العنوان الفساد السياسي وراء كل هزائم المسلمين وتخلفهم
الكاتب محمد المجذوب
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1985
مشاهدات 14
نشر في العدد 714
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 23-أبريل-1985
كنت أتناول طعام الصباح عندما سمعت ذلك الحوار الذي أجراه مندوب الإذاعة البريطانية الساعة 30/7 تاريخ 15/4/1403هـ مع الرئيس السوداني اللواء جعفر النميري، وقد لفت انتباهي منه تعليله للأزمة الاقتصادية التي يعيشها السودان، فهو من ناحية يشيد بطاقة بلاده العظيمة من رحابة الأرض التي يقول إنها تتسع لمائتي مليون، ولا يزيد سكانها عن العشرين، والمؤهلة للإسهام في عملية الإنقاذ العالمي من ناحية استعدادها للانتاج الزراعي والحيواني، ومن الناحية الأخرى يعترف كذلك بالديون الفادحة التي ترهق كاهل البلاد فتؤخر نهضتها.
وعندما استوضحه المندوب عن أسباب التظاهرات التي تقوم في بلاده بسبب الغلاء وغيره، أجاب بأن الغلاء خطبٌ عام في سائر أنحاء العالم، واعتبر تظاهرات الطلاب بشأن نتيجة مؤامرات سياسية. وسرعان ما ساقني هذا الحوار إلى استحضار الواقع الذي يعيشه المسلمون في ظل هذه الأنظمة التي قفزت إلى سدة السلطة على متون الدبابات، وكان مسوغها أنها جاءت لوقف تيار الفساد ولإقامة العدالة، وأتساءل في نفسي: ليت شعري ألا يرى هؤلاء الانقلابيون ما نراه من كل هذه المآسي التي جروها على شعوبهم؟!
وتتداعى الأفكار في رأسي، فأتذكر بحثًا قرأته يوم 9/4/1403 في جريدة الرياض بقلم الأستاذ حافظ الجمالي تحت عنوان «بين التطور بالإبداع والتطور بالاتباع» وقد استرعى انتباهي منه تلك النقاط التي حاول أن يتقصى بها أسباب التخلف الذي يعانيه المسلمون والعرب.
ولكي يوضح الكاتب فكرته نحو التخلف يقدم للقارئ هذا التقرير الرهيب: «إن الأقطار العربية تسيطر على مساحة 1352 مليون هكتار -عشر مساحة اليابسة- يستغل منها قرابة الخمسين مليونًا فقط، وتحتوي 244 مليون هكتار من المراعي، ومن الغابات على 180 مليون هكتار، وتملك من الثروة الحيوانية5,2 % من جملة الموجود في العالم فضلًا عن الثروة العظيمة التي تمثل30,7 % من الانتاج العالمي، كما يمثل احتياطيها 56,5% من مجموع الاحتياط العالمي. ومن الثروات المدنية المتنوعة27,2 % من فوسفات العالم و3,5 من الأنتيمون و3 % من الرصاص2,03 % من الحديد.
ومع كل هذا الغنى الهائل في مصادر الثروات فإن أكثرية الشعوب العربية تعيش فقيرة بائسة تعيسة لا تتجاوز قوتها العاملة 30 % من المجموع، ولا يشرب الماء النقي منها أكثر من 15 %. أما في المشافي فلا يتجاوز السرير الواحد كل 464 مواطنًا في مصر، 1054 في سوريا، 1097 في السودان و937 في الأردن، مقابل 149 في الولايات المتحدة و98 في فرنسا و86 في الاتحاد السوفياتي.
ولا مجال للتردد في قبول هذه الأرقام المذهلة، ففي وسع أي قارئ عربي لها أن يستبين صحتها من وقائع بلده -إذا استثنينا القليل النادر من ديار العرب حيث تضخم الدخل بتضخم الثروة النفطية على الخصوص- ولا شك أن في تصريح الرئيس النميري لمندوب الإذاعة البريطانية أفصح البينات على صدق هذه المعلومات.. وما أحسب عاقلًا يقف عليها ثم لا يتساءل: ما السبب في كل هذه التناقضات؟
ولم تكون هذه الشعوب التي تملك كل هاتيك الطاقات محرومة من أعمالها والانتفاع بها، حتى لكان الشاعر العربي لم يرد سواها
بقوله:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول والحق أن الأستاذ الجمالي قد وفق إلى الجواب حين ربط كل هذه الرزايا بالاضطهاد السياسي الذي سلب الفرد العربي حرية التعبير، ومع أن الأستاذ الباحث في تركيزه على هذا الجانب قد تبنى آراء بعض المفكرين الغربيين في أوضاع العرب التي واجهوها قبل هذا القرن، فهو إنما ارتضاها لما تحمله من الحقيقة المحايدة، والتي تؤكدها الوقائع المستمرة حتى الساعة...
أجل.. إنه الحكم الاستبدادي الذي لا ينظر إلى الوجود إلا من خلال ذات المستبد، فلا حق لفرد أيًا كان في الكرامة ولا الحرية، اللهم إلا أن تكون حرية الهتاف بحياته المقدسة.. ولتمت بعد ذلك كل العقول التي أبدعها الخالق لبناء الحياة، وأرادها الطواغيت لخدمة الأهواء والشهوات.. ونحن عندما ننعم الفكر في هذه الصور القاتمة لا يسعنا إلا الإقرار بأن شعبًا يعيش في مثل هذا الجو المظلم لا يجد القدرة على استعمال مواهبه في الانتاج والإبداع، بل لا بد من أن يستغرقه الفقر والجهل والمرض، ويشيع فيه النفاق.
لقد أحسن الباحث بعرضه فكرة صاحب المنار -السيد رشيد رضا «رح»- التي يصف بها أهم خصائص الإسلام من حيث قيامه -عقيدة- على أساس التوحيد، وسياسة على أساس الشورى. ثم أثر الحكام المستبدين في إفساد صلة المسلمين بهذين المعينين، ولو أنه اتخذ سبيله من هذا المنطلق، فعالج تطور الأحداث على ضوئه، لكانت حصيلته أقرب إلى الكمال.
لما بدأت الأزمة شدتها بين دعوة الله ورواسب الشرك، قدم وفد الجبارين من قريش إلى أبي طالب يتوسطونه بينهم وبين رسول الله وطمع الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانهم فقال لهم: كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم.. تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.. فما كان من هؤلاء إلا أن أدبروا معاندين وهم يقولون: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون.
لقد فهم أولئك المسيطرون على أزمة الحياة في مكة ما تنطوي عليه كلمة رسول الله من تصميم على تغيير الواقع العام الذي تمثله زعامتهم العمياء، وما وراء ذلك من رد القطعان البشرية الضالة إلى سبيل ربها، لتعود إليها روح الأخوة والعزة اللتين سلبها إياهما المضللون. وبقليل من التأمل الحكيم ندرك أن القضية لم تزل على هيئتها التي يصورها موقف رسول الله من أولئك الطواغيت.. فالعودة إلى معنى «لا إله إلا الله» تقتضي الانخلاع من سيطرة الاستبداد الذي لا يقبل التنازل عن طغيانه، وهو يعلم أن ذلك سيكلفه الوقوف مع محكوميه على صعيد المساواة.
فالتوحيد إذن بمعناه الإسلامي إنما هو تحرير النفس من كل عبودية لغير الله، وإعداد الفرد المسلم للقيام بمسئوليته الكاملة نحو نفسه وآله ومجتمعه والمخلوقات جميعًا.. وهو وضع يملأ هذا الفرد شعورًا بحق المشاركة في بناء الحياة وفق النظام الإلهي، القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهكذا يكون انبثاق الشورى من صميم عقيدة التوحيد، التي تقرر أن كل شيء في هذا الوجود ملك لله وحده، وأمانة في يد الانسان فردًا أو جماعةً، فليس لأحد أن يتصرف بشيء منها إلا وفق الشريعة التي أحكمها الله.. وأناط بتنفيذها سعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة.. وليست الشورى في ضوء هذا المفهوم سوى تعاون المؤمنين على حماية المجتمع من الشطط على سبيل الحق والعدالة، فلا يركب حاكم رأسه فيسلب محكوميه حق التذكير والنصح حتى ينتهي بهم إلى الإذلال.
لقد أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين قبيل تجهزه لمعركة أحد، فجعل يستطلع رأيهم بين الخروج للقاء العدو بعيدًا عن المدينة، وبين الاعتصام في داخلها.. فكان الأكثرون بجانب الخروج، في حين كان يميل مع شيوخ المسلمين إلى الرأي الآخر، فلم يلبث أن استجاب لطلب الكثرة، وقاد المجاهدين لملاقاة عدوهم عند أٌحد.. ومن هذه المواقف وأمثالها تعلم خلفاؤه المهديون كيف يقيمون حكمهم على أساس الشورى، حتى ليهتف عمر بمن أراد الرد على مذكر له بتقوى الله، فقال: دعهم فلا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.. ويخطب ذات مرة بجموع الحجيج قائلًا: «أيها الناس إني إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسنتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم.. ويلتفت إلى عماله قائلًا «ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم -تؤخروهم عن أهلهم- فتقتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم.. وعلى هذا النهج النبوي مضى عهد الراشدين، فلم يمنعوا إنسانًا مسلمًا أو كافرًا حقه، ولم يمنعوا ذا رأي من التعبير عن ذات نفسه، حتى انتقلت السلطة من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض، بدأت مسيرة الحكم تتعثر فتستقيم حينا، وتضطرب أحيانًا، إلى أن صار المسلمون إلى يومهم هذا الذي فيه يصعقون ويعذبون.
وعند الحديث عن مقومات الحضارة الإسلامية - ويسميها الجمالي العربية- يحاول التنقيب في أعماقها عن المعوقات التي وقفت بها عند حدود القيم العليا، فلم تمنح مثل ذلك الجهد للجانب المادي الذي ينمي في الإنسان المسلم قدرة الاستغلال لموارد الطبيعة والارتقاء بشروط معيشته، مما أدى به في النهاية إلى وضعه الراهن الذي بات فيه ضمن نطاق الاستهلاك، دون أن يكون له دور في عملية الانتاج والإبداع، فيقول: «في هذه النقطة بالذات يبرز التناقض الأساسي بين الحضارة المعاصرة والحضارة العربية القديمة، إذ أن مهمة الأولى وحصيلتها الأساسية هي اخضاع الطبيعة للإنسان، على حين أن مثل هذا الهدف قلما دار في خلد الناس قديمًا، ولئن دار فقلما بذل الجهد من أجله..»
وكان الأستاذ في حكمه هذا يريد أن يرد أسباب التخلف إلى قصور في طبيعة الحضارة الإسلامية -على طريقة جيب وأشباهه من المستشرقين- ولو هو قد أحاط علمًا بأسس هذه الحضارة، كما هي في كتاب الله وفي حديث رسوله، لأدرك في غير عسر أن كل تخلف عرض للمسلمين في هذا الجانب إنما مرده إلى انحراف المسلمين.
وحسب المسلم أن يتذكر قول الله تبارك اسمه ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (سورة لقمان: 20)، ليعلم بيقين أنه مدعو لاستخدام كل جزء في هذا الكون من أجل إنشاء الكيان الأفضل.
ولو أنعم الفكر في قول الرسول الأعظم -صلوات الله وسلامه عليه- «إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها»(الألباني:9). وفي قوله الآخر: « إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ»(الألباني:1880).. لأيقن كذلك أنه مسئول عن مواصلة السعي لتنمية الانتاج، وإنه في الوقت نفسه مكلف إحسان العمل على أساس من الإتقان الذي هو التكنولوجية كلها.
ولقد أثبت علماء الإسلام في ظل هذه التوجيهات العليا، وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني وفي كل ظروف الحكم الإسلامي الصالح، أنهم أقدر الناس على الإفادة من القوانين الكونية، سواء في ميدان النظريات العلمية، أو في نطاق التطبيق العملي، فأعطوا الإنسانية مفاتيح الكشوف التي تنعم بثمراتها المعاصرة.
أما لماذا توقف هذا المد الحضاري عن العطاء بعد عصور الخير، فجوابه في انحراف بعض الحكام عن التي هي أقوم.
ومن ثم فتحت الثغور في جدار الإسلام لتسرب الأفكار الهدامة من باطنية وفلسفية ومجوسية، فحصل أن مزقت الأمة الواحدة إلى فرق لا يحصيها العد، ثم جاءت النكبات المدمرة على أيدي التتار والصليبيين، بالتعاون مع الأعداء الداخليين، فطم البلاء.
ولما أطلت زحوف الاستعمار الصليبي الحديث على ربوع الإسلام، وهو المزود بكل جديد من أسباب القوة، كان الخور قد بلغ بالمسلمين حده الأقصى، فلم يبق لديهم من وسائل الدفاع الحربي ما يمكنهم من الصمود بوجهه إلى مدى طويل، فما لبثت هذه الربوع أن تساقطت تحت ضرباته.. وما هي إلا سنوات معدودة حتى حقق الاستعمار أمانيه، ولما حان موعد انسحابه، بعد أحقاب من الشقاء والذل، لم يغادر بلدًا إلا بعد أن ترك فيه عملاء له يواصلون ما بدأ من تخريب الحياة الإسلامية.
وبمقارنة بسيطة بين حال المسلمين أثناء حكم المستعمر، وحالهم في ظل عملائه بعد جلائه، تؤكد أن هؤلاء أشد كيدًا لأمتهم ودينها من أساتذتهم، لسبب معلوم هو أن المستعمر كان يسلك إلى أهدافه التدميرية في الغالب سبيل المداورة والاحتيال، أما تلاميذه فقد عزلتهم التربية التبشيرية والاستشراقية عن منابع الوحي، وشحنت رؤوسهم بالتشكيك في حقائقه والحقد على أهله، فما إن وصلوا إلى سدة السلطة بالوسائل المخططة لهم، حتى وجهوا كل طاقاتهم لمحاربة الإسلام ومطاردة علمائه، والعمل على تحويل سواد الشعب إلى ما زين لهم شياطينهم من زخرف الدعوات والدعايات.. والويل لكل من يحدثه عقله وضميره باعتراض طريقهم ولو بالإشارة.
وطبيعي أن مجتمعًا يساس بهذه العقلية المقلوبة لن يكون له حظ في النصر على عدو، ولا أمل بالتقدم في أي ميادين الأعمال، بل هو المجتمع الذي يساق بقوة لا إلى التخلف فقط، بل إلى الذل والتضاؤل والفناء. وصدق رسول الله القائل في أمثال هذه الأحوال «قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ»(البخاري:6496) ، وإنما يريد رسول الله (ص) بالساعة ساعة انهيار المجتمع ودماره.
وهكذا يتضح لكل ذي بصيرة أن كل ما أصاب هذه الأمة من تخبط وهوان وهزائم، إنما سببه الأكبر تحول السلطة من أيدي المؤمنين الملتزمين بجادة النبوة إلى أكف السفهاء العابثين، الذين اتخذوا عباد الله خولًا، ومال الله دولًا.. ذلك لأن فساد الراعي مجلبة لفساد الأمة، فكل انحطاط يعتري الشعوب إنما هو -كرأي فولتير- «حصيلة أخطاء الحكومات البغيضة التي تأخذ بخناقهم وتسد على تطورهم المنافذ..»
ولكن.. أليس المآسي المسلمين من نهاية؟
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
42
السبت 19-يوليو-2008
معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين زنكي (2) بناء دولة العقيدة على أصول أهل السُّنة
نشر في العدد 2180
38
الخميس 01-يونيو-2023