة العثمانية.

ولكن هذا الاستقلال لم يدم طويلًا حيث استولت الإمبراطورية النمساوية الهنجارية على بلجراد والبوسنة وصارت تحت حكمها حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وفي عام ۱۹۲۹م تكونت الدولة اليوغسلافية الملكية والتي انتهت بدورها باحتلال هتلر لها عند قيام الحرب العالمية الثانية.

واستطاع تيتو الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية أن يعيد دولة يوغسلافيا التي تقسمت بعد موته وبعد اندثار الشيوعية وظهور القوميات والإثنيات من مرقدها تمزقت يوغسلافيا إلى دويلات عديدة واستقلت سلوفينيا ذات الأصول الألمانية والعقيدة الكاثوليكية دون معارك وتبعتها كرواتيا، وتجمعت صربيا والجبل الأسود في اتحاد مصغر يسمى يوغسلافيا، ودخلت البوسنة معارك طاحنة بين الإثنيات المختلفة من البشناق المسلمين والكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس.. وقصة التدخل الأوروبي فيها لدعم الصرب وإقامة المذابح للمسلمين بعد نزع أسلحتهم وإقامة الملاذات الآمنة لاتزال في الأذهان وتقشعر من هولها الأبدان.

 كوسوفا في عهد تيتو

استطاع تيتو الكرواتي بعد الحرب العالمية الثانية أن يوحد ما يعرف باسم يوغسلافيا أو أرض السلاف على رغم الاختلافات الإثنية والدينية لهذه المجموعات المتنافرة، وذلك لأنه اعتمد على إعطاء كل منطقة حكمًا ذاتيًا واسعًا وجعلها مجموعة من الجمهوريات في الاتحاد اليوغسلافي واحتلت العقيدة الماركسية بالتفسير التيتوي محل العقائد الدينية والقومية. وكان دستور عام ١٩٧٤م قد جعل لكل جمهورية من الجمهوريات الست صلاحية واسعة، وهذه الجمهوريات هي صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا ومقدونيا، والجبل الأسود مونتو « نيجرو» والبوسنة والهرسك بالإضافة إلى منطقتين ذواتي حكم ذاتي هما كوسوفا وفيوفودينا. وكان البان كوسوفا حسب هذا الدستور يمثلون في البرلمان الفيدرالي ويديرون شؤونهم الذاتية والتشريعية ولا يحق لصربيا أن تتدخل في شؤون الإقليم الداخلية والتعليمية والدينية، وعلى رغم أن هذا الدستور لم يطبق بحذافيره فقد كان لألبان كوسوفا حق التصرف في الشؤون التعليمية الإدارية الداخلية مع حرية دينية كبيرة بالمقارنة مع ما كان يحدث في الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، بل وحتى في ألبانيا في عهد أنور خوجه السيئ الذكر.

كوسوفا بعد وفاة تيتو

عندما انفرط عقد يوغسلافيا بعد وفاة تيتو وظهور الإثنيات بكل أحقادها مع انهيار الشيوعية ظهر سلوبودان ميلوسوفيتش كزعيم صربي قومي يدعو إلى قيام صربيا الكبرى، وبما أنه لم يستطع أن يقف ضد سلوفينيا الألمانية الأصل الكاثوليكية الدين ولا كرواتيا الكاثوليكية أيضًا واستقلت منه مقدونيا ذات الغالبية الأرثوذكسية فإنه وجه حقده على البوسنة والهرسك التي كانت غالبية سكانها من المسلمين، وتعاونت معه أوروبا والولايات المتحدة في ذلك وقام بمجازره وجرائمه واغتصابه للفتيات المسلمات تحت سمع وبصر القوات الدولية الفرنسية والبريطانية التي لم تقم إلا بنزع السلاح من المسلمين ليقوم المجرم الكبير بإبادتهم. أما بالنسبة لكوسوفا فقد قام ميلوسوفيتش بإلغاء دستور عام ١٩٧٤م والغي ما كان لها من حكم ذاتي، وبدأ بنغمة جديدة راقت لمتعطشي الدماء من الصرب والهب مشاعرهم القومية الشوفينية وتحدث عن كوسوفا مهد الصرب... وأحلام صربيا الكبرى فألغى الحكم الذاتي عام ۱۹۸۹ م وقام بحملات منظمة من الاضطهاد ومضايقة الألبان في كوسوفا التي استوطنوها منذ مئات السنين قبل أن يأتي إليها السلاف من السهوب والبراري في أصقاع روسيا.. ومنعوا من تعليم لغتهم وإدارة شؤونهم، وكانت السياسة واضحة في مزيد من التضييق الإداري والاقتصادي حتى يهاجر سكان كوسوفا كما فعل كثير من سكان البوسنة. وقام إبراهيم روجوبا بالدعوة السلمية لإعادة الحكم الذاتي وبالذات في مجال التعليم، والتف حوله الألبان حتى عام ١٩٩٦م عندما وقع اتفاقية منقوصة وافق فيها الطاغية الصربي على إعطاء الألبان حق الإشراف على التعليم واستخدام لغتهم القومية.. وازدادت شعبية روجوبا ولكن الطاغية ميلوسوفيتش تعمد إحراج إبراهيم روجوبا وحرق شعبيته بألا ينفذ أي بند من بنود الاتفاقية، مما أدى إلى زيادة الضغط الشعبي والتمرد ضد هذا الاستبداد والطغيان.. وبدأت مجموعات الشباب تنادي بالكفاح المسلح وتكون جيش تحرير كوسوفا الذي سرعان ما كسب قلوب الغالبية من السكان. واستطاع هؤلاء أن يحصلوا على السلاح الخفيف من ألبانيا المجاورة التي كانت تعاني من الفوضى والتي استولى فيها الشعب على مخازن الأسلحة.. وبالتمويل الذاتي من الألبان الموجودين في أوروبا والولايات المتحدة واستطاع جيش تحرير كوسوفا بإمكاناته المحدودة أن يحقق بعض الانتصارات الميدانية في كوسوفا.

وجن جنون الصرب وتآمرت أوروبا والولايات المتحدة مرة أخرى، وحاول هولبروك مندوب الولايات المتحدة أن يبذر بذور الشقاق بين روجوبا وجيش تحرير كوسوفا وأن يهيئ لحرب أهلية بينهما، ولكنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا.

واستطاع القائمون على جيش تحرير كوسوفا أن يتجنبوا أي معارك جانبية مع روجوبا وأنصاره كما استطاع روجوبا أن يتأقلم مع الوضع الجديد وظهر الألبان على رغم الاختلافات كصف واحد في محادثات رامبوييه في فرنسا « فبراير - مارس « ۱۹۹۹م» ووافق الألبان على إقامة حكم ذاتي لكوسوفا مع صلاحيات واسعة، وتنازل جيش تحرير كوسوفا مؤقتًا عن الدعوة إلى الاستقلال وطالب بإجراء استفتاء بعد مرور ثلاث سنوات على الحكم الذاتي ودخول قوات دولية أو من حلف الأطلسي « الناتو» المراقبة تنفيذ الاتفاق.

ورفض الصرب هذا الاتفاق.. ولم يكن أمام حلف الأطلسي وأوروبا لو كانوا صادقين أمام هذا التعنت الصربي إلا أن يسمحوا لجيش تحرير كوسوفا بالتسلح بعد أن قاوموا ذلك مقاومة شديدة.. ولكن حسابات الأطلسي وأوروبا تختلف تمام الاختلاف عن حسابات الألبان ولم تكن أوروبا والأطلسي لتسمح بقيام دولة مسلمة في وسط أوروبا باسم كوسوفا التي يمكن أن تنضم إلى ألبانيا. وكان لابد من إخراج آخر للمسرحية: تقوم طائرات الأطلسي بضرب كوسوفا وضرب بعض المناطق المدنية في صربيا وفي الوقت نفسه تسمح لسفاح صربيا وعصابته بالقيام بجرائمهم المروعة وطرد سكان كوسوفا وإبادة زهرة شباب كوسوفا والتخلص نهائيًا من جيش تحرير كوسوفا الذي منعت أوروبا وحلف الأطلسي عنه أي وسيلة للتسلح. وتمت بذلك تصفية شعب مسلم بأكمله..

« *» كاتب سعودي.

الرابط المختصر :