; العلمانية العربية.. وهوية القدس (رؤية مقارنة) | مجلة المجتمع

العنوان العلمانية العربية.. وهوية القدس (رؤية مقارنة)

الكاتب د. مصطفى جمعة

تاريخ النشر الاثنين 01-يناير-2018

مشاهدات 14

نشر في العدد 2115

نشر في الصفحة 18

الاثنين 01-يناير-2018

 

تتأسس العلمانية على تنحية الدين عن الحياة، وجعله شأناً شخصياً اختيارياً، لا تنبع منه قيم أو مبادئ أو أفكار، ومن هنا يتم نزع الغطاء الديني عن السياسة، وتصبح القضايا السياسية صراعات يمكن حلها، أو التفاوض حولها.

هذا ما تروّجه العلمانية العربية في جوهر خطاباتها، حيث تصبح القضية الفلسطينية مجرد صراع على أراض يمكن توفيرها بشكل أو بآخر، مراعين حقوق الشعبين اليهودي والفلسطيني والنظر في إمكانية تعايشهم معاً، وهكذا تختزَلُ القضية عند العلمانيين العرب، ولا عزاء للمقدسات ولا التاريخ ولا الدماء.

وعلى الجانب الآخر، فإن جميع الأحزاب العلمانية -ناهيك عن الدينية- في الكيان الصهيوني بكل توجهاتها السياسية من اليمين إلى اليسار، تتأسس عقيدتها السياسة وقناعاتها من الفكر الصهيوني بأصوله التوراتية، غير متنازلة بأي حال عن كون القدس عاصمة لأرض الميعاد، بل هي عاصمة «إسرائيل الكبرى»، من النيل إلى الفرات، ومن ثمّ تصوغ خطابها السياسي مستخدمة السرديات التوراتية الممزوجة بطروحات الصهيونية، وكل هذا متوقع في دولة عبرية مؤسسة على الدين، جمعت خلائط من يهود شرقيين وغربيين (إشكناز وسفارديم)، من شتاتهم في الأرض(1)، رافعين جميعاً شعارات دينية واحدة.

فلا عجب أن يكون نظام التعليم المدني في الكيان الصهيوني مطبقاً للأيديولوجية الصهيونية الدينية، بجانب المدارس التوراتية، التي ترعاها الأحزاب الدينية اليهودية، فقد يجمع  الفصل الدراسي خمسة وثلاثين طالباً بلغات وسحنات مختلفة، يتعلمون باللغة العبرية التي أُعيد إحياؤها بعد  أربعة آلاف عام، لتكون اللغة الرسمية للكيان الصهيوني، ويتلقى الطالب بها -ومنذ نعومة أظفاره– سرديات العهد القديم ونصوصه بأن اليهود هم شعب الله المختار، ولا بد من تحقيق الحلم بإعادة بناء هيكل سليمان، على أنقاض المسجد الأقصى(2). 

عربية أم إسلامية؟

وفي المقابل، سقطت في الفخ العلمانية العربية بكل تياراتها الفكرية من اليمين إلى اليسار، وخلعت الهوية الدينية الإسلامية عن فلسطين والقدس، غير ناظرة للعواقب.

ولنبدأ بفكر القومية العربية، الذي لا تزال آثاره باقية إلى يومنا على الألسنة، عندما ينادون بأن “القدس عربية” فقط، فيتقدّم البعد القومي العربي على العقيدة الإسلامية التي تتأخر لتكون مجرد ثقافة تراثية، ويتغنون بأن القدس أرض عربية (3)، تشمل مقدسات إسلامية ومسيحية وأيضاً يهودية، ولكن السيادة يجب أن تكون عربية.

وهنا تكون الجرثومة الفكرية، بإخراج أكثر من مليار مسلم غير عربي من المعادلة، وحصرها في العرب فقط، علماً أن مفهوم العروبة اليوم ينبع من الفكر القومي المستقى من الدول القومية الأوروبية، خاصة طروحات النازية الألمانية، وتفوق الجنس الآري، فهي مرتبطة بما هو أرضي دنيوي، بعكس مفهوم العروبة في ثقافتنا العربية الإسلامية، الذي يجعل الإسلام سبباً في نهضة العرب، وفق ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نحن العرب، كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله”(4).

فالعروبة تعني تشريف الله اللغة العربية بإنزال القرآن بلسانها، واختصاص العرب بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وكونهم الرعيل الأول الذي نشر الدعوة والفتوحات في أرجاء العالم، وقد ارتحل الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس (إيلياء)، معطياً أهلها الأمان وفق نص العهدة العمرية، ولما شاهد “سخرنيوس”، بطريرك القدس، بساطة عمر وتواضعه وزهده قال: إن دولتكم باقية على الدهر لأن دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة”(5).

حرب دينية عنصرية

أما الأحزاب الماركسية العربية، فقد تأسست غالبيتها على أيدي أثرياء اليهود، مثل الأحزاب الشيوعية في مصر والمغرب ولبنان والعراق.. إلخ، فلا نستغرب مواقفهم من قضية فلسطين، ومعلوم أن الاتحاد السوفييتي هو الدولة الأولى في العالم التي أعلنت اعترافها بقيام «إسرائيل» عام 1947م، لقد رأى الشيوعيون العرب أن الصراع في فلسطين هو حرب دينية عنصرية؛ فنجد أن الحزب الشيوعي العراقي ينظم  مظاهرة في بغداد عام 1948م ضد تدخل الجيوش العربية في فلسطين، وتزعّم المظاهرة شيوعي عربي، وآخر يهودي، متشابكي الأيدي، رمزاً للصداقة والمحبة بين اليهود والعرب، بل إن الشيوعيين الفلسطينيين نظروا بإكبار إلى الشيوعيين اليهود في «إسرائيل»؛ لأنهم مناضلون لنشر الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وأنهم يواجهون اعتداء عربياً إمبريالياً على دولتهم الوليدة(6).

والمفارقة أن بقايا الشيوعيين العرب هم الذين تسابقوا -بعد عقود- للجلوس مع حركات اليسار “الإسرائيلي” في كوبنهاجن عام 1995م في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993م، ونادى زعيمهم علي سالم، الكاتب المسرحي المصري، بأهمية تحقيق السلام والتطبيع بين “إسرائيل” والعرب، وقام بنفسه بالسفر بسيارته الخاصة إلى الكيان الصهيوني، وسجّل ذلك في كتاب منشور بعنوان “رحلة إلى إسرائيل”.

الديمقراطية «الإسرائيلية»!

أما الليبراليون العرب، فقد أسسوا رؤيتهم على المدرسة الواقعية السياسية، التي تتعامل بميزان القوى على الأرض، الذي هو لصالح «إسرائيل» قطعاً، وأن الصراع ليس دينياً، وإنما هو عنف سياسي، يستلزم تسوية سياسية، ورأوا أن الأولوية نشر الديمقراطية، ورددوا مقولة «إسرائيل واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط»، وعلى العرب التطبيع معها، لأنها نموذج في الحريات والتقدم العلمي، واحتفوا بترجمة كتاب «شيمون بيريز» «الشرق الأوسط الجديد»، الذي نادى فيه بشرق أوسط جديد تقوده «إسرائيل» بوصفها معقل العلم والتكنولوجيا، في محيط عربي متخم بالثروات غير المستغلة، وحجّموا الصراع ليكون بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني فقط، ضمن مفاهيم الدولة القُطرية، وبذلك يخرج العرب ومن قبلهم المسلمون من لبّ الصراع، في حين يقف اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا مع الضمير المسيحي الغربي، بعدما أبطل بابا الفاتيكان «بنديكت السادس عشر» لعن اليهود في الصلوات المسيحية، وأبرأهم من دم المسيح عام 2012م، وبذلك يتوحّد الغرب العلماني دينياً مع اليهود في قضيتهم، بينما ينزع علمانيو العرب الدينَ عن القضية.

والأمر الأغرب هو تطرف ليبراليين آخرين؛ فهذا يوسف زيدان (مصر) يقول: إن المسجد الأقصى في الطائف وليس في القدس، وإن صلاح الدين الأيوبي هو «أحقر» شخصية في التاريخ لأنه قضى على آثار الفاطميين في مصر، طاعناً في محرر القدس العظيم من الصليبين، في موقعة حطين العام 583هـ!

في حين أعاد البعض منهم مقولات روّجها الصهاينة أنفسهم، بأن الفلسطينيين باعوا عقاراتهم في القدس بمحض اختيارهم إلى اليهود، الذين اشتروها بأضعاف أثمانها، متناغمين مع ما يسمى «صفقة القرن»، التي يروّجون لها الآن، التي ترى أن الصراع في فلسطين مجرد نزاع على أراض وعقارات، يمكن حله بتبادل الأراضي، فيأخذ اليهود المستوطنات وما حولها، ويأخذ الفلسطينيون أراضي من صحراء النقب، ويتم توطين اللاجئين في محل إقامتهم في دول العالم، ولا حديث عن القدس والأقصى وفلسطين التاريخية.

الرابط المختصر :