العنوان العقل النصي
الكاتب منير شفيق
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 19
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 55
الثلاثاء 18-مايو-1999
يشدد عدد من الحداثيين على موضوعية نقدية موجهة ضد الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي تتهمه بالعقل النصي. وذلك لاعتماده النص الإسلامي مرجعية له، ويأتي الكلام على العقل النصي ضمن الإيحاء بأن العقل الحداثي غير نصي فهو في عرفهم عقل منفتح يعتمد المنهج العلمي في التعامل مع الظواهر ومختلف القضايا، وهنا تبرز المغالطة الأولى، فالعقل الذي يدعونه مليء بالنصوص على الرغم من أنوف الذين ينكرون ذلك. والسؤال: هل يمكن للعقل، أي عقل أن يتحرك ويفكر ويتعامل مع الوقائع والظواهر وهو خال من نص أو نصوص راسخة فيه، يعتمدها بالضرورة في عملية التفكير، وفي البحث، وعند الاستنتاج وطرح فكرة جديدة أو فكرة قديمة - جديدة؟ الجواب ببساطة ما من عقل يحمله إنسان عاقل إلا ويحمل جملة، لا حصر لها من المسلمات والموضوعات والمعلومات والنصوص وإلا ما استطاع أن يفكر أو يبحث أو يتعاطى مع ما حوله، ولما استطاع أن يبدع أو يتخطى أفكارًا يحملها، فلو كان صفحة بيضاء لكان بلا حراك، ولو كان ما يحمل من نصوص نصوصًا خاملة لا تؤثر فيه أو هو متحرر منها، ولا يستند إليها لكان إما عقلًا حاملًا، أو مشوشًا لا يستطيع أن ينتج غير فكر مشتت مشوش، ثم كيف كان من الممكن تعقل الكلام أو تبادل الآراء، أو التخاطب أو الحوار؟
ولهذا فإن تهمة العقل النصي ليست بتهمة إلا إذا قصد بها نص بعينه، وهذا النص هو المرفوض والمقصود بالنقد والإقصاء، وإذا كان الأمر كذلك فإن الكلام على العقل النصي هنا لا يشكل جملة مفيدة، لأنه يعني غير منطوقة أو هو نوع من الباطنية التي: لا يمكن وضعها في مستوى النقاش الحاد.
فإذا كان كل عقل يعقل ويفكر ويبحث ويتعاطى مع من، وما حوله هو بالضرورة عقل نصي، أي يحمل دائمًا مرجعية، أو مرجعيات، فالإشكال الذي يجب أن يتم التركيز عليه هو ما تلك المرجعية من النصوص؟ لأن هذا السؤال يضع الذين يستخدمون هذه التهمة في الزاوية إذ يوجب عليهم أن يكشفوا أوراقهم، أو يطالبهم بالكشف عن النصوص القبلية التي يستخدمونها، ولا يتركهم يقبعون كأنهم منتصرون حين يتهمون الإسلاميين بالعقل النصي. فعلى سبيل المثال عندما يندفع بعض دعاة الشذوذ الذي يسمونه العلاقات المثلية في الغرب لتسويغ هذه العلاقات إنما يختزنون في عقولهم نصوصًا وبدهيات معينة بعضها يعود إلى منطق أو نص استخدمه قوم لوط ضد النبي لوط عليه السلام، فإذا جاء الرد من متدين نصراني أو من مسلم، بحرمة ذلك، أو بإظهار الانحراف فيه، وبما يحمل من أضرار اجتماعية ونفسية وإنسانية فسوف يشار إلى هذا الرد باعتباره نصيًا يخرج من عقل نصي. وإذا ما تبنى أحدهم مقولة البقاء للأقوى والأغنى في العلاقات الدولية، وهو ما يتضمنه الدفاع عن العولمة في هذه الأيام أي فتح أسواق كل الدول للمنافسة ولو سيطر على العالم من خلال ذلك بضع عشرات من الشركات متعدية الجنسية العملاقة الديناصورية، وتعمقت الهوة بين الأغنياء والفقراء، والدول الصناعية المتقدمة والدول النامية، ونجمت عن ذلك عشرات أو مئات الملايين من الضحايا، فإنه يحمل عقلًا نصيًا بالضرورة، لكنه نص يعتمد الداروينية، وكل النصوص الوثنية التي تعتمد قانون الغاب في العلاقات فيما بين الشعوب والدول أو فيما بين البشر عامة.
أما المغالطة الثانية التي تسقط بالضرورة هنا فهي الافتراض أن العقل النصي الإسلامي لا يستطيع أن يتعاطى والعصر. أو القضايا الراهنة أو الواقع تعاطيًا حيًا مبدعًا، وذلك استنادًا إلى الفرضية التي تتضمنها التهمة، والتي تعتبر أن امتلاك العقل لمرجعية من نصوص، والمقصود هنا النص الإسلامي، يفترض بالضرورة الانسلاخ عن الواقع والحياة وتفهم المشكلات المستجدة ومعالجتها بما يناسبها، فكما لحظنا فيما تقدم أن ما من عقل إلا وله مرجعية من نصوص دون أن يمنعه ذلك من مواكبة الحياة ومشكلاتها وإيجاد الحلول المناسبة، فلماذا يستثني العقل الإسلامي من ذلك وهو استثناء تعسفي قام على أساس اعتبار العقل النصي تهمة في حد ذاتها؟ ولماذا لا يتكرم أولئك ليبينوا لنا كيف يحول النص الإسلامي دون مواكبة الحياة، وكل عصر جديد ويواجه المشكلات.. أي مشكلات أم أن هذه مسلمة لا تحتاج إلى برهان؟؟ لكن الجواب البسيط أن ما من أحد منهم يستطيع أن يناقش النص الإسلامي ليأتي بالبرهان على هذا الادعاء، بل إن هؤلاء يعلمون كم في جعبة أصحاب المرجعية الإسلامية، ومن خلال النص الإسلامي، من براهين تدحض هذه التهمة. وأخيرًا أفلا يعتبرون، وهم يشاهدون هذا التعدد الهائل في الاجتهادات والمشاريع، وألوان التعاطي مع المشكلات المعاصرة داخل الصف الذي يعتمد النص الإسلامي مرجعية له؟ ثم ألم يحن الوقت ليروا في النص الإسلامي حافزًا لتدبر سنن الله في الكون والإنسان والمجتمع وهي عملية متجددة دائمًا، والله تبارك وتعالى يقول ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل