; السر المفقود (قصة قصيرة) | مجلة المجتمع

العنوان السر المفقود (قصة قصيرة)

الكاتب محمد الخماش

تاريخ النشر الثلاثاء 16-مارس-1971

مشاهدات 11

نشر في العدد 51

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 16-مارس-1971

«كانت لشباب الدعوة الإسلامية، تجربة في حرب ١٩٤٨م وكانت لهم تجربة أيضًا في حرب القنال ١٩٥١م، وفي العمل الفدائي بعد حرب حزيران ۱٩٦٧م.. فإلى هؤلاء الشباب أهدي هذه القصة... لأنها لم تكن إلا من وحي بطولاتهم وتضحياتهم»:

 

مضت السيارة في طريقها، وكنا لا نسمع إلا هدير محركاتها، وصوت العجلات وهي تطوي بنا الأرض بسرعة جنونية.. وقلبت وجهي فيمن أمامي.. هذا الصحفي الألماني الذي جمعتنا به هذه الرحلة.. والملازم الصامت.. وفدائي آخر هو سائق السيارة وتركز بصري وفكري على الصديق الألماني أنظر إليه.. كان طويل الشعر يقلد أولئك الذين يسمونهم « البيتلز » طويل الذقن، يرتدي ملابس خلقة، ويعلق على صدره صورة «لجيفارا»، ويتقلد آلة للتصوير وبجانبه حقيبة صغيرة يبدو أن فيها بعض الكتب و الأوراق.. وجال بخاطري أن أسأله:

- أللسياحة أتيت أيها الصديق؟؟
- لهذا وذاك.
- كيف؟!
- في الحقيقة لقد سمعت عن نضالكم وأردت أن أحضر بنفسي، وأكتب إلى الناس في ألمانيا الشرقية عن هذا النضال.

- هذا جهد تشكر عليه.
- يا صديقي غايتنا واحدة.. أنتم تحاربون الاستعمار المتمثل في الطبقة الحاكمة في إسرائيل.. ونحن..

 وقبل أن يكمل عبارته تدخلت:
- نحن لا نحارب طبقة معينة.. إنما نريد إزالة الداء من أصله.
- تعني إزالة إسرائيل؟
- بالضبط .
- لكن ما دخل الأبرياء.. أعني طبقات الشعب العاملة هناك؟
و هنا خرج الملازم عن صمته وقال:
- المهم.. إسرائيل ككيان سياسي واقتصادي؛ نرفضها..

- وما هو مصير اليهود كشعب في حال انتصاركم؟
- كما كانوا من قبل على مدى التاريخ.. مواطنين عاديين .
بدت الدهشة على وجه صديقنا الصحفي.. وصمت قليلًا وهو حائر يريد أن يفصح عن أشياء كثيرة تدور في ذهنه فقال:
- لكن هناك عددًا لا بأس به ممن يقاتلون إسرائيل لا يؤمنون بهذا الذي تقولان؟! فقلت:
هؤلاء يا صديقي لا يقاتلون من أجل فلسطين.. بل لمبادئ دخيلة يريدون فرضها في المنطقة وبقوة البندقية.

 فقال بامتعاض حين سمع «المبادئ الدخيلة»:
- ولكن إن لم يحمل المقاتل فكرًا يقاتل من أجله، فأعتقد أن له حدًا سيقف عنده و لن يتجاوزه.
 - وأنا معك.. فنحن هنا نقاتل من أجل مبدأ.. لكن ليس دخيلًا.. بل من أجله قاتلنا على مدى تاريخنا الطويل.
وهنا انحرفت بنا السيارة عن الطريق العام إلى طريق فرعي يتجه إلى الغرب تمامًا، فترامى أمامنا طريق ترابي يتلوى بين وهاد -ترتفع حينًا وتنخفض حينًا آخر- وعلى جانبي الطريق كانت تنبت بعض الأكواخ و البيوت الطينية القديمة.. وتهيم بعض قطعان الأغنام.. ومن بعيد راحت تبدو لنا بين الفينة والأخرى بعض معسكرات للجيش.. وأخرى للفدائيين تتمركز بين الهضاب..  وأخذنا نشعر بأننا نقترب من منطقة الخطر.. وهنا تساءل الصحفي:

-        ترى كم بقي من الوقت..؟؟

فأجابه الملازم:

-        نصف ساعة فقط.

فأخرج الصحفي علبة سجائر من حقيبته، ووضع واحدة في فمه، وناولني أخرى وكذلك عرض على الملازم والسائق.. وبعد فترة صمت قليلة سألني قائلًا:

-         هل أنت فدائي..؟؟

-        لا.

-        إذن ماذا تعمل..؟؟

-        أنا صحفي مثلك.. أود أن أعيش الأحداث كما هي.. وأكتب عنها كما أراها وهنا قال بشيء من المجاملة:

-        لقد بدأتم تصنعون لكم تاريخًا.

-        بل بدأنا يا صديقي نعيد تاريخنا..

فنحن أبناء من دكت سنابك خيلهم أرض العالم.

فضحك حين سمع ذلك، وقال بشيء من السخرية:

ذلك زمن مضى.. فليست أمة تلك التي تنسلخ عن جذورها.

فتمتم قائلًا:

-        العالم مجموعة متناقضات غريبة.. فتدخل الملازم الذي كان ينصت لحديثنا باهتمام فقال معقبًا:

-        ولا معنى لنا إن لم نعرف لماذا نعيش في هذا العالم.

وهنا انعطفت بنا السيارة إلى واد مليء بالأشجار، فتهادت بنا ببطء إلى أن وصلنا القاعدة والشمس تكاد تخفتي خلف الوادي تمامًا.. فتحلق الرجال حولنا وصافحونا مرحبين.. وتركت بصري يجول لحظة، و بوجد وانفعال بين هؤلاء الرجال الذين يصنعون المجد، ويستيقظ العالم كل صباح على أنباء بطولاتهم.. فتلك حفر كثيرة تناثرت هنا وهناك تحتضن مضادات للطائرات، وأولئك نفر من الرجال وقد انتشروا حول القاعدة يتمنطقون بأسلحتهم.. وذاك يجلس يقرأ في مصحف صغير بيده.. وآخر يحمل إبريقًا يريد أن يتوضأ، فهتفت في نفسي « حقًا إن الروح إذا سمت تعانق المعجزات».. ولم نجلس إلا بعض الوقت حين انطلق صوت شاب صغير يردد بعذوبة أخاذة نداء الإيمان.. وتجلى صوته رائعًا بين الوهاد مع الغروب.. الله أكبر.. الله أكبر.. وسرحت.. اجتاحتني الذكريات، فطوفت بخيالي مع النداء العظيم وتراءت لي جيوش الفتح في القادسية، مرورًا باليرموك وأجنادين حتى حطين.. وتدرجت مع التاريخ المشرق أقلب الصفحات واحدة بعد أخرى.. حتى أخدت تبدو قاتمة سوداء.. ومن ثم إلى الأمل الذي لاح فجره يشرق من جديد.. وتنبهت إلى المؤذن يقيم الصلاة.. إنه منظر إيماني رائع هذا الذي أراه، فقد اصطف الرجال بين يدي الواهب لكل قوة.. يؤدون فريضة عليهم، لينالوا بذلك وعدًا منه.. فقمت إلى الصف وأنا أردد:

-        هم وحدهم هؤلاء.. الذين يمكن أن يتنزل النصر بهم.

كان الرجال الطيبون يبدون في حركة غريبة بعد انتهاء صلاة المغرب مباشرة وقد اتشحوا العزم، ولبسوا الصراحة.. فلا بد من أمر هام.. فقد كنت أجلس وصاحبي الصحفي حين جاءنا الملازم ببعض «الساندويشات»، وهو يقول:

- بعد فترة العشاء، تهيأوا للذهاب.. فكان نبأ مفرحًا لي، إذ إن هذه المرة الأولى التي سأشاهد عملية بنفسي.. وهكذا وبعد دقائق معدودات.. وجدنا أنفسنا في السيارة مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان عددنا يزيد على العشرة رجال، وتبعتنا سيارتان كل واحدة فيها نفس العدد تقريبًا أو يزيد.. كانت الوجوه صامتة، مغلقة، وكانت البنادق والأسلحة المختلفة تنم عن عملية ضخمة هذه الليلة.. وراحت الدقائق تمر بثقلها على أرواحنا بحدة.. وكل واحد منا يتلهف للحظة الحاسمة.. وكنت أجلس بجانب صاحبي الألماني، والملازم يقابلنا ومضت لحظات ما أصعبها على النفس حتى وصلنا إلى منطقة طلب إلينا الترجل بحذر.. وسار الجميع بين الشعاب بعد أن خلفنا السيارات وراءنا، وسرت وصاحبي خلف الأشباح التي تتقدم بحذر.. وكان القمر يطل من خلق السحب الصيفية الموشحة بالبياض فيبدو الرجال تحته يتسلقون الهضاب وينطلقون بين الشعاب .. يا له من منظر مهيب! شباب متحفز.. وبنادق وصواريخ.. ومن خلال الصمت وهدوء الكون كنت لا أسمع إلا تسبيحات ترددها الأفواه الطبية فتعطى صوتًا كزقزقة الطيور وهي تغادر وكناتها مع الفجر ، تتخلله خشخشة الذخيرة في حقائب علقت على المناكب الصلبة، وصوت أقدامنا ونحن نواصل المسير.

وتواصل الحديث همسًا تحت أضواء القمر بيني وبين صاحبي .. إلى أن توقفت المسيرة فجأة.. واذا بآمر العملية يتحدث إلينا جميعًا بعد أن تجمعنا حوله وقد كنا حوالي ثلاثين رجلًا- إن لم تخنى دقة الملاحظة- وقال لنا: -

-        نحن الآن لا نبعد إلا مئتي متر فقط من نهر اليرموك.

وهنا يجب أن تفترق المجموعات كل إلى هدفها.. مجموعات الاقتحام على حدة.. ومجموعات الـ... ومضى يعدد أسماء المجموعات ويحدد لكل واحدة دربها وخطتها.

ولم يفلح صاحبي أن يخفى الوجوم الذي انتابه حين رأى الرجال وقد قاموا قبل أن يتفرقوا بحركة سريعة .. فقد انقسموا إلى فئتين .. فئة تضع العتاد ويصطفون خلف واحد منهم للصلاة.. والآخرون وقفوا مبتعدين قليلًا يحمون ظهورهم بالرشاشات خوفًا من أي مفاجأة.. فراح يتمتم: -

-        حتى هنا؟!

-        إنهم دومًا مع الله أيها الصديق ولذلك فلا بد أن يكون الله معهم.

-        لا أدري هل أنا في عصر ألف وليلة أم في القرن العشرين؟

-        بكل تأكيد فأنت في القرن العشرين وبعد أن انتهوا من الصلاة توجهت إلى الملازم أسأله:

-        أین سيكون مكاننا نحن؟

-        ستقفان على هضبة قريبة خلف النهر فتشاهدان كل ما يحدث وتسمعان بوضوح.. وسأكون معكما.

-        هل هذه المنطقة في حدود عربية.

-        نعم.. وسيكون الهدف قرية الحمة.

-        على بركة الله..

بعد ساعة ونصف تقريبًا من الانتظار والترقب شاهدنا بوضوح كيف يتحول الليل إلى نهار، والصمت إلى ضجيج هائل فقد كان ثمة عرس تلك اللحظات يقيمه الثوار، فراح الرصاص يزغرد وصواريخهم تغنى.. أما الراقصون فقد كانوا جنود العدو الذين فوجئوا بهذا العمل الأول من نوعه.. وأخذ الملازم يشرح لنا كيف يتم الآن تنفيذ العملية، ولكن فجأة رأينا الرصاص ينهمر من مناطق مقابلة، والمدفعية الثقيلة من الهضاب المحيطة تضرب وبعنف على المنطقة التي تمركز فيها الثوار وأخذت ترد عليها نيران كثيفة أيضًا من جهـات مختلفة من خلف ثوارنا فقال الملازم:

هذه كمائن العدو الخلفية تنبهت للهجوم.. وها هي مجموعات الحماية من رجالنا ترد عليهم من الهضاب المقابلة قلت في نفسي: ما أحظاني هذه الليلة ليت العالم كله الآن يقف هنا ينظر معنا وقد كان الصراخ على أشده داخل القرية وكان الضرب من الجانبين كأعنف ما يكون وطالت الساعات.. تارة ينتهي الضرب وتارة يشتد بعنف.. وأخيرًا سكت من جانب الثوار.. ومضت مدة حتى جاءت أول طلائعهم فركضنا إليهم نسأل:

-        خيرًا إن شاء الله.

-        كل خير.. استشهد منا أربعة رجال.

فهتف الملازم:

-        لهم الرحمة والخلود.. ولكن العملية

-        تمت بنجاح والحمد لله.. وقد أصر بعض الرجال على أن يرفعوا العلم العربي على مخفر القرية.. وبعد مدة وجيزة تجمع الرجال كلهم وقد حملوا معهم جثث إخوانهم الشهداء.. وبدأنا في العودة إلى المراكز.

وبتنا تلك الليلة بينهم نحلم أحلاما شتى وفي الصباح ودعنا الملازم الشاب وشد على يد الألماني وتعلو وجهه ابتسامة ذات معنى وهو يقول له:

لا تنس يا صديقي أن تكتب في صحيفتك بأننا نجيد صناعة الثورة دون أن نتعلمها من الكتب الحمراء...!

 لكن الصحفي رد بانفعال واضح:

دعني أقول لك بصراحة.. لقد وجدت فيكم سرًا يفتقد إليه أي مقاتل في العالم.

 

 محمد الخماش

عمان- الأردن

كلية الآداب- الجامعة الأردنية

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

استراحة المجتمع (1220)

نشر في العدد 1220

10

الثلاثاء 08-أكتوبر-1996