العنوان الغوص في بحر الواقع
الكاتب سمية رمضان
تاريخ النشر السبت 27-مارس-2010
مشاهدات 14
نشر في العدد 1895
نشر في الصفحة 56
السبت 27-مارس-2010
كانت الداعية وهي تلقي درسها ترنو إلى كل الوجوه الناظرة إليها بحب مصحوب بدفء المودة والرحمة، فقد حجبت مشاغل الحياة والدعوة عنها زيارتهم بما يزيد على عشر سنوات؛ لذا فقد أنهت درسها في وقت وجيز، لكنها أرادت أن تستمع إليهن فأصواتهن كانت تنزل على قلبها كالسلسبيل، وكان سؤالها الذي التف حوله الجميع بمشاركة إيجابية رائعة عندما قالت لي أكثر من عشر سنوات لم تكتحل فيها عيناي برؤياكن، وحمدًا لله ما زلنا على العهد مع الله، وأود أن أعلم ماذا فعلت تلك السنوات في تفاعلكن مع دعوة الله؟
بدأت كل حاضرة لهذا الدرس تستعرض بسرعة سنواتها تلك، وبدأن بالتحدث فقالت إحداهن: كانت لي جارة لها عدة سنوات متزوجة ولم تنجب، وذهبت إلى أصحاب الرأي من الأطباء، ولكن بلا جواب شاف، حتى أخذتها إلى إحدى الطبيبات الماهرات وبعد الكشف عليها طلبت منها أن ترضى بأمر الله، فإن رحمها بدأ في الضمور، وهناك استحالة من الناحية الطبية للحمل، ونزل علينا كلام الطبيبة كالصاعقة، وخرجنا وقد شملنا صمت القبور، ولكني استجمعت بعضًا من إيمانياتي وثقتي في قدرة الله التي ليس لها حدود، وطلبت منها أن تكثر من الاستغفار، بل انحدر من بين شفتي قول الله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارً ا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (نوح: 10، 11، 12).
استعيني بالله واسأليه فهو المجيب سبحانه، ومرت الشهور تلو الشهور، وهي على عهد الاستغفار في كل أحوالها وأوقاتها، حتى قالت لي مرة من المرات: إني أستغفر حتى وأنا نائمة، لقد شربت الاستغفار، وأصبح يسري في شراييني مع دمائي...
حثثتها على عدم اليأس وأن تستمر، والله صادق وعده، ولتكن أفعالها مصحوبة بطاعة المولى لا تحيد عن أوامره ولتسارع في الخيرات والعمل الصالح، وتدعوه رغبا ورهبا..
وفي يوم من الأيام جاءتني وهي حزينة مهمومة، وطلبت مني أن أبحث معها عن عروس صالحة لزوجها، انعقد لساني ونظرت لها بذهول، فأكملت: إن بطني بها ورم ظاهر من فترة ليست بالقصيرة، وهو يزداد، ولا أظنه إلا مرضًا خطيرًا، ولعل أيامي باتت معدودة وأريد أن أطمئن على هذا الرجل الذي أكن له كل الحب والمودة.. نظرت إلى بطنها: يا إلهي ما هذا؟ ارتديت ملابسي سريعا وذهبت معها إلى المستشفى وأنا أشعر بالأسى ويكاد قلبي ينفطر عليها، وطلب الطبيب إجراء سونار عاجل، وبالفعل كنت بجانبها مع والدتها، وسمعت الطبيب وهو يتحدث معها بكلام عجيب وغريب فكان يقول: هو الآن سبعة أشهر فبكت الأم على ابنتها التي تعاني من هذا الورم السبعة أشهر، ثم قال: ألم يذكر أحد لك من قبل أنه ولد. طبعا لم نفهم ماذا يقول هذا الطبيب، فاستوضحت منه مشفقة وهي على نفسها، فقال: سبحان الله! إنك حامل في الشهر السابع، وكيف لم تتابعي حملك من قبل، وكيف وكيف، وكيف؟
لم نكن نسمع ما يقول فقد كنا ثلاثتنا نشعر برهبة وقشعريرة من عظمة الخالق، خرج الطبيب فخرت أجسادنا لله ساجدة.
إن غوصنا في بحر الواقع يقربنا كثيرًا من خالقنا، فهو سبحانه لا ينسى ولا يغفل ويعطي بسخاء لمن أراد.
بعد ذلك تحدثت سيدة في العقد الثالث من عمرها، قالت: قبل التزامي كانت تعترضني الكثير من المشكلات من تصرفات زوجي التي أراها بمنظومتي وطبقا لاهتماماتي غير حكيمة، ولكني بعد أن فوضت أمري إلى ربي، وتوكلت عليه سلمت له قيادي وأنا مطمئنة سعيدة هانئة ولم تعد الأمور التافهة تؤثر في سلوكياتي، وأقرب شيء أن والدة زوجي كانت مريضة، فذهب بها إلى المستشفى وتحمل وحده كل مصاريف علاجها، بالرغم من وجود إخوة له آخرين.
في سلوكي المعتاد قبل ذلك كنت أقمت الدنيا ولم أقعدها، ولكن الغريب أني دعوت الله أن يشفي أم زوجي، وأوصيته بها، ولم أسأله: كم أنفقت من المال؟ ولماذا لما يشاركك إخوتك؟ ولماذا لا تفكر فيّ أو في أولادك؟ ولماذا تحرمنا... إلخ.
لقد وثقت في الله وانشغلت بطاعتي وقرآني وكم شعرت باحترامي لنفسي عندما مر كل شيء بسلام، وبالتأكيد شعرت بيقين أن نفسي قد حدث لها كثير من الرقي، وسألت زوجي: هل أصبحت طيبة القلب، أم هكذا كنت ولم أكتشف نفسي؟ أم أني بارعة في التمثيل وكل ما أفعله حاليا ليس من صميم قلبي؟! نظر زوجي إليّ برضا وقال: لا تشغلي نفسك بذلك، واجتهدي أن تسألي الله القبول.. وجهت وجهي لله واستغرقت في دعاء غمرني بالسكينة.
إن النفس البشرية لا تتغير بين عشية وضحاها، ولكنها تحتاج إلى لبنات من الإخلاص، وحب الله سبحانه، ويبدأ البناء بتؤدة، كل لبنة في موضعها حتى يندهش الإنسان نفسه من علو البناء، فيستمر في طلب معونة الله ومدده حتى يكتمل البناء.
وذكرت إحدى الأخوات فضل الله عليها أن عرفها على الإسلام تطبيقًا، وقد منّ عليها المولى أن استمعت إلى حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «إن الله يستحيي أن يرد دعوة... ».
وأخذها هذا المعنى، الله في ملكوته يستحيي من عبد يدعوه فيرد يديه خاليتين، وهي الأمَة الذليلة إلى الله ألا تستحيي أن تكون على معصية أو مقصرة في طاعة.
فأصبح الحياء من الله هو شعارها، والنبراس الذي ينير لها طريقها في دنياها القصيرة الفانية، فكانت تحذر من أن يراها على غير ما يحب سبحانه، وهذا الشعور هيأ لها أن تكون مخلصة صادقة أمام المولى سبحانه، وأن يكون عملها كقلبها، وأن تكون في السر كما هي في العلن، فكان عاقبة ذلك سكينة وطمأنينة تشكر الله عليها ليلا ونهارا، واستقرت أمورها وأحوالها، فكل شيء ترجعه إلى الله ورسوله، فما كان فيه الرضا كان العمل، وما فيه السخط كان الابتعاد، وأخضعت كل شيء في حياتها لذلك حتى برامج التلفزيون التي تشاهدها تغيرت خضوعًا لهذه القاعدة التي وضعتها في حياتها، وأصبحت أكثر صبرًا على أولادها. وسألت الله كثيرا أن يبدلها بنفس نقية لعله سبحانه يستجيب لها فتسجد وتهنأ فيما تبقى لها من عمر.
إن الغوص في بحر الواقع يكشف لنا عن أنفس صافية، نتعلم منها بشفافية، ونتلقى منها بسلاسة ما عجزت المواعظ والكتب عنه معنا.
وجاء دورها فاعتدلت في جلستها وقالت: إن الدعوة إلى الله كان لها عليّ المنة والفضل العظيم، «إن الرضا لمن رضي»، عبارة تمس الحياة بالفعل، وكنت أتأثر بها كثيرًا، حتى أني تعهدت وزوجي على الرضا من أول أيام زواجنا، وتوالت الأحداث ليكون الرضا مرفرفا علينا، فقد أنجبت والحمد لله أربع بنات، وفي كل مرة أسأل زوجي: هل أنت سعيد أم حزين؟ فيقول لي: أنت التي تستطيعين أن تجعليني سعيدًا بابتسامتك ورضاك الذي تعاهدنا عليه.
فيكون ردي: «من رضي فله الرضا»، ولو وضعت كل الأقدار في كفة لكان اختيار كل فرد لقدره، وأتصور أن اتصالي بالله طوال تلك السنوات قد جعل شعاري في الرضا يسكن قلبي، فاطمأنت نفسي وانسابت السعادة على روحي.
تغير ملحوظ
أرادت إحدى الأخوات المشاركة في الحديث فأتيحت لها الفرصة كاملة حيث قالت: منذ كنت صغيرة وأنا أصلي فروضي وأصوم شهري، وأتمسك بقواعد ديني الأساسية، وطوال السنوات الماضية، وأنا أحاول حضور الندوات والدروس، ولو نظرت إلى نفسي في الوقت الحاضر، ونفسي من عشر سنوات ماضية سأجد تغييرا ملحوظا، نعم حدث بشكل منظم مرتب متدرج، حتى أني لم أشعر به إلا عندما طرح هذا السؤال، ومن دلائل هذا التغير أن استقبالي لآيات القرآن وفهمي لها اختلف كثيرا، وسأعطيكم مثلا بسيطاً لأية نقرؤها جميعًا ونعلمها، اعتدل الحضور في جلستهن، وأنصتن لها تمامًا: ﴿أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1، 2).
بعد ترديد الآية عقبت بقولها: كنت أقرؤها ويتبادر إلى ذهني الإكثار من المال والأولاد، وأمر عليها مر الكرام ولا أتوقف كثيرا عندها، ولكن بعد أن حدث هذا الوعي على مدى تلك السنوات استشعرت أن كل تكاثر يلهي عن المهمة الأساسية التي من أجلها خلقنا هو ما تعنيه هذه الآية الكريمة؛ فالتكاثر من الجلوس أمام الإنترنت لساعات تلو الساعات، فيها تكاثر من قتل الوقت الذي هو العمر فيما لا يفيد كثيرًا في أغلب الأحوال، أيضًا التكاثر من متابعة برامج التلفاز الساعات الطوال يدخل ضمن هذا المعنى، بل إن التكاثر من إهدار الوقت في التفنن المطبخي من عمل الأكلات وتنوعها، وما إلى ذلك، بل الإكثار من الطعام والتكاثر في وضع أصنافه في المعدة الفقيرة إلى الفراغ بعض الوقت من التخمة.
وجاء في ذهني أن مقولة: «كل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده»، هي بالفعل حقيقة، حتى قراءة القرآن الكريم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام، وقال عن الصلاة التطوعية: «إن خير الأعمال أدومها وإن قل».
وأصبح لفظ التكاثر عندي عاما في كل حياتي، هذا التكاثر من أي شيء يلهي، حتى نفاجأ بملك الموت جهارا نهارا، ونحن لم نستعد بما أمر به الله سبحانه.
مقاومة الإغراءات
كتبت الآية على لوحة، وقمت بتعليقها في منزلي في مكان ظاهر واضح، وكانت محفزة لي ولأولادي لمقاومة الإغراءات، والحياة بوسطية واعتدال حتى لا نسأم ولا نتبرم، وأيضا ساعدني كثيرًا قول العلي الكبير: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف: 6).
وأشفقت على رسول الله ﷺ الذي يحزنه ويؤذيه من انصرف بكفره عن طريق الإيمان، وأردت أن أريه خيرًا ﷺ في نفسي وأولادي أننا لا نترك طريق الطاعة حبًّا في الله ورسوله ﷺ، بل أذكر أولادي دوما عند حدوث أي فعل مخالف أن هذا الأمر يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اطلع عليه.
وبالطبع كانت هناك جولات وصولات مع أولادي لمحبة رسول الله ﷺ، وهكذا أجد أن تأثري بالآيات اختلف كثيرا، ولعل السعي على طريق الهداية بالرغم من أننا نجد أن نتائجها ضعيفة على المستوى القصير من الزمن، ولكن بدون شك فإن المثابرة والثبات على الطريق وطلب الهداية من الله تأتي بنتائج طيبة على المستوى الطويل، وأستطيع القول إن دروس العلماء ومدارس تحفيظ القرآن وإنارة العقول، والقلوب بكلمات الرحمن تؤتي أكلها مع الصبر والمصابرة.
أراد الجميع أن تزيدهن من فهمها الرائع لهذه الآيات من القرآن، وصبغ حياتها بها، وكذلك أولادها ومنزلها، ولكن الوقت كالعمر أزف بالرحيل، وتفرقت الأجساد، ولم تفترق الأرواح.
(*) أكاديمية متخصصة في القضايا التربوية والدعوية.