العنوان العربية قَدَرُنا
الكاتب عبد الوارث مبروك سعيد
تاريخ النشر السبت 05-مايو-2001
مشاهدات 17
نشر في العدد 1449
نشر في الصفحة 48
السبت 05-مايو-2001
- الادعاء بصعوبة العربية وعدم صلاحيتها للعلوم الحديثة جزء من الغارة التي يشنها الأعداء ضدها لأنها المفتاح الوحيد لكتاب الله.
- لها خصائصها الذاتية الناشئة عن اصطفاء وتهذيب محكمين تلمح وراءهما يد القدرة إعدادًا للمهمة الكبرى.
- لنفطم أنفسنا وأبناءنا عن عادة التبعية والتقليد الشائن لأعدائنا من خلال الرطانة بلغاتهم بسبب وبغير سبب.
- عقدة «الخواجة» حالة مرضية معروفة في العلاقات بين الأمم.. وأجدر بأهل حضارة الإسلام أن يترفعوا عن الاستسلام لهذا الداء.
كرست مجلة للمجتمع نفسها للعناية بقضايا الأمة وهمومها، ولفت أنظار أبنائها إلى جوانب الخلل في مقومات حياتها، ومن تلك القضايا والهموم -التي تناولتها في بعض أعدادها السابقة- اللغة العربية لغة القرآن الكريم ووعاء التراث الإسلامي العريض، وما آل إليه حالها من الضعف والإهمال الأمر الذي أسهم في تكريس تخلفنا وتبعيتنا لأعداء ديننا وأمتنا وحضارتنا.
ومع الجهد المشكور لـ المجتمع في هذا الصدد، فإن القضية، وهي قضية حياة أو مصير، تستحق أن يستمر التذكير بها من حين لآخر، خاصة أن رد الفعل من جانب الأمة -مؤسسات وأفرادًا- لا يزال ضعيفًا أو شبه معدوم، والشكوى من وضع العربية المؤلم على ألسنة المخلصين الغيورين.
وفي هذه الصفحات نداء إلى كل عربي وإلى كل مسلم في قلبه ذرة من إيمان بربه ونخوة وغيرة على دينه وأمته أن يتحرك لنصرة لغة القرآن التي تلقى حربًا مستمرة، لا من أعدائها فقط، بل -ويا للأسف- من أبنائها.
نعمة ومزية:
ما اللغة؟ إنها نعمة جليلة ومزية عظيمة اختص الله سبحانه وتعالى بها الإنسان وميزه وهي نظام عجيب، سهل ومعقد في آن، وهي للإنسان أداة البيان: ﴿الرَّحْمَٰن عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-4)
بل أسمى من ذلك...
واللغة العربية ذات موقع متميز بين لغات البشر، فرغم أنها اللغة السادسة من بين ١٦٠ لغة من اللغات الأم في العالم، وفقًا لأحدث دراسة أجرتها منظمة «اليونسكو» ونشرت نتائجها.. مؤخرًا «الأهرام 25/ 7/ 1997م ص 1»، فإن منزلتها الحقيقية، أعلى من ذلك بكثير، سواء من حيث خصائصها وإمكاناتها اللغوية والتعبيرية، أو تاريخها، أو دورها الحضاري، أو تعلق مئات الملايين بها انطلاقًا من دوافع أعمق وأسمى مما حظيت -أو تحظى به- أي لغة أخرى، حتى الإنجليزية التي حازت الموقع الأول من حيث عدد المتحدثين بها.
وهذا الموقع المتميز للعربية ناشئ من ارتباطها الأبدي بالقرآن الكريم حيث شاء الله سبحانه وتعالى أن ينزل بها كتابه الخالد، وأن يجعل من بيانه اللغوي أول وأعظم معالم الإعجاز الذي تحدى به الإنس والجن على مدى الدهر، كما شاء سبحانه أن تكون هي لغة وحيه الثاني -السنة النبوية- التي تربعت على قمة السمو اللغوي البشري وإن لم تصل إلى حد الإعجاز.
كذلك فإن العربية، بفضل خصائصها الذاتية الفذة الناشئة عن اصطفاء وتهذيب محكمين تلمح وراءهما يد القدر الأعلى إعدادًا للمهمة الكبرى المشار إليها آنفًا، قد أثبتت كفاءتها ولم تخذل أهلها، إذ تمكنت باقتدار من التعبير عن سائر علوم الحضارة الإنسانية وفنونها في شتى المجالات ومن مختلف المصادر. وقد ألمح إلى ذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة «اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها» «نشرت ۱۹۰۳ بقوله:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً *** وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
من هنا تعلقت بالعربية شعوب الأمة الإسلامية دينيًا وحضاريًا، واتخذوها أداة تعليم وتعلم وإبداع، وغذوا من طاقاتها لغاتهم المحلية «القومية»، وجعلوا من ألفبائها القديرة أداة لتسجيل تلك اللغات طيلة القرون التي سبقت الغزوة الأوروبية الصليبية الحاقدة التي حاربت العربية وألفباءها بكل سبيل حتى نجحت -جزئيًا ولأمد- في إقصائها عن دورها الحضاري.
الأمس واليوم...
ولن تقوم للعرب أولًا وللمسلمين ثانيًا حضارة متميزة وأصيلة في هذا العصر ما لم يعودوا إلى لغة التنزيل حبًا واعتزازًا، ودرسًا واستيعابًا، وممارسة وإبداعًا في شتى مجالات الحركة والنشاط في حياتهم. ولننادهم بأبيات حافظ إبراهيم على لسان العربية:
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ *** فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني *** وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني *** أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَربِ عِزّاً وَمَنعَةً *** وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
ولا سبيل إلى إحياء كتاب الله في نفوسنا وحياتنا -وهو النور المبين وروح الحياة والأحياء حقًا- إلا بإحياء هذه اللغة الشريفة في نفس الكبير والصغير، وإعادتها إلى مكانتها الطبيعية في واقعنا، ومقاومة كل مخططات التغريب والتخريب العالمية والمحلية التي تهون من شأن العربية ودورها، وتعلي من شأن العاميات واللغات الأجنبية في مؤسسات التعليم ومناشط الحياة.
وإذا فرط بعض من في أيديهم مقاليد الأمور، فعلى الجماهير، صاحبة المصلحة العليا في تحقيق الصلاح ومنع الفساد أن تقوم بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «وهدم مقومات الأمة في أي مجال من أعظم المنكر». وليكن لشعوبنا المسلمة أسوة في سلفهم الصالح الذين بذلوا جهودًا جبارة في خدمة العربية، حماية لها مما يتهددها، وتيسيرًا لطريق تعلمها أمام جميع الراغبين في ذلك من المسلمين وغيرهم من أهلها ومن غير أهلها وأولئك السلف العظيم هم الذين أشار إليهم حافظ إبراهيم بقوله:
سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً *** يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ *** لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
وَفاخَرتُ أَهلَ الغَربِ وَالشَرقُ مُطرِقٌ *** حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ
فهل نكون خير خلف لخير سلف؟!
وإن فرية صعوبة العربية وتعقيدها، أو عدم صلاحيتها للعلوم الحديثة، لهي جزء من الغارة التي شنها الأعداء على هذه اللغة، ولا يزالون، لأن العربية هي مفتاح العرب والمسلمين الوحيد إلى كتاب الله وسنة رسوله وتراث الحضارة الإسلامية العربية الخصب. إنها في -الحق- قضية البيئة والظروف وأدوات التعليم وأساليبه والجو الفكري والوعي الحضاري السائد في المجتمع. أما اللغة -ذاتها- أي لغة- فهي ملكة يستطيع الجميع التمكن منها دونما صعوبات تذكر، إن تهيأت لهم الظروف الملائمة، ألا يتعلم أولادنا -في سنوات عمرهم الأولى- عامية مجتمعهم، وهي صورة معدلة من العربية الفصحى، يتلقونها عن بيئتهم في يسر؟ ولو أننا مكناهم، ولو لبعض الوقت من التعرض للفصحى والتعامل بها، ووفرنا لهم ما يعينهم على تشربها -سماعًا وقراءة- لانطلقت بها ألسنتهم في سهولة، ولما استشعروا تلك الصعوبة المفتعلة والتجربة العملية خير برهان.
تجربة باسل..
شهدت الكويت في الثمانينيات تجربة أستاذ فلسطيني في جامعة الكويت، كلية التربية، اسمه د. عبد الله الدنان، لقد قرر القيام بتجربة لغوية مع ابنه «باسل» فحافظ على التخاطب معه منذ ولادته بالعربية الفصحى المعربة، وترك لأمه أن تخاطبه بالعامية الفلسطينية، وبعد نحو ست سنوات صار الطفل مزدوج اللغة يتواصل مع والده بالفصحى المعربة كما تلقاها منه، ومع أمه بالعامية الفلسطينية، ويقوم تلقائيًا عند نقل رسالة من أحد والديه إلى الآخر بالترجمة من الفصحى إلى اللهجة أو العكس دون أي صعوبة، وشجع نجاح التجربة هذا الأستاذ أن يخوض تجربة إنشاء روضة أطفال يكون التخاطب فيها على جميع المستويات بالعربية الفصحى، لكن ظروفًا أليمة لفت المنطقة والتجربة فلم يتح للتجربة أن تصل إلى مداها، ثم انقطعت أخبارها.
وظاهرة الازدواجية أو الثنائية اللغوية عند الأطفال ظاهرة مألوفة في كثير من دول العالم التي تتعايش فيها جاليات مختلفة اللغات فينشأ أطفال الأبوين المختلفي اللغة وهم يتحدثون اللغتين بكفاءة واحدة تقريبًا.
كيف الطريق؟
لنبدأ بأنفسنا فنصمم على تصحيح الوضع الخاطئ في خطوات جادة ومتكاملة على النحو التالي:
- لنستشعر بصدق مكانة هذه اللغة وأهميتها البالغة في حياتنا نحن الأمة العربية الإسلامية خاصة، وفي حياة البشرية عامة من حيث إنها لغة الهدي الإلهي الذي لن تستقيم للبشرية حال بدونه ولا بد لها أن تبحث عنه إن عاجلًا أو آجلًا، أليس مخجلًا أن أغلبية العرب المسلمين -ولا أستثني المثقفين من ذلك- يظلون عقودًا يقرأون القرآن الكريم بلغتهم وهم لا يحسون بمعانيه ولا يعون أساسيات نظامه اللغوي، دع جانبًا أن يتذوقوا بيانه وإعجازه؟
إن تحقيق هذا الشعور يتطلب أن نقرأ بعض الدراسات عن دور اللغة في المجتمعات والحضارات قديمًا وحديثًا وكم صدع القوميون رؤوسنا زمن المد القومي فيما قبل النكسة بالحديث عن اللغة والقومية، ولكن كان توجههم عنصريًا ولهذا أكثروا من الاستشهاد بفلاسفة العنصرية الآرية من الألمان في هذا الموضوع. ولهذا أخفقوا في مهمتهم كلها باعتراف الجميع ومنها المهمة اللغوية ونحن نريد أن نربط اللغة العربية بمهمة إنسانية عالمية ذات رسالة حقيقية نربطها بالوحي الإلهي الذي نحن حملة أمانته والذي لا مفر للبشرية إن عاجلًا أو آجلًا من اللجوء إليه لإصلاح حالها التي لا صلاح لها إلا به.
- لنستعد الاعتزاز بلغتنا ولنرسخه في قلوبنا كما تفعل كل شعوب الأرض و أجدني -رغم المرارة- مضطرًا إلى سوق هذا المثل عن اليهود الذين أحيوا العبرية بعد موات ألفي عام استعدادًا لإقامة دولتهم الغاصبة المزروعة في قلب الأمة العربية، وصارت العبرية اليوم لغة العلم والتعلم، واستعانوا بلغتنا العربية، بل نهبوا معجمها الغني لسد فقر معجم لغتهم ولا نزال نحن العرب نخجل من التحدث بلغتنا، ونعلم أولادنا في الجامعات بلغة أجنبية «إنجليزية أو فرنسية حسب لغة المستعمر لبلادنا سابقًا» ولا يزال بعض المفتونين من أساتذة جامعاتنا يعارضون تعريب التعليم بحجج واهية زائفة.
من ضرورات الحياة...
لنعتبر تعلم العربية -أو استعادة تمكننا منها- إحدى ضرورات حياتنا.
ماذا سيكون حالنا لو أن قانونًا صدر غدًا يجعل إتقان العربية الفصحى -قراءة وكتابة وتحدثًا- شرطًا لازمًا للحصول على الوظائف أو للاستمرار أو الترقي فيها أو لالتحاق أولادنا بالجامعات «تمامًا كما تفعله الشركات والجامعات الأجنبية في بلادنا، بل وبعض المؤسسات الوطنية للأسف من اشتراط إتقان اللغة الإنجليزية في هذه المهارات» إننا الآن نسارع إلى تعلم الإنجليزية، والنجاح في امتحان التوفل TOEFL، ونضحي في سبيل ذلك بالمال والوقت والجهد لنتأهل لتلك الوظيفة أو الدراسة، بل لقد طغت موجة المدارس الأجنبية وشبه الأجنبية «المسماة بمدارس اللغات» التي تجعل للإنجليزية السيادة اللغوية والغلبة على العربية انطلاقًا خاطئاً من فكرة خاطئة، أن إتقان لغة أجنبية أصبح من ضرورات الحياة المعاصرة، لا بأس لكن ليس أبدًا على حساب لغتنا وهويتنا وديننا. السؤال... لو صار إتقان العربية شرطًا لازمًا لهاتيك المصالح الدنيوية ألن تسارع إلى تعلمها؟ ألن تفتح المعاهد والمراكز لتعليمها ومنح الشهادات فيها؟ سبحان الله ألا نتحرك إلا من أجل ماديات الدنيا وحدها؟ أليس أكرم وأعز لنا أن نتحرك إرضاء لربنا وحفاظًا على كرامتنا وعزتنا الحقيقية وهويتنا الإسلامية؟
- ما دام الأمر كذلك، فلنقبل على دراسة العربية بعزيمة صادقة، ولنهيئ لأنفسنا الجو الملائم والمساعد على تحقيق هذا الهدف الجليل، وذلك بمثل الخطوات التالية:
- توفير بعض الكتب الجيدة والسهلة في مجال التعريف بطبيعة العربية وخصائصها، وفي مجال تعليم أنظمتها ومهاراتها المختلفة.
- وضع خطة واضحة متدرجة ومستمرة لهذه الدراسة. ويا حبذا لو كان لكل فرد في البيت -كبيرًا أو صغيرًا- خطة مناسبة لحاله ومستواه.
- لنكثر من قراءة النصوص العربية الجيدة، المشكلة تشكيلًا كاملًا «تعويدًا على القراءة الصحيحة ووقاية من الوقوع في عادات لغوية خاطئة». ويأتي في مقدمة هذه النصوص القرآن الكريم، ثم السنة النبوية «رياض الصالحين مثلًا»، ثم الشعر العربي قديمه وحديثه «الطبعات المشكلة من دواوينه ومجموعاته».
- لنتعمد أن تكون القراءة جهرية، ولنقصد فيها إلى تذوق المعنى والجمال اللغوي، مع التركيز «ولو في بعض الجمل أو الفقرات كل يوم» على تبين بناء الجمل والتعرف على مكوناتها، وأسباب الظواهر اللغوية -من إعراب وغيره- فيها، وإدراك للعلاقات التي تربط بين مكوناتها.
هـ- لنستمع إلى بعض المسجلات -من خطب وأحاديث ومسلسلات إذاعية أو تلفازية- ذات لغة فصيحة سليمة وراقية وليكن استماعنا أيضًا بقصد التذوق وتعريض آذاننا وعقولنا للغة الصحيحة المنطوقة، مع محاولة مستمرة لتحسس الظواهر اللغوية فيما نسمع. وهذه هي أفضل وسائل التمكن من اللغات وتربية السليقة اللغوية، وهي الطريقة الطبيعية في كل المجتمعات لاكتساب اللغات القومية «أو اللغات الأم». وهي ما نعتمد عليه في اكتساب العامية في صغرنا.
و- لنأخذ أنفسنا وأولادنا ببرنامج جاد لحفظ ما نستطيع من النصوص العربية الراقية: من القرآن الكريم والسنة النبوية والشعر والنثر العربيين «ولنستخدم لنجاحه بعض وسائل الحفز والتشويق من تنافس وجوائز مادية ومعنوية» فكلما ازداد رصيدك من المحفوظ الراقي ترسخت في عقلك أنظمة اللغة وأساليبها الصحيحة ونمت لديك السليقة اللغوية تلقائيًا بشكل تدريجي فتصبح تحس بسهولة ومتعة أكبر في ممارسة القراءة بهذه اللغة والتحدث أو الكتابة بها. وكم من شعراء وكتاب مجيدين لم يدرسوا كثيرًا كتب القواعد، وإنما اكتسبوا مهاراتهم اللغوية والأدبية عن طريق الإكثار من التعايش مع نصوص اللغة العليا قراءة وحفظًا، ثم مارسوا الأداء وتمرسوا به وصبروا عليه حتى صاروا أعلامًا في أدب اللغة. كفانا هدرًا لأوقاتنا وأوقات أبنائنا في الاستماع إلى نصوص تافهة سقيمة من أغان وتمثيليات ومسلسلات هابطة معنى ومبنى.
ز- لنجعل من التحدث بالفصحى -حتى وإن كنا نقع في بعض الأخطاء- عادة وتقليدًا اجتماعيًا وحضاريًا مألوفًا في حياتنا وبيوتنا «ولو لبعض الوقت كل يوم» ومع أصدقائنا وضيوفنا، خاصة إذا كان المتحدثون ممن أوتوا حظًا من التعليم ودراسة قواعد العربية ونصوصها في سني دراستهم السابقة. إن الصواب واليسر في استخدام اللغة الفصحى لا يتأتى -أبدًا- دفعة واحدة، وإنما ينمو عبر الممارسة والتنبه الدائمين، إضافة إلى ترسيخ الملكة والتمكن من أنظمة اللغة عبر وسائل التنمية الصحيحة المشار إليها آنفًا في الفقرات السابقة.
لا مبرر إطلاقًا للخجل من الوقوع في الأخطاء اللغوية، خاصة في مرحلة «الترميم» هذه العيب كل العيب أن نستمر على جهلنا بلغتنا والامتناع عن علاج هذا الجهل أ رأيت المريض الذي يرفض العلاج ويؤثر العيش مع المرض الذي قد ينتهي به إلى الموت؟ إن الموت الحضاري لهو من أشد ضروب الموت ولا ريب، وإن استخف به البعض.
- لنفطم أنفسنا وأبناءنا عن عادة التبعية الذليلة والتقليد الشائن لأعدائنا بالرطانة بلغاتهم -بسبب وبغير سبب- في التحايا أو في المناقشات العامة وحتى في قاعات الدرس. لقد كان سلفنا الصالح من المسلمين، وعلى رأسهم محمد -صلى الله عليه وسلم- يرون اللحن «الخطأ» في اللغة ضلالًا وعيبًا تشيب له الرؤوس، فما بالنا وما حكمنا وقد أهملنا لغتنا كلية لحساب اللغات الأجنبية أو الرطانات العامية أو الخليط الشائه منهما، أنظر ما يجري في مدرجات جامعاتنا في الكليات التي تزعم أنها تدرس بالإنجليزية، وإنما المستخدم فعلًا ليس سوى خليط لا هو بالعربي ولا بالإنجليزي ورحم الله حافظ إبراهيم الذي وصف ذلك بقوله:
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً *** مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسمَعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً *** فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ *** إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى *** لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً *** مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إن عقدة النقص -أو عقدة «الخواجة» كما تسمى- حالة مرضية معروفة في العلاقات بين الأمم، وأجدر بأهل حضارة الإسلام -الذين يستمدون عزتهم من رب العزة ومن دينه منهج العزة- أن يترفعوا بأنفسهم عن الاسترسال والاستسلام لهذا الداء الخبيث، لقد كان العالم المسلم الشهير، البيروني، يعتز بالعربية إلى حد إن يقول: «لأن أهجى بالعربية أحب إلى من أن أمدح بالفارسية». ولقد فرضت فرنسا منذ أعوام غرامة ۲۰۰۰ «ألفي» فرنك فرنسي على كل من يستخدم في وسائل الإعلام كلمة أجنبية «أنظر: كلمة واحدة» يوجد لها مقابل في الفرنسية. فإذا لم تسر فينا النخوة والغيرة على لغتنا على هذا النحو أو أقوى فعلى وجودنا السلام، كما قال شاعر النيل على لسان العربية:
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ *** بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى *** وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ *** مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
فهيا بنا نخطو خطوة نوعية تاريخية ترتفع بنا على مخططات الأعداء وتراكمات سني التخلف.
إننا بحاجة إلى مؤلفات شاملة تقدم أساسيات علوم اللغة العربية: أنظمتها وخصائصها -على مستويات الصحة والجمال والإبداع اللغوي- بأسلوب سهل ومركز وواضح كي تأخذ بأيدي من يريدون أن يسترجعوا ما سبق لهم أن درسوه من قواعد هذه اللغة، أو يستكملوا ما فاتهم منها، أو يستوضحوا معالم هذا النظام البديع الذي كانوا يدرسونه ممزقًا موزعًا على سنوات الدراسة، وغالبًا من أجل الامتحان فقط.
وإني لأرجو الله -عز وجل- أن يعينني على القيام بشيء نافع في هذا المجال يمكن أن يسهم -ولو بدفعة يسيرة- في تيسير السبيل نحو الاقتراب من لغة القرآن الكريم، والاهتمام بها، والتفاعل معها.
وكم يتمنى كل محب للعربية غيور عليها أن تتكاثر وتتنوع الكتب والدراسات التي تتناول قضايا هذه اللغة فتجلي معالمها وخصائصها، وتكشف عن جمالياتها، وتسهل الطريق إلى دراستها والتمكن منها، وذلك أسوة بما فعله أسلافنا زمن الصلاح من قبل، وكما يفعله اليوم أبناء اللغات الأخرى -إنجليزية، أو فرنسية، أو ألمانية، أو غيرها- حيث يجد كل راغب من كل سن وفئة ما يناسبه ويحقق له الغاية التي يتطلع إليها.
نحن نفتقد الكتب الموجهة إلى الجمهور العام وفئاته النوعية والعمرية المختلفة، والتي تركز على المهارات اللغوية أكثر من التركيز على الوصف النظري للغة.
وفقنا الله جميعًا إلى ما فيه خير لغتنا وأمتنا وديننا، إنه أكرم مسؤول، وأرجى مأمول، وهو على كل شيء قدير.
قضايا للتدبر والاطلاع والمتابعة:
- جهود علماء المسلمين العظيمة في العصور الأولى في مجال خدمة اللغة العربية انطلاقًا من حبهم وتعظيمهم للقرآن الكريم. ومن غيرتهم على لغته أن يتسرب إليها ما يشوه خصائصها، وتنفيذًا لوعد الله تعالى بحفظ كتابه.
- الصراع اللغوي في تاريخ البشرية، وأي اللغات سادت، وكيف سادت، وأيها بادت وكيف بادت.
- الصراع اللغوي في العصر الحديث، عصر الاستعمار الأوروبي، والحرب القائمة منذ زمن بين الإنجليزية «الأنجلوفونية» والفرنسية «الفرانكوفونية»، وكيف يغار أهل كل لغة عليها، وينفقون بسخاء على تحسين كتبها ومراكز تعليمها، وتهيئة كل ما يساعد على نشرها. وقارن ذلك بما نقدمه نحن العرب للغة الكتاب العزيز، اللغة الحبيبة إلى أكثر من مليار وربع المليار من المسلمين في كل بقاع الأرض.
- اللغات الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وجوانب تأثير العربية فيها من حيث الكتابة «الألفباء» والمفردات والقواعد أحيانًا.
- ظاهرة استشراء العاميات العربية في مجالات الأدب والفن ووسائل الإعلام، وعلى ألسنة المتحدثين من مسؤولين ومفكرين، ومن كان وراء هذه الظاهرة.
- ظاهرة الغزو اللغوي الأجنبي بدءًا من الأسماء الأجنبية للشركات والمحلات إلى المكاتبات والاتصالات في الدوائر الرسمية، خاصة قطاعات الشركات والمصارف إلى التعليم الجامعي، وما استتبعه ذلك من استشراء التواصل بلغة أجنبية حتى في الأمور العادية، بل في العديد من بيوت العرب المسلمين، وما جره ذلك من كثرة الأجانب غير المسلمين الذين يزاحمون أبناء العربية في تلك المواقع.
- المخططات المعادية للغة القرآن والتي وقف وراءها دهاقنة الاستشراق والاستعمار والتنصير الغربي، من أجل القضاء على هذه اللغة، وتكريه المسلمين والعرب فيها، وكيف شارك في هذه الجريمة بعض الأبناء العاقين لامتهم ولغتهم من المهزومين حضاريًا أمام بهرج الحضارة الغربية المادية الغاشمة، وكيف نجح هؤلاء وأولئك في تسديد ضربات قاتلة إلى لغتنا.
إذا لم تكن قد أتيحت لك الفرصة من قبل أن تتعرف على شيء من هذه القضايا، فلتسارع باستكمال هذا النقص بالاطلاع على بعض المراجع التالية، وأنت على نية أن تتدارك ما فات، وأن تزود من تستطيع من أبناء المسلمين -وفي مقدمتهم أهلك وأرحامك- بالرؤية الصحيحة إزاء هذه القضايا الحضارية الخطيرة، ليقوى في نفسك -أخي الفاضل- وفي نفوسهم حب هذه اللغة والاعتزاز بها. يمكنك عن طريق الاستعارة من المكتبات العامة أن تطلع على الكثير من المراجع المذكورة أدناه إن كان شراؤها سيقف عائقًا في طريق هذا المشروع الثقافي المهم.
المراجع:
- أباطيل وأسمار محمود محمد شاكر القاهرة ١٩٧٢م.
- نحو وعي لغوي د. مازن المبارك ۱۹۷۰م.
- الفصحى في مواجهة التحديات، نذير محمد مكتبي دار البشائر الإسلامية- لبنان، ۱۹۹۱م.
- الزحف على لغة القرآن أحمد عبد الغفور عطار- بيروت ١٩٦٦م.
- قضية التحول إلى الفصحى في العالم العربي الحديث د. نهاد الموسى عمان دار الفكر، ۱۹۸۷م.
- التعريب وتنسيقه في الوطن العربي محمد المنجي الصيادي بيروت، ۱۹۸۲م.
- اللسان العربي الهوية، الأزمة، المخرج- عبد الوارث سعيد مصر، ۱۹۹۲م.
- فقه اللغة العربية وخصائصها. د. إميل بديع يعقوب دار العلم للملايين ۱۹۹۸م.
ملاحق: كتب ومواد معينة على تعلم العربية الفصحى:
- كتب «للاختيار، ونرجو أن تكون سهلة»:
- النحو التعليمي د. محمود سليمان ياقوت مكتبة المنار الإسلامية الكويت ١٩٩٦م.
- النحو الأساسي د. أحمد مختار وآخرين.
- ملخص قواعد اللغة العربية فؤاد نعمة.
- النحو الواضح علي الجارم ومصطفى أمين.
- البلاغة الواضحة علي الجارم ومصطفى أمين.
ب- مسلسلات عربية إسلامية متلفزة ناطقة بالفصيحة:
ابن تيمية- العز بن عبد السلام- عبد الرحمن الغافقي- عمر المختار- هارون الرشيد- عمر بن عبد العزيز- القضاء في الإسلام.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
التراث الإسلامي وتأويله.. مقاصد واتجاهات.. مقومات وتحديات
نشر في العدد 2184
785
الأحد 01-أكتوبر-2023