; الحياة والسياسة في إندونيسيا | مجلة المجتمع

العنوان الحياة والسياسة في إندونيسيا

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1987

مشاهدات 23

نشر في العدد 846

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 08-ديسمبر-1987

دور المسلمين القيادي في العمل السياسي في إندونيسيا يعاني تدهورًا مستمرًا.

في فترة مرض سوكارنو أحكم الشيوعيون مكائدهم، وأغفلوا حساب القدرة الربانية.

عملية إشاعة الصليبية في مختلف الأجهزة الوزارية الهامة جارية بجدية تامة!

منذ أن منيت إندونيسيا بالاستعمار وذلك قبل حوالي 3 قرون ونصف من الزمن، قام المسلمون في مختلف ديارهم حسب ظروف كل فئة، بالمقاومة الضارية لطرد المستعمر من وطنهم، ولذلك نشهد أضرحة الشهداء الذين سقطوا صرعى يؤدون ضريبة الجهاد، تملأ القيعان والوديان. ولم تتوقف تلك المقاومة الضارية المستمرة على المستوى الرسمي الحكومي إلا سنة 1904م حينما اضطر آخر سلطان في آتشيه إلى الاستسلام بعد أن ألقى الهولنديون القبض على زوجته السلطانة، ثم هددوه بإيصال الأذى إليها إذا لم يستسلم، فاستسلم.

لقد كانت معارك حروب آتشيه من أضری ما عرفه التاريخ، حيث سقط عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين في معركة واحدة حول مسجد السلطان وكان من بينهم جنرالات في الجيش الهولندي.

ثم واصل الشعب نضاله بعد عام 1904م على غرار حرب العصابات، بينما أخذ فريق من المسلمين يواصلون النضال على أسس الأنظمة الحديثة مثل إنشاء المنظمات الخيرية التي تعمل على استمرار اتقاد جذوة الوعي الإسلامي في قلوب الأمة، وذلك مثل منظمة شركة التجارة الإسلامية التي تأسست سنة 1907م، ثم تطورت خلال بضع سنين لتصبح بقيادة الطيب الذكر المرحوم الحاج عمر سعيد تشوكرو أمينوتو لتصبح حزب الشركة الإسلامية الإندونيسية.

وقد تمكن من جمع حوالي ثلاثة ملايين عضو وهو عدد ضخم جدًا إذا ما قارناه بعدد السكان الإندونيسيين في ذلك الوقت الذي لم يزد على ستين مليون نسمة.

ونشأت كذلك منظمة المحمدية سنة 1912م على يد مؤسسها الشيخ أحمد دحلان، وكانت تتخصص في بعث الوعي الإسلامي عن طريق العودة إلى المنبع الأصيل للشريعة وهو القرآن الكريم والسنة، واصطنعت لذلك أجهزة التربية والتعليم حتى استطاعت هذه المنظمة أن تدير وترعى عشرات الآلاف من المدارس والمعاهد والجامعات، كما عنيت أيضًا بإسداء الخدمات الصحية عن طريق إنشاء المستشفيات والمستوصفات، كما عنيت أيضًا بخدمات الرعاية والبر إلى الأيتام وغير ذلك من أعمال البر والخير، تكرسها لخدمة الأمة الإسلامية تجنيبًا لها من المؤسسات الصليبية المشبوهة، وكانت لها جهودها المشكورة خلال أكثر من 60 عامًا. وقامت إلى جانب ذلك منظمة «جمعية الإصلاح والإرشاد» و«جمعية الوحدة الإسلامية» وكلتاهما تركزان نشاطاتهما على قطاعات التربية والتعليم، وكل واحدة قدمت خدماتها وسدت مسدًا يذكر فيشكر إلى جانب ذلك هناك منظمات إسلامية أخرى.

وبلغ وعي الأمة الإسلامية إلى وحدة الصفوف وتكتل الكلمة، واتفقت الجمعيات والمنظمات الإسلامية على اصطناع جهاز ينسق العمل فيما بينها، وينظم توحيد جهودها، وذلك بإنشاء ما يسمي بـ«المجلس الأعلى الإسلامي الإندونيسي». وعندما نودي باستقلال إندونيسيا في 17 أغسطس 1945م اجتمع ممثلو المنظمات والهيئات والأحزاب الإسلامية، وأجمعوا أمرهم على أنهم بعد الاستقلال لن يسمحوا بتشتيت الجهود وتفرق الكلمة كالذي سبق أن عاشوه في مرحلة تحضير الاستقلال سابقًا، وتعاهدوا على أن يقتصر في قيادة العمل السياسي على حزب واحد سمي «مجلس شورى مسلمي إندونيسيا» ونحتوا من هذا الاسم كلمة «ماشومي» وأنشئ هذا الحزب الإسلامي في يوم الحج الأكبر عام 136هـ الموافق 6 نوفمبر سنة 1945م.

وقد أثار هذا القرار الصائب من ممثلي وقادة الجماعات والوحدات الإسلامية مشاعر الروع والهلع لدى الفئات التي لا تريد للإسلام خيرًا؛ لأن وحدة القيادة الإسلامية بشعب مسلم يمثل أكبر تجمع سكاني مسلم على الإطلاق تعتبر عملاقًا للعمل الإسلامي، من الصعب إخضاعه وترويضه إلا عن طريق تدبير عمليات قسم عصا الوحدة وتمزيق الكلمة.

وهكذا نجد العمل الإسلامي منذ عام 1945م يواجه مقاومة من قبل الحزب الشيوعي ومنظماته الفرعية، ومن قبل الأحزاب الأخرى التي تنفذ تخطيطات الصليبية العالمية والصهيونية ونحوها من جهة، ومن جهة أخرى يواجه العمل الإسلامي مؤامرات التسلل إلى داخل الصفوف الإسلامية لتنفيذ مؤامرات التفرقة وتمزيق الصف.. من ذلك ما حدث عندما أسندت إلى «عامر شريف الدين» النصراني المسيحي مهمة تشكيل وزارة إندونيسيا بعد استقالة وزارة «شهرير»، وقد قررت قيادة حزب ماشومي رفض المشاركة في هذه الوزارة أو التعاون معها في إدارة دفة الحكم، وإذا بالجميع يفاجئون بقرار بعض جماعة «حزب الشركة الإسلامية» بانفصال تلك الجماعة، وإنشاء حزب الشركة الإسلامية من جديد والاشتراك في وزارة «عامر شريف الدين»، وكانت تلك أولى مآسي انتكاسة وحدة الصفوف الإسلامية، واستمر ماشومي يواصل النضال وخاصة بعد ما أدت السياسة الانهزامية لوزارة «عامر شريف الدين» إلى رضوخها بقبول اتفاقية «رينفيل» التي سلخت كثيرًا من مناطق الجمهورية واستقالت تلك الوزارة لتأتي بدلها الوزارة الرئاسية برئاسة الدكتور أندوس «محمد حتى» يسندها حزب ماشومي في عدة وزارات مهمة مثل الداخلية والخارجية والاقتصاد، واستمرت حتى الهجوم العسكري الهولندي الثاني (19 ديسمبر 1948م).

وبسبب وقوع رئيس الجمهورية ونائب رئيس الجمهورية وعدد من وزراء الدولة أسرى لدى جيش الاحتلال الهولندي الذي نقلهم إلى خارج جزيرة جاوا، تولى «شفر الدين براوير انیقارا» تشكيل حكومة للجمهورية الإندونيسية في المنفى، وذلك في منطقة سومطرا الغربية، وواصلت توجيه دفة الإدارة والحكم وقيادة النضال المسلح في كل من جاوا وسومطرا وغيرهما، كما كانت تدير العمل الدبلوماسي عن طريق السفارات الإندونيسية في الخارج إلى أن أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره بوجوب تسليم السلطة والسيادة من جانب هولندا إلى إندونيسيا، وتم التوصل إلى تصريح «محمد روم» و«فان رويين» الذي وضع الأسس العملية لمباحثات تسليم السلطة والسيادة اتفاقات المائدة المستديرة، وعودة حكومة الجمهورية الإندونيسية إلى يوقيا كرتا كحكومة ذات سلطة وسيادة، وهكذا استمر العمل حتى التئام شمل مؤتمر المائدة المستديرة في «لاهاي» في هولندا، وقد تم التوصل إلى عملية تسليم واستلام السلطة والسيادة بين هولندا وإندونيسيا في 27 ديسمبر 1949م. وتم جلاء جيوش الاحتلال الهولندي من مناطق الجمهورية، وتمركزت في مدينة جاكرتا كبعثة عسكرية هولندية، وتشكلت الحكومة المركزية برئاسة الدكتور أندوس «محمد حتى» التي قامت بتوجيه دفة السياسة والإدارة وسط خضم من الاضطرابات في الأقاليم التي تحاول الإطاحة بالحكومة الصورية التي أنشأتها هولندا، وكان أقساها استخدمت فيه وسائل العنف مثل إلقاء القنابل ونحو ذلك مما ينذر بشر وبيل، فبادر «محمد ناصر» زعيم جبهة ماشومي في البرلمان باقتراح مشروع قرار اشتهر فيما بعد باسم «قرار محمد ناصر الوحدوي» وكان يدعو كافة الدويلات الأعضاء في جمهورية الولايات المتحدة الإندونيسية بما في ذلك جمهورية إندونيسيا إلى أن تحل كل واحدة نفسها ثم تقوم بعملية اندماج بين تلك الدويلات فيما سمي بـ«دولة وحدة الجمهورية الإندونيسية»، ولقد وافق ممثلو الجبهات البرلمانية ووقعوا على مشروع القرار الذي قدم للحكومة، وأبدت الحكومة موافقتها المسبقة، وبذلك أمكن تجنيب إندونيسيا من أخطار عمليات الشغب والاضطرابات التي يحاول المغرضون تسخيرها لأغراضهم الخاصة، وقامت الوحدة بدون إراقة ماء وجه أحد. ويبدو أن الأدوار المهمة التي قام بها المسلمون في صنع تاريخ إندونيسيا الحديث لم ترق للكثيرين من الأحزاب مثل الحزب القومي الإندونيسي والحزب الشيوعي الإندونيسي.

وكان مما واجه وزارة محمد ناصر عملية قمع ثورة متمردي جيش المستعمرات في مالوكو الجنوبية، واستعادة ما كانت مسيطرة عليه والقضاء على القائمين بها، وكانت من أخطر القنابل الموقوتة التي خلفها الاستعمار الهولندي، ولكن الله سلم.

 وكان من أهم برامج وزارة محمد ناصر بناء إندونيسيا واستعادة أيريان الغربية من الاستعمار الهولندي، وكان من متطلبات عمل البناء إعادة الممتلكات الأجنبية الشرعية لأصحابها مما لا يمس السيادة الوطنية حتى يقوم أصحاب تلك الممتلكات باستثمارها كما ينبغي. وفي الوقت الذي تقرر فيه إعادة أراضي شركة «ديلي تاباك»، نجح الشيوعيون بمساعدة الحزب القومي في عرقلة هذه العملية بتأليب الفلاحين الذين استولوا على تلك الأرض من أيام الاحتلال الياباني رغم أن الحكومة قد مهدت الطريق لإيوائهم وإسكانهم في مناطق زراعية أخرى، ولكن بعض الفلاحين ومنهم بعض الصينيين قاوموا العملية مقاومة أدت إلى حدوث شغب وسقوط بعض الجرحى والقتلى، مما أثار ردود فعل مصطنعة كانت قمتها عدم اكتمال النصاب في البرلمان، عندما أراد محمد ناصر تقديم بيان الحكومة وهي من المناورات الدنيئة.

وكان سوكارنو رئيس جمهورية إندونيسيا الذي كان بحكم الدستور يتولى ولا يحكم، يروج لفكرة قيام وزارة بأربع قوائم، يريد بذلك اشتراك الحزب الشيوعي في حكومات إندونيسيا وبعد استقالة وزارة ويلوبو- براوتو شكلت وزارة «علي ساسترو اميجويو» بدون مشاركة حزب ماشومي، وجيء بحزب نهضة العلماء وشخصيات تواكب اليسار وتستوحي سياسته، وظلت هذه الوزارة حتى سنة 1955م، حيث سقطت إثر رفض قيادة الجيش لقرار تعيين رئيس أركان جديد لها بدلًا من رئيس الأركان المتقاعد. واستقالت الوزارة وقامت على إثرها وزارة «برهان الدين هاراهاب» من حزب ماشومي، وكان من أبرز أعمال وزارة برهان الدين هاراهاب إلغاء الاتحاد الهولندي الإندونيسي بعد أن تأثرت كافة المحادثات بين الطرفين حول تسوية قضية أيريان الغربية وإجراء الانتخابات العامة المباشرة لأول مرة في تاريخ إندونيسيا.

وكان من أبرز بوادر التحسن العام في الاقتصاد وشؤون المال بفضل السياسة التي أرستها وزارة برهان الدين في قطاع المال والاقتصاد أن هبطت الأسعار بعد أن تفاقمت في أيام وزارة «علي ساسترو اميجويو» التي اشتهرت بتوزيع رخص الاستيراد الممتازة لمستوردين وهميين مما أثار القلاقل والاضطرابات في عالم المال والاقتصاد.

وكان لكل ذلك طيب الأثر لدى نفوس الجماهير وإشاعة مشاعر التفاؤل لديها في مستقبل إندونيسيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان هذا ما أثار مخاوف الشيوعيين والضالعين معهم من الأحزاب الأخرى. ولذلك عمل سوكارنو المستحيل لأجل إنهاء وزارة برهان الدين هاراهاب، ولم يرض سوكارنو أن ينجح برهان الدين في حل الاتحاد الهولندي الإندونيسي، وكذلك ما أنجزه من انتخابات عامة مباشرة نزيهة تشكل على أثرها كل من البرلمان المنتخب والمجلس التأسيس «الكونستيتوانت» المختص بوضع الدستور الدائم لإندونيسيا، لم يرض سوكارنو عن كل ذلك. وألح بنفسه على برهان الدين ليقدم استقالته، ولما لم يجد ذلك شيئًا، طلب سوكارنو من الوزراء المسلمين الأعضاء في الوزارة من حزب نهضة العلماء وحزب الشركة الإسلامية ليستقيلوا فيجبروا برهان الدين على الاستقالة، واستقال وشكل سوكارنو الوزارات التالية. وقد قرر حزب ماشومي سياسته العامة في عدم التعاون بأي شكل من الأشكال مع الحزب الشيوعي أو الشخصيات التي تتعاطف مع الحزب الشيوعي أو الشخصيات التي يتعاطف معها الحزب الشيوعي الإندونيسي.

وفي نفس الوقت استمر الشيوعيون يمهدون للاستيلاء على السلطة بكل ما عرفوا به من مكر ودهاء خاصة؛ لأنهم واثقون من أن خيرة الضباط في القوات المسلحة تشجبهم ولا تسمح بأن يتقلدوا أي منصب في الحكم، بدليل أن فكرة إنشاء القوة المسلحة الخامسة التي عرضوها، وهي قوات العمال والفلاحين إلى جانب قوات الجيش والبحرية والطيران والبوليس كانت مرفوضة شكلًا وموضوعًا إلا من قبل قائد واحد وهو قائد سلاح الطيران «مارشال الجو عمر داني».

وكانوا في سباق مع الزمن من حيث إنهم يعرفون أن سوكارنو يعاني من عدة أمراض وأخطرها كليته، ونجحوا في أن يجعلوا الإشراف الطبي على سوكارنو بيد الأطباء الاخصائيين من الصين وبذلك كانوا على علم بتطورات المرض.

لقد أحكم الشيوعيون مكائدهم وحسبوا لكل شيء حسابه، وأغفلوا الحساب العام الوحيد وهو حساب القدرة الربانية التي تدخلت لتحبط مؤامراتهم الدنيئة، وكانت بداية النهاية للعهد القديم الذي استمر يعربد حتى أودى بخيرة ضباط الجيش إلى «جحر التمساح»، وهي بئر مهجورة قطرها متر وعمقها بضعة عشر مترًا، وألقي فيها بحثث أولئك القادة. وكانت مدينة جاكرتا مسيطرًا عليها من قبل قوات الانقلاب والتمرد، وعلى رأسها فوج الحرس الجمهوري وعدد من الأفواج والسرايا المستقدمة من جاوا الوسطى وجاوا الشرقية لتسيطر على المواقع الاستراتيجية الهامة في المدينة.

ثم عرفته الجماهير صباح يوم الجمعة الأول من أكتوبر بالبلاغ رقم واحد يتلوه باسم «الكولونيل أونتونغ» قائد الحرس الجمهوري، وفيه نبأ القبض على مجلس الجنرالات الذي كان يريد الاستيلاء على السلطة والقبض على رئيس الجمهورية. ولكن الكولونيل انتونغ نجح في إفشال مخططات مجلس الجنرالات منددًا بهم بسوء سلوكهم وجشعهم وأشياء أخرى، مما جعل الناس يفهمون بأن هناك انقلابًا قد حدث، وقامت قيادة القوات الإستراتيجية للجيش وهي القوة الضاربة للقوات المسلحة، وتحركت وقامت بهجوم مضاد تمكنت قبل مغرب شمس ذلك اليوم من استخلاص كافة المناطق التي سيطرت عليها قوات الانقلاب وتقهقرت إلى خارج جاكرتا، ثم واجهت إنذارها إلى قاعدة «حليم» الجوية بأن تستسلم، وإلا فإنها ستتعرض لضرب مكثف من القوات الإستراتيجية. وهكذا قرر «عايديت» زعيم الحزب الشيوعي الهرب إلى يوقياكرتا على متن طائرة بقيادة مارشال الجو «عمر داني»، كما هرب سوكارنو من القاعدة على متن طائرته السمتية إلى بوقور. وهنا أعلن العميد سوهارتو قائد القوات الإستراتيجية الذي رقي فيما بعد إلى رتبة الجنرال من خلال ميكروفون الإذاعة أن الانقلاب هو من تدبير الحزب الشيوعي الإندونيسي، وأن عددًا من قوات الجيش قد اختطفوا من بيوتهم، ولا يزال البحث جاريًا عنهم، فانطلقت نقمة الشعب من عقالها من أقصى إندونيسيا لأقصاها مطالبة بإنزال العقاب الشديد على مدبري الانقلاب من قادة الشيوعيين والمنظمات التي تنطوي تحت مظلتهم. وبدأت طلائع العهد الجديد وآذن كابوس الفوضى والتهريج بالزوال.

إذا أمعنا النظر من خلال هذه العجالة الاستعراضية لتاريخ إندونيسيا الحديث نرى كيف أصبح دور المسلمين القيادي في العمل السياسي في إندونيسيا، وكما نراه في بعض أقطار الشرق الأوسط، بدءًا من أواخر العقد الخامس ومستهل العقد السادس لهذا القرن العشرين، يعاني تدهورًا مستمرًا بسبب الكثير من العوامل الخارجية والداخلية. وكانت عمليات التنمية المستوحاة من الوجهة الاقتصادية ذات الصفة البراغماتية، وما كان لها من تأثير مباشر أو غير مباشر في تقليل النظرة الأيديولوجية للمجتمع الإندونيسي، وكانت عمليات التحديث والعصرنة «المودرنيساسيون» المصحوبة بإجراءات التصنيع وموجات الهجرة من الأرياف إلى المدن والعلمنة ودخول رؤوس الأموال الأجنبية بشكل ضخم وبكل ما تسبب عنه من تأثير اجتماعي سياسي، قد تسبب كل ذلك في ميوعة النظرة الأيديولوجية لدى المسلمين. وكانت الكثير من مناطق الأقاليم في إندونيسيا التي كانت أيام الديمقراطية البرلمانية تحت نفوذ القوة السياسية الإسلامية مثل منطقة سومطرا الغربية وجاوا الغربية وسولاويسي الجنوبية وكاليمنتان الجنوبية، أصبحت الآن ملونة من قبل القوى السياسية الأخرى.

ويمكننا أن نعزو أسباب هذا التدهور في القيادة السياسية الإسلامية في تاريخ إندونيسيا إلى ما يلي:

  • في الفترة ما بين سنة 1949– 1959م كان للدور السياسي الإسلامي ثقله ووزنه المؤثر في القوى. وكانت الحياة السياسية تتميز بظاهرة الصراع لبناء القوة بين الأحزاب القائمة آنذاك، وكانت النتائج عادة مربحة للأحزاب الإسلامية لأنها بشكل ديمقراطي حقيقي تمثل واقع الأمة في حزب ماشومي وحزب نهضة العلماء وحزب الشركة الإسلامية وحزب التربية الإسلامية. تمكنت مجتمعة من الاستحواذ على 45 في المائة من الأصوات في فترتي الانتخابات العامة سواء للبرلمان أو المجلس التأسيسي. وتبين أن الأمة الإسلامية تمكنت من خلال الهيئة السياسية الديمقراطية السائدة أبان ذاك أن تمثل القوة الحقيقية القائمة في الأمة.
  • في الفترة من سنة 1959م- 1965م أصيب الدور السياسي الممثل للأمة بحق وحقيق بالتأخر والتدهور، وقد تمكنت الديمقراطية الموجهة لسوكارنو من زحزحة القوى السياسية الإسلامية مثل حله لحزب ماشومي، وقد خلا الميدان السياسي في إندونيسيا من الصراع المستحكم بين الحزب الشيوعي الإندونيسية الذي تمكن من التسلل بعمق وأحكام داخل الحزب القومي الإندونيسي «اليساري»، كما تمكن من السيطرة على الجبهة الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى مع قوات الجيش الوطني الإندونيسي والقوات البرية.

وكان سوكارنو يحاول أن يجعل من نفسه قوة التوازن في هذا الصراع السياسي الذي تطور فأصبح «حركة الثلاثين من سبتمبر/ الحزب الشيوعي الإندونيسي». ورغمًا من أن قوات الجيش الوطني الإندونيسي منذ أول عهد الاستقلال تريد أن تمسك بيدها السيطرة السياسية، وتضع المجموعة المدنية تحت قوات الجيش إلا أنه في عهد الديمقراطية الموجهة بدأ ذلك الاتجاه يقوى ويبرز.

وقام نظام العهد الجديد بعد نهاية العهد القديم، والذي كان سبب قيامه وعلة وجوده هو تلافي أخطاء العهد القديم وتصحيح غلطته الدستورية والتطبيق الأمين للدستور، وحمله الشعب المتظاهر على أكتافه حتى يشتد ساعده ويقف على قدميه، وكان المسلمون هم أول المساندين للتجنيد في سلك الاستخبارات في إحدى المناطق التي خلت من كل أجهزة المخابرات لأنها انضمت إلى الانقلابيين.

غير أن شهر العسل مع الديمقراطية كان قصيرًا جدًا، إذ كان أساطين العهد الجديد هم ممن يعرفون بالعسكريتاريا، والعسكريتاريا أرادت أن تستأثر بكل السلطات فلم يكن المسلمون وحدهم بل كافة المدنيين لم يعد لهم أي دور في اتخاذ القرارات في إندونيسيا.

واتضح الآن أن قوى السلطة كادت تصبح بكاملها في يد القوات البرية وبخاصة عن طريق منظمة الحرفيين «القولكار»، بينما أصبح الحزبان الموجودان حاليًا هما حزب الوحدة الإنمائية وحزب الديمقراطية الإندونيسية فيمكنهما أن يقوما بدور إذا لم يسبب ذلك الدور عرقلة للنظام المستقر.

ومن أبرز مظاهر العهد الجديد ما يلي:

أولًا: اندماج البيروقراطية والعسكريتاريا. وقد خاض دور الجيش في مختلف القطاعات، خاصة قطاع السياسة والبيروقراطية. وقد شغلت المناصب الرئيسية كافة، ابتداء من البوباتي «حاكم منطقة البوباتية» إلى حكام المحافظات، وكل خلا بالبيروقراطية المهمة من قبل العسكريتاريا.

ومن بين الخلايا الخطيرة خلايا ضباط الصف المكلفين ببناء القرى وقيادة النقاط العسكرية، وقد أصبح هؤلاء الضباط صفًا يشرفون على كل حركة أو سكنة في القرية، وبيدهم السماح لمجالس الوعظ أو منعها وكثير منهم من النصارى.

وكثيرًا ما حدث أن يدخلوا المساجد دون أن يخلعوا أحذيتهم مما آثار الاستياء في نفوس الجماهير، وأحسبهم يتعمدون ذلك ليفهموا الجماهير أنه ليس للإسلام ولا لمساجده لأية قداسة لديهم.

وكان هذا مما آثار استياء سكان تانجونغ بريوك استياء أدى إلى مذبحة تانجونغ بريوك في 12 سبتمبر سنة 1984م.

ثانيًا: رأسمالية الدولة.. إن سيطرة الدولة على شؤون الاقتصاد ضخمة جدًا، ورغمًا من أن دستور الدولة ينص على أن مصادر الثروة الطبيعية الوطنية تسيطر عليها الدولة إلا أن من الواضح أن تلك السيطرة ما كانت متمشية مع المادة 33 من دستور سنة 1945م، ومن ناحية أخرى يبدو أن القطاع الخاص محتكر من قبل أصحاب رؤوس الأموال القوية بحماية من الصفوة المختارة من الساسة.

ثالثا: العلمانية المطلقة. اتخذ البعض من القانون رقم 3 ورقم 8 لسنة 1985 سندًا قانونيًا لتطوير العلمانية الكاملة، فلم يقتصر الأمر فقط على منظمة الحرفيين «قولكار» والحزبين السياسيين بل اندرجت كذلك كافة المنظمات الجماهيرية بما في ذلك المنظمات الدينية محظور عليها اتخاذ الدين أساسًا دليل بارز على أن مقرري الشؤون الاجتماعية في إندونيسيا مصممون على العلمانية المطلقة.

رابعًا: يظهر جليًا وجود اتجاه قوي إلى الدكتاتورية المغلقة، فقد أصبح الحكام ليسوا فقط يقومون بعمليات الرقابة والتوجيه والبناء لأحد، ولكنهم يراقبون ويوجهون ويبنون أيضًا سائر أبعاد الحياة عن طريق قانون رقم 3 ورقم 8 سنة 1985م المشار إليه أعلاه.

خامسًا: إشاعة الصليبية على مستوى الشعب وإشاعتها في الوظائف الهامة الإستراتيجية في مختلف وزارات الحكومة، وخاصة في منطقة جاوا الوسطى ويوقياكرتا وجاوا الشرقية. وأحرزت عملية إشاعة الصليبية في أوساط الشعب تقدمًا كبيرًا في العهد الجديد. وفي ذات الوقت نجد أن عملية إشاعة الصليبية في مختلف الأجهزة الإستراتيجية بمختلف الوزارات مثل وزارة التربية والثقافة جارية بجدية، بينما توجد هناك فئات وخلايا خاصة في تركيبة السلطات تعمل على إحراز التقدم في إشاعة الصليبية في مختلف شعب إدارات المناطق.

سادسًا: جهود اللاإسلامية «محاولة تمييع الإسلام واضمحلاله» والسبيل الذي يطرقه المصابون بالرهاب الإسلامي «الإسلاموفوبيا» لشق الإسلام في الأساس، يتم بتكثيف الصليبية وتشجيع الاتجاه الهادف إلى إحياء تراث الآباء والضرب على قوة اقتصاديات المسلمين أو على الأقل العمل على تنشيط عملية تصفية تلك الاقتصاديات في النهاية.

 سابعًا: السيطرة على شبكات الاستخبارات من قبل فئة من الأقليات، كما كانت شبكات استخبارات إيران في عهد الشاه تحت سيطرة طائفة البهائيين.

ويمكننا أن نسجل هنا بعض أدوار العسكريتاريا في اللعب على شطرنج السياسة الاقتصاد في إندونيسيا أن نورد ما يلي:

 فقد كان للعهد الجديد منذ البدء اتجاهان مركزيان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وهو بناء الاقتصاد والاستقرار السياسي، وهذا الاتجاه المزدوج يصدران في الأساس عن واقع منذ الأول أن تورط نشاط العسكريتاريا بشكل رسمي قد قوبل ردود فعل سلبية من أوساط المدنيين، وتسبب ذلك في تخوف العسكريتاريا وتحسبها في التصدي والمحافظة على السلطة السياسية أو بتغيير آخر أن هذين الهدفين يمثلان ضرورة لازمة لترشيح اعتقاد الشعب وقبوله للنشاطات الاجتماعية من قبل العسكريتاريا في إدارة الدولة، وهو ما يمثل هوية الدور الاجتماعي والسياسي للعسكريتاريا.

ومن الناحية الخاصة بالتنمية الاقتصادية من هذا الاتجاه المذكور، يلاحظ أن العسكريتاريا يحسون بضرورة التعاون الذي يتم به التكامل، وذلك مع مجموعات الاقتصاديين وغيرهم «وخاصة التكنوقراطيين» التعاون الذي يمكن أن يحقق من حيث الشكل والموضوع والتطبيقات ذلك الاتجاه المنشود وفي هذا المجال يحتل التكنوقراطيون المرتبة الأولى، لأن بمقدورهم تسخير المدخل وتأمين رؤوس الأموال.

ويعمل العسكريتاريا من أجل التوصل والحفاظ على الاستقرار السياسي وتطبيق عملية الإمساك بأزمة النشاطات السياسية بقبضة من حديد وبمركزية داخل الوحدات العسكرية والتجمعات المدنية وباستخدام كافة الأجهزة الحكومية إلى أعلى مستوى. هذا الأمر الأخير يمثل الهيئة التي تستخدم لتحقيق الاستقرار السياسي، وفي نفس الوقت يمثل الهيئة الأساسية للإشراف في عملية تنسيق برامج الحكومة.

ومن المؤشرات على وجود إستراتيجية حكومة العهد الجديد كمثال نورد ما يلي:

1- التصعيد المستمر للازدهار الاقتصادي كمظهر للبرنامج الشامل في قطاع الاقتصاد.

2- إشاعة فكرة تقديس عملية التنمية.

3- اصطناع اللوائح والأنظمة التي تمتاز بالسلاسة، وتسهيل اعتمادات التنمية ورؤوس الأموال الخاصة بقطاع الاقتصاد، وبخاصة الاستثمارات الأجنبية.

4- تقوية آلية العمل وتصعيد مكان البيروقراطية بصفة خاصة داخل المجتمع.

5- تنظيم الهيئات الحكومية والاجتماعية بشكل مكثف.

6- تجنيد كافة القوى الموجودة داخل المجتمع للقيام بالمساهمة في تطبيق برامج الإنماء.

وطبعًا إن ما يجري في إندونيسيا هو نفس ما جرى ويجري في بعض أقطار العالم الإسلامي وأقطار الشرق العربي، وقد يشير ذلك أن بئر الانطلاق واحدة.

الرابط المختصر :