العنوان الحركة الإسلامية بين التكامل والتآكل (1)
الكاتب د. فتحي يكن
تاريخ النشر الثلاثاء 23-يونيو-1970
مشاهدات 24
نشر في العدد 15
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 23-يونيو-1970
الحركة الإسلامية بين التكامل والتآكل
بقلم الأستاذ: فتحي يكن
المراقب لما يجري في نطاق العمل للإسلام خلال نصف القرن الماضي تبدو له ملامح ظاهرة مخيفة وهي أن العمل والتجارب التي قامت في هذا النطاق تجريان في دوامة مغلقة من التكامل والتآكل.
والمقصود بالتكامل والتآكل هو أن التجارب التي قامت لا تكاد عناصرها تتكامل حتى تأخذ بالتآكل، وإنها لا تكاد إمكانياتها تتهيأ وتتجمع حتى تأخذ بالانفراط قبل أن تحقق الهدف الرئيسي من وجودها بإقامة المجتمع الإسلامي واستئناف الحياة الإسلامية.
وتبدو ملامح هذه الظاهرة بشكل بارز وملحوظ على صعيد «المنطقة العربية» حيث عجزت الحركات الإسلامية عن تحقيق ولو تجربة واحدة في قطر واحد على الأقل.
هذا فضلًا عن أن الحركة في عدد من الأقطار تراجعت تراجعًا مخيفًا أمام التيارات المادية الغازية، وأخلت خطوط دفاعها الأولى، الأمر الذي مكن لهذه القوى الجاهلية في بلاد المسلمين، وسهل لها سبيل الوصول إلى السلطة واغتصابها، ومن ثم استخدامها وتسخيرها لحرب الإسلام بوجه عام ولضرب الحركة الإسلامية بوجه خاص.
تشخیصات
والعاملون في الحقل الإسلامي المسلمون بوجود هذه الظاهرة متباينون في تقديرهم لأسباب نشوئها واستفحالها.
فمنهم من يعتبرها أمرًا طبيعيًا، ونتيجة محتومة لانحسار الخير وطغيان الشر على العالم، وبالتالي لحتمية «الغربة» التي سيؤول إليها الإسلام ودعاته في آخر الزمان، ويستدلون على ذلك بأحاديث للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم منها قوله «سیأتي زمان على أمتي القابض فيه على دينه كالقابض على جمر» وقوله «خير القرون قرني ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، والآخرون أراذل»
ومنهم من يرد الأسباب إلى سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها الأمة، في أعقاب سقوط الدولة الإسلامية وانتقاض الحكم الإسلامي، وإلى المؤامرات التي تتكاتف فيها القوى العالمية الثلاث «الصهيونية والشيوعية والصليبية» لضرب الاتجاه الإسلامي وعزل الفكرة الإسلامية عن الحياة، طورًا بإثارة النعرات العصبية والقومية وطورًا آخر بإنشاء الحركات المادية الإلحادية والتبشيرية، وبكل الطرق والأساليب التي من شأنها تشكيك المسلمين بمعتقداتهم وتشريعاتهم.
ومنهم من يعزو الأمر إلى قلة الإمكانيات البشرية والفنية والمادية التي تمتلكها الحركة الإسلامية المعاصرة، وإنها دون مستوى المواجهة مع الجاهلية العاتية.
مناقشات
والحقيقة أن كل ما ورد من آراء في منافسة أسباب بروز ظاهرة «التكامل والتآكل» في نطاق التجارب المعاصرة للعمل الإسلامي هي من الأسباب، ولكنها ليست الأسباب كلها، بل إنها في الحقيقة ليست الأسباب الرئيسية الجوهرية الكامنة وراء هذه القضية.
فالذين يعتبرون «الظاهرة» أمرًا طبيعيًا ونتيجة محتومة لانحسار الخير وطغيان الشر، محقون، ولكن إلى حد، فالشر كان موجودًا منذ الخليقة، ودعوات الرسل والأنبياء جميعًا ليس لها من مبرر لولا وجود الشر وانحراف البشرية وحاجتها إلى الإصلاح والتقويم، بل إن طغيان الباطل وجنده ينبغي أن يحفز الحق وأهله لمزيد من الإصرار والتمرد والثبات، ولقد قيل للحق يومًا:
«أين كنت في صولة الباطل؟ قال: كنت أجتث جذوره»، والواقع إن الباطل لا يذيع ويشيع إلا في غفلة أهل الحق وضعفهم وإنزالهم عن ميادين البذل والجهاد.
وأصحاب هذا الرأي مخطئون إذا اعتقدوا بأن لا أمل في الإصلاح، وهم في ذلك خارجون عن دائرة التصور الإسلامي، لأن اعتقادهم هذا سيدفعهم بدون شك إلى الانسحاب من المعركة والفرار من الزحف، وبالتالي سيصابون باليأس، وسيلقون السلاح، وليس معنى هذا سوى الاستسلام والانهزام؟!
إن الإسلام يطالب أتباعه والمؤمنين به، بأن يعملوا ويبذلوا قصارى جهدهم وصادق جهادهم ليس إلا، أما النصر فإنه من شأن الله وقدره، كما أنه في صحائف غيبه وعلمه، وحري بأهل الحق أن يفرغوا طاقاتهم ويبدلوا ما وسعهم البذل فيما يحقق رضاء الله أولًا حتى ولو لم يكونوا ضامنين للنصر واثقين منه، وهذا معنى قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111)
وأما الذين يردون الأمر إلى سوء الأوضاع وتردي القيم وطغيان الجاهلية وفساد الزمن، فنحن نعترف معهم بأن الإسلام يواجه تحديات غاية في القوة والشراسة والخبث، ولكن هذا ينبغي أن لا يكون وليس هو السبب الأساسي الذي أدى إلى وقف المسيرة الإسلامية وتخبطها، وإلى نشوء ظاهرة التكامل والتآكل في حياتها.
وثمة نقطة أخرى تجدر الإشارة إليها –كذلك– وهي أن الأوضاع السيئة التي عليها العالم بصورة عامة والأمة بصورة خاصة ستزداد يومًا بعد يوم، ما لم تتدارك الحركة الإسلامية الأمر وتنقذ الموقف، أما أن ننتظر تغير الأوضاع بشكل عفوي وبدون ثمن يبذل، وتضحية تقدم، فإن ذلك لضلال ما بعده ضلال؟
إن من واجب الحركة الإسلامية أن تفكر -اليوم- بغير العقلية التي كانت تفكر فيها بالأمس، لأن الأمس وظروفه وأوضاعه لم يعد في واقع اليوم إلا ذكريات مضت وهيهات أن تعود: إن الأنظمة التي كانت تسمح إلى حد بممارسة النشاطات الحزبية المختلفة قد بادت وانقرضت وحلت محلها أنظمة حزبية بوليسية حاقدة على الإسلام وضليعة في التآمر عليه، وعبثًا تنتظر الحركة تغير الحال من غير بذل جهد ودفع ثمن «ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» وأما الذين يعزون بروز ظاهرة التكامل والتآكل في حياة الدعوة إلى قلة في الإمكانيات وضعف في الطاقات، فأنا لست معهم في شيء؟ فالحركة الإسلامية في الواقع لا تشكو فقرًا في الإمكانيات بقدر ما تشكو من عدم الاهتمام بهذه الإمكانيات وتنميتها وتطويرها والاستفادة منها على الزمن، لقد مرت في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة فرص وظروف كان في صفوفها من الإمكانيات المختلفة ما لم يكن عند سواها من الحركات التي سبقتها إلى السلطة وإلى الحكم في أكثر من قطر؟ ولكن إهمالها لهذه الإمكانيات وعدم الاستفادة منها فيما يتلاءم مع طبيعتها واختصاصها وقدرتها، وبالتالي عدم استيعابها فكريًا وتوجيهيًا وحركيًا، أدى إلى فقدان بعضها، وإلى نمو البعض الآخر نموًا وحشيًا غير طبيعي، فيه كثير من التشوه والانحراف.
أين يكمن الداء إذن؟
إن الداء يكمن من وجهة نظري أكثر ما يكمن -في «الجسم الحركي» نفسه، وإن كنت لا أنكر كذلك أثر الضغوط الخارجية على الحركة الإسلامية.
إنه يبدو في الفوضى الفكرية بين القادة والأفراد، وفي فقدان الطاعة والنظام في العاملين، وفي فقدان الانقياد في الجنود، كما يبدو في فتور الشعور بالمسؤولية في الجميع، وفي الخواء الروحي وفي الترخص وعدم أخذ النفس بعزائم الأمور.
الصفوف معوجة مضطربة، والقلوب خاوية حائرة، والسجدة خامدة جامدة، لا حرارة فيها ولا شوق؟
التصور لطبيعة العمل سطحي، وخطط المواجهة مرتجلة، والعمل ضعیف متقطع لا استمرار فيه ولا ثبات عليه.
وحتى نكون موضوعيين في مواجهة هذه المعضلة لا بد من تحديد مواطن الداء بدقة ومناقشة الموضوع بتفصيل أملا في الوصول إلى ما يعيننا على الخروج من هذه الدوامة التي استطار شرها واستفحل أمرها ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الحج: 54)
1- في نطاق التربية والتكوين
إن بناء الشخصية المسلمة هو الخطوة الأولى في التحضير لبناء الدولة الإسلامية، كائنًا ما كان أسلوب الحركة ومنهجها في العمل، والشخصية الإسلامية لا يمكن أن تبنى وتتم ولادتها ما لم تسلم من مؤثرات المجتمع الجاهلي ومن ازدواجية التلقي والتوجيه.
وتجدر الإشارة هنا -كذلك- إلى أن المقصود ببناء الشخصية المسلمة هو تكوين طليعة قيادية أو تنظيم حركي طليعي في مستوى ما تتطلبه المواجهة مع جاهلية اليوم.
إن أبرز الصفات التي ينبغي توفرها في الشخصية الإسلامية هي:
أولًا:
الانخلاع من الجاهلية انخلاعًا كليًا، سواء في الأحاسيس والمشاعر، أو في الأفكار والتصورات أو في الأعمال والتصرفات.
ثانيًا:
الالتزام بالإسلام وأحكامه التزامًا كاملًا، بجعله محور الحياة، ومنطلق التفكير، وقاعدة التصور، ومصدر الحكم في كل قضية وموضوع.
ثالثًا:
اعتبار الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض هو الغاية الأساسية من الوجود، وما يحتم هذا التصور من استعداد كامل للتضحية بكل شيء في سبيل هذه الغاية.
ومن قبيل النقد الذاتي البناء القول بأن المناهج والأساليب المعتمدة دون مستوى القدرة على تكوين شخصية إسلامية هذه ملامحها ومواصفاتها، والواقع أن كل ما يمكن أن تقدمه هذه المناهج لا يعدو أن يكون قسطًا من الثقافة الإسلامية العامة والتوجيهات الروحية والخلقية، مما يجعلها دون القدرة على صياغة الفرد المسلم الصياغة المنشودة، التي تؤهله ليكون رجل العقيدة الذي يؤمن بها ويعيشها ويضحي بالنفيس والغالي من أجلها.
إن الغاية الأساسية من التربية والتكوين الإسلاميين هو تحقيق التفاعل بين الإسلام وبين الأفراد بحيث يتحقق من هذا التفاعل تجريدهم من ذواتهم، تجريدهم من القيم الأرضية كلها، والوشائج المادية كلها تجريدهم من الاعتزاز بكل ما يعتز به من حطام وأهواء، ليعتزوا بالحق وحده، الحق مجردًا من أشخاصهم، الحق متلبسًا بذواتهم ولكنه متميز فيها تميزًا واضحًا، بحيث تتبع ذواتهم الحق، ولا تتبع أهواءهم أو مشاعرهم الشخصية، وذلك بأن يتجردوا لله، يتجردوا له تجردًا خالصًا.
البقية في العدد القادم
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل