العنوان الرنتيسي.. أسد المقاومة في زمن الانكسار
الكاتب عبد الرحمن فرحانة
تاريخ النشر السبت 19-مارس-2005
مشاهدات 22
نشر في العدد 1643
نشر في الصفحة 24
السبت 19-مارس-2005
بين يدي الشهيد: منذ عرفته عبر شاشات التلفزة يهدر کأسد ملأ زئيره فضاء الأفق القدسي المبارك؛ عشعش حبه في حنايا قلبي الذي طالما عاش زمن الانتظار، ليخترق - رقم الانكسار المخيم - حوزة الفعل الجهادي المقدسي؛ لتتماوج في فضائنا سنابل العز المتمردة على موسم الهزيمة.
قلبي المرهق من لحظات الانتظار عبر سنين الجدب العربية تعلم من سكنى هذا الحب العزيز رعشة العنفوان؛ وبسيرة هذا الرجل القدسي والكتاب الفتوح المقروء ميدانًا عبر الفعل والحركة؛ لا عبر الحروف الكسولة المتمددة على سطور الصفحات الفاخرة؛ سرت في عروقي شهوة الكرامة، وتفاعلت في خلاياي كيمياء جديدة خلقت في أنويتها أكسير الانتصار؛ رغم انخفاض السقف السياسي لأفق العجز العربي. رغم أني لا أقدس الرجال، ولا أعرف إلا قدوسًا واحدًا في السماء جل شأنه.... اعترف يا عبد العزيز.. أني أحبك ملء شغاف القلب وسويدائه، حيًا لا يتعلق بتضاريس الجسد وجغرافيا طين البدن، إنما لأنك كنت خميرة العنفوان، وسنبلة من سنابل الكرامة لهذه الأمة العصية على الانكسار.
واعترف أيضًا أن أقسى لحظة في حياتي كانت حينما شاهدتك منبطحًا على سقالة الإسعاف يوم اغتيالك، يوم أصابك غدر بني قريظة الجدد، ويظل المشهد يطاردني.. ولكن رغم شبح المطاردة الذي يطارد مفاصل صحوة العز في الذاكرة، إلا أن فعلك الجهادي يبقى هو الأقوى، لأنك صنعت مشهد العز الممانع ونشرت ثقافة المقاومة الشامخة بسيرة تعبق بتاريخ السلف الجهادي.. وحولتها من آيات تتلى بين دفتي المصحف إلى فعل يمزج الآيات بالدماء، ويخلط تراب الأرض بأشواق السماء.
سيرة فوق العادة:
في «يبنا» القرية الفلسطينية عام ١٩٤٧م كانت صرخة الطفل الذي ملأ رئتيه لأول مرة بهواء الأرض المباركة التي أحب شومرها ولون برتقالها الحزين، ولم ينس رمالها الذهبية التي تشرفت بخطوات الأنبياء واحتضنت مراقد الصحابة الأجلاء.
لم تمهل الطفل الصغير قبلان البحر الصهيونية: إلا بعد ستة أشهر من مولده اقتلعوا جذوره، ليهجر نحو الجنوب هناك في غزة الآباء على ساحل المتوسط الذي تهمس أمواجه للشاطئ كل يوم بحنينها لمراكب الفاتحين القدماء.
في مخيم خان يونس تعلمت قدماه أول خطوات الحياة، وبين أزقته الموقعة بألوان الهجرة القاسية كان يطارد شبح الفقر مع تسعة إخوة وأختين برفقة أم فقدت عشيرها في أحلك اللحظات.
كان الطفل منذ النشأة الأولى يربي الحلم والإرادة في قلبه الصغير، لذلك لم تكسره حاجة الفقر واليتم وتعلم منذ نعومة أظفاره مساقات الكفاح في أزقة المخيم البائسة، لكنه لم يتذوق طعم الطفولة كبقية الأطفال إذ عمل صغيرًا يبيع ثمار «الجميزة» المتواضعة ليعود إلى أمه بقرش وربما حتى بنصف قرش، وفي سياق رحلة الحياة القاسية ودع يومًا أخاه المرتحل إلى السعودية لتحسين ظروف العائلة المادية، وفي محطة القطار طلبت منه أمه أن يعطي أخاه المسافر حذاءه الذي اشتراه للمدرسة من دكان الأحذية المستعملة بثمن زهيد، فلم يتردد وفعل ما طلبته أمه وقفل إلى البيت حافيًا.
تلميذ متميز:
درس في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وكان تلميذًا نبيها متميزة بين أقرانه، ورغم قسوة ثالوث «اليتم والفقر والهجرة» إلا أن أسد الأقصى أنهى محطته الثانوية عام ١٩٦٥م ليرتحل إلى أرض الكنانة، حيث أتم دراسته الجامعية هناك عام ١٩٧٢م ليتخرج في جامعة الإسكندرية كطبيب مميز، ولاحقًا تخصص في طب الأطفال رغم أنه كان يطمع في جراحة العيون.
كان «الجنرال المتمرد» كما يحلو للبعض تسميته، يتمتع بكريزما عالية، وذا شخصية تجمع بين المهابة ودفء المحبة، صلبًا كصخور جبال الكرمل والضفة، خطيبًا مفوهًا يملك قدرة بارعة على شحن بطارية الجماهير بمزيج من
قوة المنطق ودفء العاطفة. وكان أبًا حنونًا يغدق بحنانه على أبنائه وبناته لا يغفل أحدًا منهم: أحمد ومحمد وإيناس وسمر وأسيا وأسماء، رغم مشاق الجهاد وانشغالات الدعوة. وبرغم دخان البارود وإجراءات الأمن وحذرها لم يرحل عن هذه الدنيا قبل أن يتم إجراءات زواج ابنه الأصغر أحمد في آخر ليلة قبل الرحيل.
لم يكن يتقاضى أجرًا من الفقراء والمحتاجين الذين يستقبلهم في عيادته، وكذلك الأرحام والزملاء، بل يحرص على تخصيص وقت للعمل المجاني في المساجد، ولوداعته مع الأطفال كان يحرص على إحضار الشوكولاتة لهم، ليصنع لهم الفرح في بيئة هرستهم فيها أنياب الفقر المتوحشة.
محطات جهادية:
كان أسد الأقصى هو والاحتلال ضدين لا يتوافقان أبدًا، فلم يكن يدفع لهم حتى ضريبة الدخل التي كان يدفعها الجميع، وسجنوه الأجل ذلك، إلا أنه لم يخضع لهم.
في عام 1۹۸۷م أسس مع نشطاء في الحركة الإسلامية في قطاع غزة «حركة حماس» وظل يجاهد لم تلن له فتاة على أبعد عام ١٩٩٢م هو و400 شخصية إسلامية إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، وتحدى رابين هناك وقال: «سأخرج رابين أمام العالم»؛ إذ كان ناطقًا باسم المبعدين. بعد عودته من الإبعاد أصر رابين على سجنه فظل في السجن حتى ١٩٩٧م، حيث أطلق سراحه ليعود إلى عرينه في غزة ليشارك في قيادة حماس. اعتقلته السلطة الفلسطينية أربع مرات متفاوتة مدتها سبعة وعشرون شهرًا، في إحداها عام ١٩٩٨م تعرض السجن المركزي الذي كان فيه لقصف من قبل الطائرات الصهيونية بتواطؤ مع السلطة الفلسطينية، إلا أنه نجا بفضل الله تعالي.
خلال مكوثه في السجن حفظ القرآن الكريم كاملًا، ومن حياته في السجن يقول عن نفسه: «حرمت من النوم ستة أيام متتالية، ووضعت في الثلاجة أربعًا وعشرين ساعة لكني لم اعترف بشيء، بفضل الله تعالى». من صبره وجلده وعزيمته، حدث أنه في ليلة القدر عام 2003م أثناء انتفاضة الأقصى طاف على أكثر من عشرين مسجدًا يحض الناس على الجهاد والثبات. وفي المحطة الأخيرة، تولى قيادة حركة حماس بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين، وبعد توليه بفترة وجيزة، وفي الساعة الثالثة من فجر يوم السبت ۱۷ إبريل «نيسان» ٢٠٠٤م عاد إلى منزله متخفيًا كالعادة حيث كان أخوه صلاح قد قدم من خان يونس راغبًا في رؤيته، وكذلك ابنته إيناس كانت تود رؤيته أيضًا، وبعد إلحاح من الجميع بقي معهم ساعات، بعد أن استدعى ابنته الأخرى أسماء لتشاركهم هذا اللقاء الختامي من حياة الشهيد.
استيقظ صباحًا واغتسل وتعطر وأخذ ينشد على غير عادته «أن تدخلني ربي الجنة، هذا أقصى ما أتمنى» وقال لزوجته أم محمد «إنها من أكثر الكلمات التي أحبها في حياتي».
قبل صلاة العشاء أستقل سيارة سوبارو ذات نوافذ معتمة كالعادة لينتقل إلى سيارة أخرى في مكان آخر محدد، ولكن طائرات الأباتشي لم تمهله؛ إذ قذفه قتلة الأنبياء بصاروخين فارق على إثرهما الحياة؛ بعد أن ملأها جهادًا ودعوة إلى الله.
من أقواله الصلبة:
«أقول لكم: لو رحل الرنتيسي والزهار وهنية ونزار زيان وسعيد صيام والجميع، فوالله لن نزداد إلا لحمة وحبًا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد، وغدًا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله، لذلك فيغزل على غير هذا الغزل شارون والصهاينة والمتربصون، ومسيرتنا متواصلة، ودربنا صعب، ولكنه الدرب الوحيد الذي يصل بنا إلى ما نصبو إليه، ولذلك لا ضعف ولا استكانة ولا هوان على الإطلاق».
ماذا قال شارون بعد استشهاده؟
«إن «إسرائيل» تخلصت من أحد أخطر أعداء الشعب اليهودي، وأكثر الفلسطينيين تحمسًا لإزالة «إسرائيل»، إن تصفيته ضرورة تقتضيها مصالح «الإسرائيل» الأمنية والإستراتيجية والسياسية».
وبعد.. يا رعشة العنفوان التي تأبى أن تنطفئ..
أسد الأقصى:
كلا
لن يغمض عينيه القتلة
كلا
وبرب الكعبة والمروة سيظل النسر يحلق في غزة
خسئوا
وسیبقی المجد..
يعشعش في عينيه الباسلتين
ليفرخ أحلامًا فوق العادة
يا قنديل العتمة
ما دامت زرقة هذا البحر...
لم ترحل عن وجه الماء اللجي
ما دامت أشجار الكرمة
تتدلي.. تحلم..
فوق عرائش في الضفة
ما دام الفجر.
يحب تسابيح السجدة
لن نرضى «أحلام» القردة
سنقاتلهم
وسنحفر ترب مقابرهم
بأظافرنا
سنقاتلهم
إما نصر بدري
أو جنة خلد وشهادة.