; حول العلاقة بين الإسلام والغرب .. المفكر الإسلامي الدكتور يوسف القـرضاوي لـ «المجتمع» | مجلة المجتمع

العنوان حول العلاقة بين الإسلام والغرب .. المفكر الإسلامي الدكتور يوسف القـرضاوي لـ «المجتمع»

الكاتب حسن علي دبا

تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

مشاهدات 10

نشر في العدد 1171

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

الحوار مع الغرب ضرورة لأن الإسلام أمرنا بالحوار مع الآخرين.. 

المسلمون أقوياء الآن بثقافتهم وبأصول حضارتهم وبرسالتهم العظيمة

نحيا لبناء حضارة عالمية إنسانية.. العلو فيها للحق.. والكلمة فيهـا للإيمان .. والنصر فيها للخير

نموذج العلاقة مع الغرب يكون على أساس من الشرع والموازنة بين المصالح والمفاسد.. بين الدين والدنيا.. بين الثوابت والمتغيرات.. بين التراث والمعاصرة

هل ينتصر الخير على الشر؟ هل يمكن أن ينتهي الصراع الحضاري بين الحضارة الإسلامية -وإن ضعفت- والحضارة الغربية- وإن بدت تملك الدهر؟

ليس ثمة ما يشير إلى تغيير في إستراتيجيات الغرب تجاه الإسلام.. ورغم وضوح التنظير الغربي المعادي للإسلام، فإن الجهل المعرفي الذي يتميز به المواطن الغربي عن العالم الإسلامي يجعل مهمة الإعلام والتنظير المعادي سهلة، ليظل الوعي الغربي -الأوروبي خاصة- محكوما بعقدة الحروب الصليبية، ومؤخرا بدأ عدد من الباحثين الغربيين «جون أسبوزيتو» نموذجًا يرصد الحقيقة ويبدو منصفًا، مكذبًا وجود خطر إسلامي مزعوم على الغرب. 

ترى: هل يمكن أن تختفي ظلال التاريخ، وتؤثر صورة الحوار المعاصر في تصحيح صورة الإسلام في الغرب؟ هل يمكن أن يتوارى التنظير العدائي ويجهض الحوار مع الغرب أبجدياته المطروحة.

في ضوء إبحاره في مناحي الفكر الإسلامي، وفي رحال فقهه ومشاركته في ريادة جيل الصحوة الإسلامية المعاصرة في أنحاء العالم شرقه وغربه استطاع أن يحفر طريقًا مميزًا في الحياة الإسلامية المعاصرة هو تيار الوسطية الإسلامية التي تبلورت في عطاءاته عبر ما يزيد عن سبعين كتابًا، ومئات بل آلاف من الخطب والمحاضرات والندوات والمناظرات التي ألقاها في جولاته الممتدة في أنحاء العالم. 

في ضوء هذا الإبحار يأتي الحوار مع العلامة المفكر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاي -مدير مركز أبحاث السنة والسيرة بجامعة قطر- لنتعرف رؤيته حول الحوار مع الغرب.

هل يمكن أن نبدأ الحوار حول «الحوار مع الغرب» بتحديد لمفهوم الغرب؟

لا بد أن نحدد ما هو الغرب الذي نريد أن نحاوره، فليس الغرب مجرد منطقة إقليمية، ولكن حينما نقول الغرب حضارة معينة، وثقافة معينة ذات مقومات وخصائص.

وإذا نظرنا إلى الغرب باعتباره صاحب الثقافة المهيمنة الآن، والحضارة السائدة بطابعها المادي والنفعي الذي لا يهتم بالغيبيات، ولا يقيم لحاكمية الله تعالى وزنا في الحياة، ونحن حينما نحاور الغرب نعتقد أنه حوار مع الآخر، ولا مانع أن يحاور الإنسان مخالفه، بل نحن مأمورون بهذا كما أمرنا القرآن بأن نجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46).   

هل يمكن أن يكون اختلاف المقدس عند الإسلام عن المقدس عند الغرب عائقًا في قيام مثل هذا الحوار؟

نحن لا نمانع من منطلق ديننا أن نحاور الآخرين مع اعتقادنا أننا مختلفون في أشياء كثيرة منها أن المقدس عندنا غير المقدس عندهم، والمنطلقات عندنا غير المنطلقات عندهم، والأهداف عندنا غير الأهداف عندهم، والوسائل والمناهج عندنا غير الوسائل والمناهج عندهم.. رغم هذا فنحن مأمورون أن نحاور هؤلاء ونجادلهم بالتي هي أحسن.

ومن يقرأ القرآن الكريم في الحقيقة يجده كتاب حوار في الدرجة الأولى.. الأنبياء حاوروا أقوامهم حوارات سجلّها القرآن، بل أعجب من هذا حوار الله مع خلقه، تجد القرآن قد ذكر لنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أراد أن يخلق آدم قال للملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). 

بل أعجب من هذا حوار الله مع أعدى أعدائه إبليس، كيف أذن الله لإبليس أن يحاوره: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ  قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ  وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ  قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ.... ﴾ (ص: 75 - 80).

فهذا يدلنا على أن للحوار مجالًا رحبًا ومكانًا واسعًا في الفكر الإسلامي وفي الساحة الإسلامية بدءًا من القرآن الكريم، فالسنة النبوية، فالتراث الإسلامي المليء بهذه الألوان من الحوارات المختلفة.

اختلاف الموقف الحضاري

ألا ترون أن هناك فرقًا بين الوضع الحضاري الحالي والوضع الحضاري الماضي عندما كان المسلمون قوة، وكانت لهم حضارة؟ أما اليوم فهم الأضعف: كيف يكون الحوار؟

المسلمون في الماضي كانت لهم حضارة، وكانوا أصحاب الحضارة الأولى في العالم، وكانوا هم العالم الأول، هم الآن العالم الثالث -كما يقال- وربما ينسب بعضهم إلى العالم الرابع لو كان هناك عالم رابع!! ولكن المسلمين أقوياء بثقافتهم، بأصول حضارتهم، برسالتهم العظيمة التي أكرمهم الله تعالى بها، برسالة الإسلام، هم أقوياء بهذه الرسالة، فهم يملكون ما لا يملك العالم كله، يملكون الرسالة العامة الخالدة التي تحمل كلمات الله الأخيرة للبشرية، فلا يوجد دين يملك وثيقة سماوية سالمة من التحريف والتبديل اللفظي والمعنوي إلا المسلمون، فهم وحدهم الذين يملكون القرآن.

هل يعني الحوار تخفيف صرامة الموقف الفكري الإسلامي والعقائدي لتقريب الآخرين إلى الإسلام؟ 

نحن أصحاب الحق ومنطقنا أقوى من منطق الآخرين

لو التزمنا بأدب الحوار كما شرعه الإسلام، لأدى ذلك من غير شك إلى التقارب مع الآخرين.. فالإسلام يأمرنا في هذه الآية التي وضعت أصول الدعوة والحوار أن ندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن.. ونجد هنا فرقًا في التعبير اكتفت الدعوة بالأمر بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنها عند الجدال لم تكتف بالجدال الحسن وإنما أمرت بالجدال بالتي هي أحسن.. لماذا؟ لأن الموعظة تكون مع الموافقين، فالموافق يكفي أن تعظه موعظة حسنة، ترقق قلبه، وتحرك ساكنه، وترغبه في الخير، وترهبه من الشر، يكفي أن تكون الموعظة حسنة.. ولكن الجدال يكون مع المخالف، والمخالف لا يكفي أن تجادله جدالًا حسنًا، وإنما أن تبذل جهدًا في أن يكون جدالك بالتي هي أحسن.. أن تحاوره بأحسن الطرق، وأرق الأساليب، وألطف العبارات، حيث لو كانت هناك طريقتان: طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها، فلا بد أن تستخدم الطريقة التي هي أحسن وأجود.. فهذا هو الذي أمر به الإسلام. 

ولذلك نجد القرآن وهو يعلمنا الحوار مع الآخرين ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ: 24)، مع أنه متأكد أنه على هدى وأن غيره على الضلال، ولكن يريد أن يقرب هؤلاء من ساحته، يقول: أحد الفريقين منا لا بد أن يكون مخطئًا والآخر على صواب، فلا بد أن نبحث من المخطئ ومن المصيب، من المهتدي ومن الضال منا ومنكم، ثم يقول: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (سبأ: 25)، كان من الممكن أن يقول: «لا تسألون عما عملنا، ولا نسأل عما تعلمون»، أو يقول: «لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تجرمون»، المقابلة تقتضي هذا، لكن نسب إلى نفسه ومن معه هذا «لا تسألون عما أجرمنا».

إن كنا نحن أجرمنا فأنتم لا تسألون عن إجرامنا، ولكنه لم يقل «ولا نسأل عما تجرمون»، حتى لا ينسب إليهم الإجرام، ولكن «لا نسأل عما تعملون» كل هذا نوع من التخفيف والتقريب وإزالة كل ما يوغر الصدر ويباعد الشقة بين الطرفين، فهذا هو ما جاء به الحوار بالتي هي أحسن...

لا تنازل عن أساسيات

هل يقتضي نجاح الحوار بين فريقين مختلفين أن يتنازل كل منهما عن شيء ويتمسك بأشياء؟ أم أن الحوار يكون بحثًا عن نقاط تقارب أكثر من تقديم تنازل؟

هناك أشياء لا يمكن التنازل عنها؛ فنحن نحاول أن نذكر مواضع الاتفاق، ولكن ليس معنى هذا أن أتنازل عن أي شيء أساسي عندي.. حينما أراد الكفار من مشركي قريش أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتنازل عن عبادة الله مدة من الزمن، يعبد آلهتهم مدة ويعبدون إلهه مدة من الزمن، ويحاولون أن يقترب الفريقان بعضهم من بعض، لكن رفض هذا، وجاءت السورة الفاصلة الحاسمة «قل يا أيها الكافرون﴾، ولأول مرة يخاطب المشركون بهذه اللفظة ﴿يا أيها الكافرون﴾ فالقرآن عادة حينما يخاطب المشركين يقول: ﴿يا أيها الناس﴾، وأما اليهود والنصارى فيقول: ﴿يا أهل الكتاب... أو الذين أوتوا الكتاب﴾، وهذا أيضا من الحوار بالتي هي أحسن: أنك تختار أرق الألفاظ وأقربها إلى قلب مخاطبك، إنما هنا قال ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ﴾ (الكافرون: 1- 6). بهذا التكرار، وبهذا التأكيد هناك أشياء تحتاج إلى حسم لا يمكن أن يتنازل الإسلام عن عقائده وعن قيمه وعن فرائضه، وعن أخلاقياته، التنازل غير وارد بالمرة، ومع هذا ﴿لكم دينكم ولي دين﴾.

الأساسيات المحكمات: محل اتفاق إسلامي

ما هي الأمور التي تعني الأساسيات في نظركم، والتي لا يمكن التنازل عنها في الحوار مع الغرب؟ فلا يخفى ما بين المسلمين أنفسهم من اختلافات، هل تكون الأساسيات محل اختلاف أصلا؟

هناك أشياء يمكن أن يختلف فيها الناس بعضهم من بعض، فعندما نريد أن نحاور الآخرين لا بد أن تتضح لنا الصورة الإسلامية الحقيقية التي تدل عليها المحكمات من النصوص القواطع، يجب أن نفرق بين ما هو قطعي، وما هو ظني، الأشياء التي نستمسك بها ونقاتل دونها ولا تفرط في ذرة منها هي القطعيات، أما الظنيات والاجتهاديات وما فيه القيل والقال، وما يمكن أن يخضع لاختلاف التفسيرات واختلاف الأفهام، وتعدد الاجتهادات.. هذا لا ينبغي أن نضعه في مقدمة الحوار بيننا وبين الآخرين.

الإسلام يحترم الثقافات المتعددة من خلال احترامه لوجود أهل الكتاب

فمسألة الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الأرض والعرض والحرمات.. هذا أمر لا كلام فيه.. إنما الدفاع للهجوم على العالم كما يصوره بعض الناس، هذا أمر ليس واردًا، ونحن هنا نتبنى ما تبناه علماء المسلمين المعاصرين الشيخ رشيد رضا، والشيخ شلتوت، والشيخ عبد الله دراز، والشيخ أبو زهرة، والشيخ الغزالي، وهؤلاء كلهم يتبنون أن الجهاد في الإسلام للدفاع عن الدين والدولة والحرمات والأرض والعرض.. وليس لغزو العالم كما يصوره بعض الناس. 

كيف تكون الثقافة العالمية قاسمًا مشتركًا؟

تطرح في سياق بحث العلاقة بين الإسلام والغرب فكرة الثقافة العالمية، لتكون قاسمًا مشتركًا في الحوار بينهما، وتعني الثقافة العالمية الثقافة الكونية التي تتشكل من خصائص إنسانية تستوعب كل الثقافات الشرقية والغربية، وتحيي الضمير الفردي، وتحافظ على مصالح المجتمع في الوقت نفسه... هل ترون إمكانية وجود هذه الثقافة العالمية قاسمًا مشتركًا للحوار؟ 

هذا وصف للثقافة الإسلامية في الحقيقة؛ فالثقافة التي تحمل هذه الخصائص الثقافة الإسلامية، ولكن حسب ما هو قائم وما هو واقع لا توجد ثقافة كونية أو ثقافة عالمية.. بعض الناس يريدون أن يجعلوا من الثقافة الغربية المسيطرة ثقافة عالمية، وهذا ليس بصحيح هي ثقافة عالمية بمعنى أنها منتشرة في العالم، وسائدة ومسيطرة على الأفكار، ومسيطرة على الإعلام وعلى أدوات التثقيف في العالم، هذا صحيح، إنما ليست هي الثقافة العالمية.. هناك ثقافات مخالفة لها في الشرق وفي الغرب، هناك الثقافة اليابانية أو الثقافة الصينية، والثقافة الهندية، والثقافة الإسلامية، والثقافات الإفريقية. 

فمن أجل هذا ليست هناك ثقافة عالمية كونية، إلا إذا أريد أن تكون هناك ثقافة مفروضة على الجميع، نحن ننطلق من تعدد الثقافات، نحن وإن كنا نرى أن ثقافتنا هي التي يمكن أن تحقق ما ذكرته في سؤالك (الثقافة التي تنظر إلى الإنسان وتحيي ضمير الفرد، وتحمي مصالح المجتمع، وتصل الأرض بالسماء، وتحقق القيم الروحية والقيم المادية هي الثقافة الإسلامية).. ونحن مع هذا لم نفرض ثقافتنا بالإكراه على العالم، حينما كانت ثقافتنا هي السائدة، وحضارتنا هيا القائدة أيام ازدهار الحضارة الإسلامية وسعنا الثقافات الأخريات، لم يفرض الإسلام ثقافته على الناس، وإنما ترك الآخرين وأديانهم لم يفرض عليهم العقائد الإسلامية، ولا العبادات الإسلامية، ولا الفرائض الإسلامية، ولا المحرمات الإسلامية، ما فرض على الناس الزكاة، لماذا؟ لأن الزكاة وإن كانت ضريبة مالية، ولكنها عبادة دينية، ركن من أركان الإسلام، فلم يشأ أن يفرض على أهل الذمة الذين هم كما يقولالفقهاء من أهل دار الإسلام، يعني يحملون الجنسية الإسلامية أو المواطنة في الدولة الإسلامية، لم يفرض عليهم هذه لأنه سيفرض عليهم عبادة، فهذا ينافي السماحة الإسلامية من أجل هذا لم يفرض عليهم الزكاة، ولم يفرض عليهم الجهاد، والجهاد دفاع عن الأرض والدار والدين والدولة، ولكن الجهاد أيضًا -وإن كان دفاعًا- فهو فريضة دينية، بل هو من أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه، ومن أجل هذا فرض شيئًا بديلًا عن الزكاة من ناحية وبديلا عن الجهاد من ناحية، وهو ما سمي الجزية، وما هي الجزية؟ الجزية: هي مال يدفعه أهل الذمة بدلًا من الزكاة التي يدفعها المسلم، وبدلا من الجهاد فهذا يدفعه من ماله، وذاك يدفعه من دمه، قال له: ادفع شيئًا حتى تكون عضوًا في الدولة الإسلامية وتتمتع بحمايتها ويكون لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم.

فالإسلام يحترم الثقافات المتعددة؛ لأنه ما دامت هناك أديان متعددة فلا بد أن تكون هناك ثقافات معبرة عن هذه الديانات ولعقائدها، والقيم التي جاءت بها والعبادات والفرائض التي نادت ودعت إليها فهذا فرع عن ذاك.

الحوار: فريضة وضرورة

في كتابكم أولويات الحركة الإسلامية، ذكرتم أن الحوار مع الغرب فريضة وضرورة، وقلتم إنه حوار على الصعيد الديني، وعلى الصعيد الفكري، وعلى الصعيد السياسي.. ماذا تعنون بكل ذلك؟

لقد ذكرت في هذا الكتاب أننا نعيش في عالم تقارب بعضه مع بعض، حتى قال أحد الأدباء: «إن العالم أصبح قرية واحدة»، نسميه «قريتنا الكبرى»، هو لم يعد قرية كبرى، بل أصبح قرية صغيرة الآن، لأن ما يحدث في أقصى العالم تعلم به بعد لحظات في الطرف الأقصى الآخر، فتقارب العالم جدًّا، ولذلك لا يمكن أن ينعزل فيه بعض الناس عن الآخرين إذا كنا نريد أن نعيش بإسلامنا، فلا بد أن نتحاور مع الآخرين لنزيح الغشاوة التي غشيت على عقول القوم، نزيح ما على أبصارهم من غشاوة، وما على قلوبهم من طبع، والشبهات التي استقرت في أذهانهم طوال عصور مضت، هناك من عهد الصليبية أشياء توارثها القوم عن الإسلام، وعن القرآن، وعن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن الحضارة الإسلامية، وعن الشريعة الإسلامية، وأشياء مغلوطة ومكذوبة، ولا بد أن نبذل جهدًا في أن نلتقي مع هؤلاء القوم، ونتقارب معهم، ونبين لهم أن المسلمين ليسوا وحوشًا، والإسلام ليس غولًا مفترسًا، ودعاة الإسلام ليسوا إرهابيين كما تصورونهم، هذا لا يمكن أن يتم في عزلة عن هذا العالم، ومحادة لهؤلاء القوم، وإنما ينبغي أن يكون بالتواصل معهم، وبالحوار معهم. 

تجربة مع المستشرقين

هل ترون أن الحوار مع رجال الدين في الغرب يمكن أن يؤتي ثماره؟

لقد لقيتهم منذ ثلاث سنوات تقريبًا، وكنت أنا وفضيلة الشيخ محمد الغزالي في زيارة إلى ألمانيا، والتقينا بالفعل مع عدد من المستشرقين، ومنهم بعض القسس، والتقينا يوما كاملًا، لقاء وحوار، ووجدت حسب ما لمست، ولمس فضيلة الشيخ الغزالي معي أيضًا- أن هذا اللقاء كان له ثمرته: أن كثيرًا من الشبهات زالت من الأذهان، اللقاء المباشر له فائدته: أسئلة وأجوبة.. فأعتقد أن هناك أناسًا يمكن أن يجدي الحوار معهم، وهناك أناس لا شك متعصبون لا يمكن أن يجدي معهم حوار، هؤلاء كالذين قال الله فيهم: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (الإسراء: 45-46). هذا الصنف موجود، لكن هناك صنفًا آخر، هم المنصفون، ونحن نبحث عن هؤلاء المنصفين المتقبلين الذي يحكمون المنطق، ونحن رأينا من الغربيين كثيرين أنصفوا المسلمين وانصفوا الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، وأنصفوا الصحوة الإسلامية المعاصرة، ونحن نقرأ في الصحف الآن لصحفيين وكتاب من أهل الغرب يتكلمون كلاما جيدًا عن الإسلام، فهذا الكاتب الأمريكي الذي كتب عن أن الخطر الإسلامي وهم وليس حقيقة «جون إسبوزيتو»، كما أن كثيرًا من الكتاب الآن يعترف بفضل الإسلام، وسبق الحضارة الإسلامية، ويعترف للصحوة الإسلامية بأن إيجابياتها أكثر من سلبياتها 

فأنا أعتقد أن الحوار مهم على المستوى الديني مع القسس ورجال الدين، والمستوى الفكرى مع المستشرقين والكتاب الذين يهتمون بأمر الإسلام أمر مطلوب.

الحجاب ليس رمزًا دينيًّا مثل الصليب أو القلنسوة لكنه فرض وله وظيفة هي الستر

المفهوم الغربي للإنسان والحجاب

أنتقل إلى نقطة هامة وهي رفض الغرب للاعتراف بحقوق المواطنة بالنسبة للمسلم ومثال ذلك ما يحدث للمسلمين في فرنسا، وخاصة النساء المسلمات ورفض الغرب الفرنسي لحجاب المرأة المسلمة؟ 

الإنسان هناك لا يكرم، ولا يعطى الحرية من حيث هو إنسان، وإنما يحصل عليها الإنسان المتماشي مع هذا المجتمع، ومع دينه ومع ثقافته السائدة، فإذا خرج إنسان على السائد... حتى الفرنسي الأصيل إذا أسلم لم يعد له حق، ولم يعط حقه في أن ابنته أو زوجته تلبس هذا الحجاب أو تدخل المدرسة، بل يفرض عليه أن تنزع زوجته الحجاب، أين كرامة الإنسان وأين حريته؟ لم يعد هناك حرية للإنسان من حيث هو.. إذا كنت تحترم الإنسان من حيث هو فلا بد أن تحترم عقيدته، وثقافته، والقيم التي يؤمن بها، فهو يؤمن بأن الحجاب فرض، وأنه لا يجوز له دينيًّا أن تخلع امرأته الحجاب، والفتاة أو المرأة تقول لا يجوز خلعه، فهذا حرام عليّ، أدخل من أجله النار، كيف تفرض على إنسانة النار وتغضب ربها؟ أية ثقافة هذه؟ وأية حرية؟ وأية كرامة للإنسان إذا كان لا يستطيع أن يمارس عقيدته وشعائره وواجباته الدينية، تحت سلطان هذه الثقافة، وتلك الحرية؟

هل مصادرة الحلال والحرام رفض للحوار؟ هل تعد مصادرة كتابكم «الحلال والحرام في الإسلام». رغم تراجع فرنسا عن تلك المصادرة ثم إلغائها بعد ذلك -رفضا من الغرب- ممثلا في فرنسا- للحوار مع الإسلام؟

هذا جزء -كما قلت في تلك الأيام- من الحملة المعادية للإسلام في تلك البلاد، وخصوصا إذا عرفنا أن بداية هذا الأمر جاء في الثاني عشر من أكتوبر الماضي، بعد المؤتمر الذي حضرته في فرنسا، وكان عن الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، وكان له أثر جيد، ولكن من المسائل الساخنة التي أثيرت فيه مسألة الحجاب، وناقشت الحاضرين من الفرنسيين مناقشة لم يجدوا أمامها جوابًا، إنهم قالوا: إن هذا الحجاب رمز ديني، وقلت لهم: إنه ليس رمزًا دينيًّا، لأن الرمز ليس له وظيفة يؤديها غير الإعلان والشعار، وذلك مثل الصليب على رمز المسيحي، أو القلنسوة على رأس اليهودي، هذه فعلا رموز دينية، ليس لها وظيفة معينة، سوى أنها إعلان بأن هذا يهودي، أو إعلان بأن هذا مسيحي، ولكن الحجاب هذا له وظيفة، وهي أنه يؤدي وظيفة الستر والاحتشام، فالمسلمة مأمورة أن تحتشم تغطي شعرها، ونحرها وعنقها، هذا هو معنى الحجاب، فله وظيفة الستر والاحتشام وحتى لو فرض أنه رمز أنتم لم تمنعوا المسيحي أن يضع الصليب على صدره، ولم تمنعوا اليهودي أن يضع الطاقية على رأسه، فلماذا تمنعون المسلم؟ بل أنتم سمحتم للسيخي أن يلبس عمامة السيخ، ويأخذ ترخيصًا بقيادة الدراجة البخارية، دون أن يلبس غطاء الرأس الحديدي «الخوذة» من أجل عمامته السيخية هذه... 

وهذا كله من رواسب الحروب الصليبية، ورواسب العقد القديمة.

مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب

هل ترون أن هناك مستقبلا للعلاقة بين الإسلام والغرب في العصر الحاضر؟ 

أعتقد أن هذه العلاقة يمكن أن تتطور وتتحسن وتأخذ دورًا إيجابيًّا، إذا وثق المسلمون بأنفسهم واستمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي عروة الإسلام العظيم ووقفوا أمة واحدة لها رسالتها الحضارية والإنسانية والدينية، ولها ماضيها وتراثها، ولها مستقبلها المرجو أيضا إن شاء الله. 

وإذا استطاع الغرب أيضا أن يفهم المسلمين ويفهم هذه الأمة، ويعي أن ليس هناك أمة تستطيع أن تفرض نفسها على العالم وأن تعيش وحدها، ولا حق للآخرين في الحياة، بل لا بد للناس أن يعيشوا وفق ما يريدون والأمة الإسلامية أمة عريقة وأمة كبيرة وأمة ذات رسالة، ومن حق هذه الأمة أن تعيش لرسالتها، وأن تعيش وفق عقيدتها، ما الذي يضر الغربيين أن يعيش المسلمون مسلمين كما أمرهم الله، وكما فرض عليهم دينهم يحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، ويؤدون ما فرض الله، ويحكمون ما شرع الله، ما الذي يضر الغربيين من هذا؟ أيهما أولى للإنسان الغربي: المسلم المتمسك بدينه الذي يراقب الله في الصغيرة والكبيرة، ويؤدي واجبه ويحكم بالعدل مع من يحب ومن يكره، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8) متسامحا مع غيره كما أمره الإسلام، وكما كان شأن المسلمين في عصور الازدهار الحضاري.

ما الذي يضر الغربيين الإنسان المسلم المتعبد لربه، الملتزم بأخلاقيات هذا الدين في سلوكه مع ربه وسلوكه مع نفسه، وسلوكه مع أسرته، وسلوكه مع المؤمنين من أمثاله، وسلوكه مع الآخرين ممن يخالفونه في العقيدة: هل هذا النموذج أولى أم نموذج الإنسان الذي لا دين له الذي يعيش عاريا من الدين؟ لا عقيدة تستره، ولا شريعة تحكمه، ولا أخلاق تقوده، ولا قيم تسيطر عليه وتوجه مسيرته. 

حاورت مع الشيخ الغزالي مستشرقين ورجال دين في الغرب، وقد أزال هذا الحوار كثيرا من الشبهات لديهم

لا بد للغربيين أن يتخلصوا من العقد القديمة التي ورثوها من الحروب الصليبية

أعتقد أنه من الخير للغربيين أن يتعاملوا مع أمة تحترم دينها وعقائدها، وتعيش بها وتعيش لها، تعمل بدينها، وتعمل لدينها، ويتعاملوا مع هذه الأمة معاملة الند للند.

ولا بد للغربيين أن يتخلصوا من العقد القديمة التي ورثوها من أيام الحروب الصليبية من هذه الأحقاد السوداء.

إذا سادت هذه النظرة، أعتقد أنه يمكن أن يثمر الحوار، ويمكن أن يثمر ذلك علاقة طيبة وحسنة.

نقول للغربيين دعونا نعش بديننا، ونعش وفق عقائدنا وشرائعنا وقيمنا نعطي ونؤدي الواجب ونأخذ الحق ولا نظلم أحدا، ولا نجور على أحد. 

أهمية الحوار داخل الأمة

قبل أن أنتهي من أسئلتي مع فضيلة الدكتور القرضاوي.. سألته عن أهمية الحوار الداخلي بين أبناء الأمة، وخاصة مع أولئك الذين يتبنون الفكر الغربي أو العلمانيين؟

قال: أنا أدعو إلى الحوار مع هؤلاء: فالحوار القومي، فنحن رحبنا بالحوار مع القوميين، وفي أكتوبر من السنة الماضية (1994م)، حضرت مؤتمرا، شاركت في مؤتمر الحوار القومي الإسلامي الذي عقد في بيروت، وكنت أحد الذين شاركوا في إعداد الورقة الإسلامية لا مانع أن نلتقي على المنهج الوسط دون التنازل عن أساسياتنا أيضا.

بل إنني أدعو في كتابي الذي ذكرته «أولويات الحركة الإسلامية» إلى الحوار مع عقلاء العلمانيين؛ لأن بعض هؤلاء العلمانيين لا يعادون الإسلام، إنما ينطلقون من عدم فهم الإسلام، لا مانع أن نحاور هؤلاء لنقربهم منا، فمبدأ الحوار مبدأ مسلم به ولا حرج فيه مع المخالفين ما دام عندهم استعداد للإنصاف وللاستماع، وللأخذ والعطاء في هذه النواحي.

لكن بعض العلمانيين يرمي إلى إزاحة الدين تماما عن الحياة، فكيف يكون الحوار بينه وبين الإسلاميين؟

أنا لم أقل بالحوار مع كل العلمانيين، بل مع العقلاء والمنصفين من العلمانيين، هناك -كما قلت- علمانيون لا يعادون الدين بعض الناس علماني كما كان على سبيل المثال النحاس باشا - رئيس حزب الوفد المصري قبل ثورة 1952م - رجل مصل وصائم، وعنده نوع من التدين، ولكنه لم يفهم شمول الإسلام لم يحط بالرسالة الإسلامية كما ينبغي.. ولعله لو وجد فرصة تعرض عليه الإسلام الحقيقي كما نزل به القرآن، وكما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه الصحابة، وكما طبقه الراشدون، وكما قامت عليه الحضارة الإسلامية الأولى.. لعله لو وجد من يعرض عليه هذا، ويشرحه حق الشرح، ويصوره التصوير الذي ينبغي لعله تراجع عن كثير من آرائه، إنما العلماني القح الذي يرفض الدين عامة والإسلام خاصة ولا يرى أن الدين ينبغي أن يخرج من ضمير الإنسان والدين في رأيه علاقة بين ضمير الإنسان وربه، وإن كان لا بد أن يخرج فليكن إلى المعبد: (المسجد أو الكنيسة) فقط، وليس له علاقة بالحياة، ولذلك يرفض الشرائع والقيم والأحكام التي جاءت بها الأديان هذا لا معنى للحوار معه، لكن يمكن أن أحاوره لأقيم عليه الحجة، كما فعلنا نحن حينما حاورنا بعض العلمانيين.

الرابط المختصر :