; الحياة في مدينة الموت | مجلة المجتمع

العنوان الحياة في مدينة الموت

الكاتب أسعد طه

تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993

مشاهدات 20

نشر في العدد 1053

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 15-يونيو-1993

  • أربعة آلاف طفل قتلوا في سراييفو وثلاثون ألفًا تعرضوا لنيران القناصة الصرب
  • اعتدى المجرمون الصرب على طفلة مسلمة في الثامنة من عمرها فظلت عشرة أيام فاقدة القدرة على الكلام من هول الصدمة
  • كل بناية في سراييفو تحمل أثر للعدوان وكل مواطن يحمل جرحًا أو خدشًا من قذيفة صربية ومع ذلك فالجميع يتطلع إلى الأمل في الغد القريب

أكثر ما يمكن أن يشد انتباه الزائر لسراييفو هو هذه القدرة المدهشة التي يتمتع بها المواطن البوسني للتكيف مع الواقع المأساوي اليومي للحياة في بلد محاصر ينزف يوميًّا من دمه وحضارته وخيرة أبنائه. 

في الصباح يخرج المواطنون لقضاء حوائجهم، وإذا كانت المواصلات لا تعمل فلا مانع من تآخي شرائح المجتمع عبر توقف أصحاب السيارات الخاصة للمارة في الشوارع لنقلهم من مكان لآخر، هذا إذا كانت سياراتهم مازالت قادرة على العمل والحركة في ظل فقدان الوقود الذي يتحصل عليه بصعوبة بالغة. 

والهدف الذي يسعى إليه كل مواطن في الصباح هو تأمين الماء والطعام لبيته، أما الأخير فلكل مواطن بطاقة خاصة يتحصل بها مرة كل أسبوع على حصته من الطعام من مخازن مفوضية اللاجئين، وهي حصة عادة لا تكفيه وتدفعه للذهاب إلى مكاتب الهيئات الإغاثية لتأمين الطعام اللازم له ولأسرته، وتقوم مراكز توزيع الخبز بتغيير أماكنها من حين لآخر بعد أن باتت الصفوف المتراصة هدفها دائمًا القصف، ونفس الحال مع طوابير المياه التي تشكل في حد ذاتها تمثيلًا قويًا لشرائح المجتمع، فتجد فيها المسلمين والكروات الذين يشكلون حوالي خمسة بالمئة من السكان والصرب؛ حيث مازال حوالي مئة ألف صربي يعيشون في المدينة التي كان تعداد سكانها قبل الحرب حوالي نصف مليون نسمة، وانخفض العدد الآن إلى حوالي ثلاثة مئة ألف نسمة، وتجد في طوابير المياه الرجال والنساء والأطفال والعجائز، والفقراء، والأغنياء، المثقفون والعامة، الجميع قد تساوى بعد أن أصبحت المدينة تعيش حالة بدائية إثر قيام العدوان الصربي بقطع المياه والكهرباء عنها. غالبية أسواق المدينة مهجورة، إلا أن بعضها يعمل، رغم أنه من حين لآخر تتعرض لقذيفة صربية تسقط عددًا كبيرًا من الجرحى والقتلى، ولكن الحاجة اليومية تضغط على المرء؛ حتى أنه يخرج مخاطرًا بروحه وقد اعتاد على ذلك وكأنه يؤدي عملًا معتادًا. 

أما مصدر هذه البضاعة إما بعض التجار الذين يقومون بتهريبها إلى الأسواق رغم الحصار الخانق المفروض على المدينة ويطالبون لذلك أسعارًا خيالية، وكذلك الناس التي تبيع حوائجها الخاصة أو تقوم بمقايضتها بأشياء تلزمها. 

وتجوال الصحفي في هذه الأسواق حاملًا «كاميرته» آلة التصوير تثير حزن البعض إلى حد البكاء فهم ليسوا تجارًا، وإنما لا مانع من بيع شيء ما من حاجات البيت الخاصة لقاء علبة لبن مجفف للابن الرضيع.  ولعنة الله على الظالمين. 

أربعة حبات من البرتقال في طريقها للتلف تباع بعشر ماركات وكيلو اللحوم بستين ماركا ألمانيًّا، وهي إحدى العملات التي يتم تداولها في أسواق ساراييفو. 

ما يزيد عن عام كامل من العمل المتواصل لآلة الحرب الصربية ترى آثارها واضحة على كل بناية في ساراييفو إما دمارًا شاملًا أو إصابة موجعة من قنبلة موجهة أو حارقة أو شظية، والحد الأدنى في كل حال هو تحطيم كل زجاج البنايات التي ظلت ترتعد طوال الشتاء بعد أن أدى انقطاع الكهرباء ونفاذ الوقود إلى تعطيل أجهزة التدفئة. 

مؤسسات الخدمات العامة والمدارس والجامعات والمحال التجارية والمراكز الصناعية والأسواق والرموز الحضارية والتاريخية والثقافية تراوحت إصاباتها بين الدمار الكامل أو الجزئي. 

المنائر والمساجد والمدارس الإسلامية والجوامع التي شيدت أيام العثمانيين وحتى المقابر وكل الرموز التاريخية الدالة على عمق الوجود الإسلامي كانت كلها أهدافًا مباشرة للقذائف الصربية. 

الحي القديم الذي يمثل المسلمون غالبية سكانه بطرازه الشرقي الفريد ومساجده التاريخية كان من أكثر أحياء سراييفو التي نالها القصف الصربي الوحشي، والذي طاول المكتبة الإسلامية، ذات مئات المجلدات التاريخية والنادرة الوجود، وكذلك المدرسة الإسلامية في كل البلقان، ولم تسلم الكلية الإسلامية من نفس المصير، غير أنها باتت اليوم مركزًا لاستقبال المهاجرين الذين وفدوا على سراييفو من ضواحيها المختلفة، أما المساجد التي يزيد عددها في سراييفو وحدها عن ثمانين فقد انحت مآذنها من جراء القصف الصربي الذي رصدها كأهداف أولى منذ بداية الحرب. 

أطفال سراييفو: 

مسحة من الحزن العميق تغطي كل شيء في سراييفو وعشرات الأسئلة المستنكرة تقفز إلى شفاه أطفالها الذين أعجزتهم الوحشية الصربية عن أن يفهموا ماذا يدور حولهم؛ بل ماذا يدور لهم، معلومات وزارة الصحة تقول: إن في سراييفو وحدها قد قتل أكثر من ثلاثة آلاف طفل حتى الآن، والمدينة التي يعيش فيها حوالي سبعون ألف طفل لا تتجاوز أعمارهم أربعة عشر عامًا قد تعرض أربعون بالمئة منهم لرصاص القناصة. 

أما مستشفى «كشفو» فهي واحدة من مستشفيات المدينة التي تستقبل ليلًا نهارًا الجرحى والمصابين الذين ينقلبون إليها على عجل؛ إلا أن النقص الشديد في المواد الطبية والأدوية تقلل من احتمالات النجاة. 

 مشاهدات في المستشفيات: 

وشاهدت «المجتمع» في غرفة العناية المركزة حالات إنسانية مؤلمة، طفلة في الرابعة عشر من عمرها وهي تعيش حالة أشبه بالاحتضار، تنام في غيبوبة كاملة بعد أن أصابتها شظايا قنبلة سقطت بالقرب منها، وشاب آخر قطعت له قدمه، ويعيش حالة غيبوبة هو الآخر، ولا يأمل الأطباء كثيرًا من ناحيته، وفي الأقسام الآخر من المستشفيات نماذج أخرى، أو شهادات أخرى من الضحايا، شباب وفتيات في عمر الزهور، واحدة أصيبت بالشلل نتيجة إصابتها في العمود الفقري، وشاب فقد قدمه وأصيب في عينه، أما الأطفال فقد نالهم ما نال الكبار. 

كان يتجول معنا الدكتور «فارس كابيتانوفيتش» نائب مدير المستشفى وهو حافظ للقرآن، تفيض عيونه بالدموع، وهو يحدثنا عن نقص المواد الطبية، وعن الحالات الصارخة التي ترد المستشفى، وعن تعمد العدو الصربي قصف المستشفيات، وكيف أصيب قسم الأطفال ومات بعض حديثي الولادة وهم في محاضنهم الصناعية، وبينما كنت أهم بمغادرة المستشفى وصل أحد وجهاء المدينة؛ لكنه محمولًا في سيارة الإسعاف كان مشهدًا مفزعًا فقد أصيب الرجل في رأسه وخرج جزء من مخه، ورغم ذلك فإن الأطباء يتعاملون معه وكأن هناك أمل في أن يحيا، إنهم يبذلون كل ما يمكن، ويتشبثون بكل الفرص للحياة، غادرت المستشفى مسرعًا، وعلمت بعد ذلك أن الرجل غادرها هو أيضًا ولكن إلى مقبرة المدينة. 

المقابر: 

وعلمت -عندما ذهبت لزيارة المقابر- أن أحدًا لا يجرؤ على الذهاب إلى مقبرة المدينة الرئيسية خوفًا من رصاص القناصة؛ ولذلك لجأوا في فترة إلى دفن موتاهم في الحدائق التي أمام بيوتهم؛ حتى أصدر محافظ المدينة قرارًا يمنع ذلك، وأمر بفتح الإستاد الرياضي الذي افتتح أمام الألعاب الأولمبية عام «١٩٨٤م» ليصبح مقبرة للشهداء. 

قال لي إمام مسجد: إن البنايات التي أصيبت يمكن إعادة بنائها، والذين قتلوا نسأل الله أن يكونوا شهداءً، ولكن ماذا نفعل مع نسائنا وبناتنا اللاتي اغتصبن؟ ماذا نفعل وهم يريدون أن يختلط دمهم بدمنا، وأن يغيروا أنسابنا وأصولنا؟

المغتصبات:

«ن. ص» و «ن. خ» فتاتان شقيقتان تبلغان من العمر خمسة عشر وسبعة عشر عامًا حكت إحداهما لـ «المجتمع» مأساتها فقالت: «في شهر يونيو الماضي اقتحمت القوات الصربية قريتنا التي يمثل المسلمون أغلبية سكانها، ولم يمض وقت طويل حتى داهم العدو بيتنا واقتادونا جميعًا إلى مدرسة استخدمت كمركز لتجميع النساء، فيما بعد جمعوني مع صديقاتي في نفس الفصل الدراسي الذي كنت أدرس فيه مادة الكيمياء، ثم بدأوا معنا لاحقًا تحقيقات، سألونا خلالها عن الرجال المسلمين، وكم تبلغ قواتهم وأسلحتهم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، وفي منتصف نفس اليوم بدأوا يقتادونا فرادى إلى خارج هذا الفصل، ثم تستكمل الفتاة حكايتها وهي تقاوم دموعها، لقد كان فظيعًا، لقد دمرونا وسرقوا شرفنا، إنهم لم يفرقوا بين فتاة صغيرة أو مراهقة أو عجوز، لقد كان لنا جميعًا نفس المصير، وكان أبشع مشهد لي هو تلك الطفلة التي لم يتجاوز عمرها ثماني سنوات وقد عادت محطمة مذهولة بعد أن اعتدى عليها عدة رجال تركوها لا تتكلم ولا تتحرك وهكذا ظلت عشرة أيام.  إن الذين قاموا بهذه الجريمة ليسوا غرباء، إنهم زملائي في المدرسة وجيراني الذين كانوا يحتفظون بعلاقات جيدة معنا ومع أهلي»، وتستكمل أختها الحديث: «وقع لي ما وقع لأختي وعندما سألتهم لماذا تفعلوا ذلك؟ كانت الإجابة واضحة لأنكن مسلمات! لقد كان شيئًا فظيعًا، لقد تكررت الجريمة لمدة سبعة أيام كاملة، وفي كل ليلة عدة أشخاص ومن تقاوم تتعرض للضرب والتعذيب الشديد، ثم تذهب إلى مكان آخر لا تعود منه، لقد حاولت بعض الفتيات الانتحار، ولكن أمهاتهن منعتهن».

الموقف السياسي: 

أما على الصعيد السياسي إن أمرين بات المواطن البوسني لا يثق في إمكانية تحقيقهما إلا بعد أن يراهما واقعًا حيًّا خارج نصوص التصريحات والوعود بإجراء دولي ما، وموقف صربي مسالم. 

ولذلك فإن ضجيج المواقف الدولية والمحلية المتتابعة والساخنة فيما يخص القضية البوسنية، والتي توليها الفاعليات العالمية الإعلامية اهتمامًا شديدًا؛ لم يستطع أن يشد انتباه رجل الشارع في سراييفو أو أن يؤثر في مشاعره وانفعالاته، بعد أن أصبح لا يؤمن إلا بما يؤمن به المدافع والبنادق؛ الصربية أي «الواقع اليومي المعاش» وليس «التصور المحتمل للحياة» بل ربما يأتي رد فعل سلبيًّا على الموقف يعتبر في ظاهره إيجابيًا مثل ذلك المواطن الذي قال «للمجتمع» في الحديقة المواجهة لقصر الرئاسة وعقب الإعلان عن توقيع كاراد جيتش لاتفاق السلام في إيفا: «لقد سمعت ذلك لتوي، وتهيأ الآن لتوجهي إلى المخبأ فعقب توقيع كل اتفاقية يزداد العنف الصربي وتتجذر المأساة»، وقد كان صادقًا فقد عاشت سراييفو وقتها ليلة قصف عنيفة. 

ويبدو أن المواطنين في سراييفو -وربما في كل البوسنة- تركوا أمر التفاعل مع الأحداث السياسية لقياداتهم وانغمسوا هم في تأمين احتياجات الحياة اليومية. 

يقول حاجز أفنديتش -نائب رئيس الحكومة البوسنية «للمجتمع»: «إن السلام لا يمكن تحقيقه إلا بفرضه على المنطقة من قِبل المجتمع الدولي وعمله على الحفاظ عليه» بمعنى أن كل حديث عن عمل سياسي ما هو إلا حرث في البحر لن يؤتى ثماره، إلا أن «مجد كريشقيليا كوفيتش» محافظ سراييفو يرى أن الجهود المبذولة على ساحة السلام لها مردود آخر ربما يكون غير منظور اليوم؛ إلا أنه سيرى غدًا، وهو تصدع الصف الصربي وانشقاقه إلى كتلتين يتفقان في الهدف ويختلفان في الوسيلة أو بمعنى أدق في توقيت الوسيلة، ويشرح المحافظ ذلك للمجتمع فيقول: «هناك فريقان يتزعم أولهما القيادات المتطرفة في الجيش والمليشيات الصربية والتي تخشى من ملاحقات المحكمة الدولية المزمع عقدها ويرون أن حتمية استمرار الحرب إلى نهاية أحداثها في مواجهة الفريق الذي قنع أعضاؤه بما سلبوه حتى الآن من أراضي يمكن المماطلة في ردها حسب ما تنص مقترحات فانس وأوين إلى أن تحين مرحلة أخرى أكثر ملائمة لاستكمال تحقيق الهدف. 

ولتمثيل مشكلة انتشار الصراعات بين المسلمين والكروات هاجسًا لقيادات سراييفو؛ حيث يقول محافظها: «لا تزيد نسبة الكروات في المدينة عن ٥٪ من سكانها، وهم يعانون مثلنا من قلة السلاح، ويتابع لقد لعب الكروات دورا كبيرًا في التقليل من إمكانياتها للدفاع عن بلادنا، وجعل طريقنا نحو الصرب صعبًا للغاية». 

ويمكن أن نقول: إن الهاجس الحقيقي الذي تعيشه سراييفو وقيادتها هي الأنباء الواردة من مناطق المجاعات والحصار مثل جيا وغوار جدي وسربيرينتسا. 

يقول نائب رئيس الحكومة الذي كان قائدًا سابقًا لجوار جدي قبل أن يتولى منصبه في سراييفو: «إن الذي يمكن أن يقضي على جوار جدي هو الجوع وليست القذائف الصربية -ويتابع- إذا ما حوصرت باريس أو لندن لعام كامل ومنع عنها الطعام والدواء لأصابها ما أصاب جوار جدي ولباتت على وشك السقوط»، ويشتكي للمجتمع من أن المدينة التي تكتظ بسبعين ألف مواطن لم تتحصل على أية مواد إغاثة على مدى الشهرين الماضيين فيما عشرة آلاف جندي صربي يشنون كل يوم هجماتهم الجنوبية على المدينة بواسطة ما يزيد عن ٣٧٠ مدفع وآلية ثقيلة. 

إلى ذلك يمكن أن نسجل ملاحظتين سلبيتين أولهما هو تفريغ صفوف القيادات المسلمة من أفضل الكفاءات، فقد أخطرت الحكومة البوسنية لفتح عدة قنصليات وممثليات وسفارات عيّنت فيهم أفضل الكفاءات المسلمة والرموز الفكرية لحزب العمل الديمقراطي الذراع السياسي لمسلمي البوسنة مثل «عمر بهمن» سفيرًا لإيران وهو يمثل الجناح المتشدد بتاريخه النضالي والناري، و«خير الدين سيمون» مستشار الرئيس سفيرًا لدى تركيا، و«سناهيد بريستير تيتش» مدير المدرسة الإسلامية سفيرًا لدى السعودية. الثاني هو هذا التصدع الذي أصاب الجهاز الديني، بعد أن أدت الخلافات بين المسلمين إلى إنشاء جهاز ديني آخر غير المشيخة الإسلامية للبوسنة والهرسك، وهو مجلس البعث الإسلامي، وبعيدًا عن الدخول في تفاصيل الخلاف فقد أدى ذلك إلى الكثير من اللغط في صفوف المسلمين في أكثر الأوقات حرجًا لهم. 

كل بناية في سراييفو تحمل أثر للعدوان، وكل مواطن يحمل جرحًا أو خدشًا من قذيفة صربية، وكل بيت يحمل نبأ نعي قريب أو حريق، ورغم ذلك يبقى الأمل في غد تعود فيه سراييفو إلى ما كانت عليه «ياقوت البلقان».

الرابط المختصر :