الثلاثاء 14-سبتمبر-1971
القدس في ذكرى الإسراء والمعراج
بقدر غفلة المسلمين يكون التوسع الإسرائيلي!
تحقيق/ أبو هَالة
ـ على الشاطئ المتأجج نارًا.. وتحت ظلال الدخان الكثيف الأسود القاتم.. وعلى حافة بحر الدموع والآلام.. الذي تمده روافد من كل عين مسلمة.. تشعر بعظم الكارثة التي أودت بالأرض المقدسة.. لقمة سائغة لأعداء الله وأعداء الإنسانية.. وضخامة المسئولية عن المسجد الأقصى مسری رسول الله «محمد» ومرتقى معراجه... أردت أن أتحسس زورق النجاة يقوده ربان مسلم ماهر علامته «الصلاح» ومنهاجه «الدين» وقد انشقت لزورقه الأرض بحرًا.. تدفعه المياه الساخنة الدافقة من كل عين لم تتوقف فيها الحياة...!!
ـ وحتى تلمع في سمائنا أضواء البشرى.. وإرهاصات الوجود لهذا الزورق وربانه..!! كان لا بد لنا أن نعيش في المأساة.. نغوص فيها وندور حولها.. ونوجه الضوء الكاشف من خلال مصابيحنا هنا وهناك؛ لعلنا نعثر على أنفسنا بالاستعداد لليوم الموعود.. والمعركة الفاصلة التي يعقبها النصر المرتقب..
مع فضيلة مدير مجلة الوعي الإسلامي
ـ لذلك اتجهت نحو إدارة مجلة «الوعي الإسلامي» حيث يلتقي على صفحاتها أئمة الفكر الإسلامي من كل أنحاء العالم.. وحيث تعتبر في دارها المتواضعة.. محطة إرصاد لكل التيارات التي يموج بها العالم الإسلامي والمشاكل التي يعانيها..
وجلست مع فضيلة الشـيخ رضوان البيلي مدير المجلة اسأله:
ـ تأتينا ذكرى الإسراء والمعراج، وما زال المسجد الأقصى تحت أيدي اليهود.!! فكيف نستثير شعور المسلمين للعمل على إنقاذه؟
الإحساس بمرارة الاعتداء..!
وأجاب فضيلته:
أعتقد أن المسلمين ليسوا في حاجة إلى استثارة شعورهم لتحرير الأرض المباركة، واستنقاذ المسجد الأقصى من أيدي أعداء الله وأعداء الإنسانية..!! فكل مسلم يشعر ويحس بمرارة الاعتداء على كرامته وكرامة أمته، وخاصة في المنطقة العربية أو ما يسمونها بالشرق الأوسط..
«لقد استولينا على أورشليم ونحن في طريقنا إلى يثرب وبابل» بن جوريون
«كل أرض تمسها أخماص أقدامكم هي لكم» العهد القديم
الحاجة إلى القيادة المؤمنة..!
واستطرد فضيلته يقول:
وإن المسلمين في حاجة إلى قيادة واعية حكيمة مؤمنة، تجمع هذه الطاقات المسلمة، وتحولها إلى قوة إيجابية، تنتظمها صفوف الجهاد في سبيل الله، وأن مجلة «الوعي الإسلامي» تتلقى العديد من الرسائل، يسأل أصحابها عن كيفية انضمامهم إلى المجاهدين، وللأسف ليس لدينا ما نرد به سوی الانتظار؛ حتى تزول غيوم الفرقة من صفوف المسلمين.
واستمر فضيلته يؤكـد ويدلل فيقول:
أن واقع المسلمين يؤكد هذه الحقيقة.. هل تجد أحدًا من المسلمين راضيًا عن احتلال بلاده واغتصاب مقدساته؟! كل المسلمين في ثورة وغضب وسخط، وتحفز للقيام بواجبه!! والسؤال يجب أن يعدل إلى صورة أخرى.. كيف يُستغل هذا الشعور الملتهب؟ كيف تتجمع تلك الطاقات؟.
عودة إلى كتاب الله..!
والجواب هو الذي تردده كل الألسنة: هو الرجوع إلى الله، الرجوع إلى كتاب الله. الرجوع إلى الدستور السماوي.. ولكن كيف الرجوع! إننا في متاهات وظلمات متراكبة.. ومع هذا فلم يبق إلا الأمل في الله والرجاء في عون الله..!
قلت لفضيلته:
· لماذا كانت القدس دائمًا هدف الصليبية واليهودية؟ وهل هي نهاية آمالهم؟
ـ القدس من الناحية الدينية مطمع أنظار اليهود لأن فيها مقدساتهم، ولأنهم يؤمنون بأنها أرضهم «أرض المعاد» ومستقر هيكلهم..!!
أما نحن العرب، فهي حقنا لإننا أول من استوطنوها، فهي أرض آبائنا واجدادنا، وهي حق المسلمين عامة؛ لأنها منتهى مسرى نبيهم، ولأنه تم فتحها في ظل الإسلام وتحت راية التوحيد..
ـ والقدس من الناحية الاستراتيجية عاصمة فلسطين، وفلسطين بعد زوال الاحتلال الأجنبي من المنطقة العربية؛ هي المنطلق الذي يسيطرون منه على المنطقة العربية كلها، ويتحكمون منها في مقدراتهم..وقد اتخذ الاستعمارالأجنبي «إسرائيل» ركيزة لفرض سيطرته علي الشعوب العربية «إسرائيل» التي يساندها الاستعمار الأجنبي ليست من البلاهة والسذاجة حتي تكون عصا في يد غيرها من الدول.
ـ أما عن آمال «إسرائيل» فهي ذات مطامع وآمال كبيرة، تستعين بالأجنبي حتى تتمكن من المنطقة بعد ذلك.. وتمتد وتتوسع حتى تحكم من النيل إلى الفرات..!! وبقدر غفلة المسلمين يكون التوسع الإسرائيلي!!
وبقدر يقظة المسلمين وتجمعهم يكون قدر «إسرائيل» وزوالها!!
· هل تعتقدون فضيلتكم أننا في خلال الخمس سنوات الماضية نسير في الطريق الجاد للتحرير؟
ـ لا يستطيع أحد أن ينكر أن الأحداث التي حلت بالمسلمين نبهتهم وأيقظتهم وحركتهم للعمل! ولا يستطيع أحد أن ينكر أن بعض المسلمين الذين يعنيهم الأمر شغلتهم أنفسهم رغم الكوارث التي تهددهم.. عن العمل الجاد النافع!!
ففريق يعمل في التسلح والتدريب والدعم.. وفريق في الفرقة والاقتتال، والمهم أننا أمامنا طريق طويل وعمل دائب.. أن نتلاقي ونتجمع عند العقيدة، ونتلاقى عند حكم الله، ونتلاقى عند بيع أنفسنا لله.. وما ذلك على الله بعزيز.
مع الدكتور مصطفى الزرقا
ـ وكان لقاؤنا الثاني مع الدكتور مصطفى أحمد الزرق الذي مارس السياسة وزيرًا في سوريا، ومارس التربية أستاذًا بكلية الحقوق، والعالم البحاثة خبير الموسوعة الفقهية بالكويت.. حيث دار الحديث مع سيادته:
دكتور: لماذا يعتز المسلمون بالقدس؟ ولماذا كانت محاولات الصليبية في الماضي واليهودية في الحاضر على انتزاعها من تحت أيدي المسلمين؟
فأجاب سيادته:
أ- يعتز المسلمون بمدينة القدس، وما إليها؛ لأنها منبع النبوات التي مهدت للإسلام: الذي هو الرسالة الإصلاحية الأخيرة الخالدة للحياة البشرية، ومهبط وحي الله وكتبه المنزلة على رسله الذين يصدق الإسلام برسالتهم جميعًا، ويبني عليها ويكملها. فالمسلمون هم الوارثون بالإسلام لتلك الرسالات كلها، والمصححون لانحرافات أهلها بها، وتحريفاتهم لنصوصها الإلهية التي ضيعوها واستبدلوا بها زورًا وبهتانًا وافتراء على الله؛ ليضللوا عباده ويستغلوهم باسم الله والدين لمآربهـم ومطامعهم وشهواتهم!!
فالإسلام هو الحصيلة الأخيرة لتلك المنابع الإلهية القديمة في القدس، والحافظ لمجرى طريقها الصحيح، والمسلمون هم القائمون بالإسلام على هذا الميراث الإلهي والمصححون لانحرافات أهله به؛ ومن ثم يحق للمسلمين، بل يجب عليهم بما حملوا من أمانة الله أن يعتزوا بالقدس.. هذا سبب عام.
ـ وهناك سبب خاص يوجب اعتزازهم؛ هو وجود المسجد الأقصى فيه، ذلك المسجد المقدس الذي هو ثالث ثلاثة في الإسلام بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة، وبعد المسجد النبوي في المدينة المنورة، لأنه القبلة الأولى التي وجه الله المسلمين إليها، وربط أبصارهم بها لينظروا إلى الله تعالى ربهم، ويراقبوه من خلالها.
ـ ثم هناك آخر أخص بعد ذينك السببين العام والخاص:
هو أنها المكان الذي اختاره الله جلت حكمته؛ ليكون المحطة القدسية للإسراء برسوله الكريم رسول الإسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، الذي شملت رسالته البشر أجمعين، ولتكون هذه المحطة نقطة الانطلاق لتلك الرحلة العلوية.. معراج الرسول الكريم إلى ربه حيث رأى من المشاهد السماوية، وتلقى ما تلقى من التعليمات الإلهية.
ـ فهذه الصلات بين المسلمين والقدس تجعلهم يعتزون بهذا البلد المبارك ويعتبرونه عنوان الكرامة التي أكرمهم بها الله.
الدوافع الاستعمارية
ب- أما حرص الصليبيين في الماضي على انتزاع القدس من أيدي المسلمين، فسببه الحقيقي دوافع استعمارية عداها الحقد الذي قام في نفوسهم من الفتح الإسلامي، واستغلوا لتجميع قواهم كون القدس هي المهد الذي نشأ فيه سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام.
ولو كان الدافع الحقيقي دينيًا؛ لما قتل أهل الحملة الصليبية إخوانهم المسيحيين في طريقهم، ونكلوا بهم ونهبوهم، وتفصيل هذا لا يتسع له هذا المقام.
جـ- وأما اليهود أعداء البشرية كلها من جميع الملل!
فدوافعهم هي استعمارية جديدة، من أهداف الصهيونية اللدودة بدليل أنهم غير مقتصرين على القدس، وإنما لهم أهداف أوسع.. هو استعمار ما بين النيل والفرات!
وأصبح هذا الهدف الاستعماري للصهيونية أوضح من الواضح، ولكنهم يمسكون بذكرياتهم الدينية في القدس سترًا للهدف الاستعماري.
ـ وقد أثبت التاريخ أن المسلمين بحسب عقيدتهم الشاملة لجميع الديانات السماوية السابقة، واحترامهم لجميع رسل الله؛ هم الأمناء الوحيدون على صيانة القدس، ومواقع التقديس فيها لجميع من لهم بها ذكريات دينية.. أما غير المسلمين من المكذبين بما جاء بعدهم من شرائع الله، ورسله، فغير مؤتمنين على المراكز التي يعظمها سواهم في هذا البلد المبارك.
ـ دكتور: ما هي أبعاد الخطورة من وراء استسلام العرب للأمر الواقع وترك القدس لليهود أو تدويلها؟
ـ وأجاب فضيلته:
خدم ورؤساء خدم!
ـ إن أبعاد الخطورة التي تبدو من وراء استسلام العرب للأمر الواقع، هي أبعاد رهيبة الحدود!! لا تقف إلا حيث تقف بالعرب عجلة الحياة التي تسير في طريق أمة ذات سيادة وكرامة؛ حتى ينتهي الأمر بمن يؤثر الحياة منهم إلى أن يصبحوا خدمًا للمستعمرين، ورؤساء خدم.!!
ـ وأقصد برؤساء الخدم أن الشعوب العربية التي تقع في الدائرة الاستعمارية الرهيبة «ما بين النيل والفرات» سيكونون في هذا الاستسلام خدمًا حقيقيين لليهود، ولمن وراءهم من الصليبيين، في هذه الحملة الاستعمارية المبيتة ذات المراحل المدروسة. وأما الحكام العرب في هذه الدائرة، فيمكن أن يبقوا أشبه برؤساء الخدم في المطاعم، والنوادي، والفنادق، فيترك لهم بعض سلطة على الشعوب يمارسونها لمصلحة المستعمر وبأمره.
فيقنعون بذلك ويعللون أنفسهم بقاء سلطة ورئاسة لهم على قومهم الخدم، ولكنهم لا يخرجون عن أن يكونوا تحت أمر ونهي مدير المحل!!
ـ هذه قد تبدو نظرة تشاؤمية مغالية، ولكنها هي الرؤية الصحيحة لأبعاد الكارثة إذا استمر العرب في هذه المواقف الانهزامية التخاذلية الجاهلة المتعامية؛ التي يخادعون بها أنفسهم، وهم يظنون أنهم يخادعون فيها بالكلام الفارغ عدوًا أذكى وأعلم منهم، وأدرى منهم بواقعهم!
ـ ولا أستبعد أن تصل أبعاد الخطورة إلى أقدس المقدسات الإسلامية في المدينة المنورة؛ فإنها واقعة في مخروط ظل الخطر، وقد يتأخر ذلك لا رعاية للعرب الذين لم يبق لهم أية قيمة في ميزان الاعتبار والرعاية عند أعدائهم من النوعين المسافر والمقنع، بل رعاية موقوتة لغير العرب من العالم الإسلامي!!
نذیر..!!
ـ وقد لا يبقى للعرب سيادة لا على بترولهم، ولا ثرواتهم الأخرى، إلا بقدر ما يرى عدوهم من مصلحة إلهاء رؤسائهم به عندما يصبحون رؤساء خدم!
ـ وهل يتوقع لإبعـاد الخطورة في الاستسلام أن تقف دون هذا الحد في قوم لا يزالون ـ وهم بين فكي الخطر- لا يفكر أحد منهم إلا بنفسه واستدامة مصلحته ولو لفترة موقوتة، ولا يحلم إلا بحياة النعومة والرفاهية واللذائذ المميتة للإحساس!!
ولا تزال برامج الإذاعات والتلفزة تلهي الناس بالرقص العاري، والخلاعات الجنسية، واللهو الرخيص، كأن الدنيا في قبضتهم للمرح والفرح.. يختارون منها ما يحلو لهم في أمان واطمئنان من غوائل الحدثان، ومخطط العدو الرهيب يمشي في طريق التنفيذ ومراحله تطوي الواحدة تلو الأخرى؟!
حل المشكلة!
وانتهى بنا الحديث مع الدكتور الزرقا بهذا السؤال، الذي يساور كل نفس ملتاعة على احتلال القدس وما حولها:
· إذن.. ماذا ترون سيادتكم سبيلًا لاستعادة القدس وما حولها؟
ـ المشكلة ليس حلها في استعادة القدس وحدها! بل في درء الخطر كله بجميع أبعاده، التي رسمت في جواب السؤالين السابقين حدودها وصورتها القائمة! ولكن استعادة القدس -إن أمكنت- هي دليل على إمكان تقليم أظافر الغول المهدد وكسر أنیابه، ثم كسر عموده الفقري، لأن القدرة على استعادة القدس لا تكون إلا عندما تبلغ هذه القدرة بأصحابها ذاك المستوى!!
سبيل واحدة
ـ وإنی مهما خدع العرب أنفسهم، أو حاول البعض أن يخدع إخوانه أو أعداءه بجعجعة الأقوال التمويهية، والتبجح الفارغ! جهلًا أو تجاهلًا- لا أرى إلا سبيلًا واحدة لا تزال مفتوحة الباب أمام العرب، وقد يغلق بابها ويقطع عليهم طريقها فيما بعد!! إذا لم يستبينوا الرشد إلا في ضحى الغد بعد فوات الآوان!!
ـ تلك السبيل هي: أن تضع كل دولة أو دويلة منهم مصلحتها الفردية الموقوتة تحت أقدامها، لأنها لن تدوم لها تلك المصلحة، إلا ريثما يصل الوحش المفترس بالدور اليها! وأن يعتبر كل بلد منهم بقية البلاد العربية، بمن فيها من حكام وشعوب كغرف من دار واحدة يسكنها فروع أسرة واحدة.. مهددون جميعًا بالاستعباد، ودارهم وثرواتهم بالاستيلاء من عدو قوي مهاجم غاشم! ـ وهذا حقيقة وليس بافتراض -
فتجتمع البلاد والدول العربية جميعًا من المحيط إلى الخليج في نظام اتحادي جامع ـ على الأقل إن لم يكن في وحدة حقيقية جامعة- متناسين اختلاف النظم والأهداف العقائدية والمؤامرات من بعضهم على بعض «لأنهم كلهم الآن هدف ومطمع لمؤامرة مشتركة واحدة»، وتكون لهم سلطة عليا واحدة وجيش واحد، موزع على الجبهات تجند فيه كل الإمكانات: البشرية، والعسكرية، والاقتصادية، والصناعية، وغيرها. فإن استولت إسرائيل على بلد أو موقع، وجدت البلاد العربية كلها من حولها تحيط بها وتحاربها في حرب نظامية، وحرب عصابات غير نظامية تمدها البلاد العربية كلها علنًا وجهارًا على المكشوف؛ فتكون إسرائيل في حرب دائمة محيطة بها من كل الجهات، قد جندت لها جميع القوى والوسائل، ويعتبر العرب أنفسهم جميعًا أنهم في الميدان يتصرفون على هذا الأساس.
- والمخاطب في هذا هم حكام البلاد العربية، لأن الشعوب قد أصبحت لا وزن لها ولا إرادة في نظم الحكـم الحاضرة، وأن الشعوب العربية ترى في هذا الاتحاد والتجنيد تحقيقًا لأمنية أكثريتها الساحقة، ولكنها لا تملك من إرادتها شيئًا، والعدو «أو الأعداء» يعرفون هذا أكثر مما نعرف، وهم يدعمون هذه الأوضاع المتقطعة في البلاد العربية التي يسيل لعابهم على خيراتها وثرواتها.
- نعم إن الأعداء، وفي طليعتهم رأس الحربة إسرائيل ووراءها من وراءها من المعلومين، حريصون على بقاء الشعوب العربية مفلوجة الإرادة والقدرة؛ لأن تاثير الأعداء على الحكام بالترغيب والترهيب، وبصورة وغير مباشرة لاستمرار التفرق والتمزق، أهون عليهم بكثير من التأثير على الشعوب..!!
عقدة الأنانية والحرص!
ـ وهنا، وفي هذه النقطة بالذات، تبرز أمامنا عقدة العقد التي يقف أمام علاجها الفكر حيران!! فكيف يمكن للبلاد العربية جميعًا بما فيها من دول ودويلات وکراسی حكم أن تندمج تحت سلطة عليا واحدة، وكل منهم يخشى جاره، ومؤامراته، أكثر مما يخشى العدو المشترك؟ وكل من يتمتع منهم بمزية نعمة أو ثروة يحرص على استئثاره بها، ويخشى أن يشاركه فيها أو يستفيد منها جاره، ويصعب ذلك عليه أكثر مما يصعب عليه أن يستولي عليها العدو؟!
ـ هذه العقدة الأساسية لا يمكن أن تحل في أوضاعنا الحاضرة، وواقع أخلاقنا ونفسياتنا وأنانياتنا، وبعدنا عن إدراك واجبات التضحية، ولو سبیل مستقبلنا نفسه -نعم لا يمكن أن تحل هذه العقدة في واقع البلاد العربية وحكوماتها عن طريق التضحية والتنازل من بعض لبعض عن السلطة، فهذا مستحيل في واقعنا العربي.
ـ فالسبيل الوحيد لحل هذه العقدة، هو أن نجد طريقة يبقى فيها كل حاكم مطمئنًا على سلطته المحلية، دون أن يمنع ذلك قيام سلطة واحدة عليا على جميع البلاد العربية، تقف في وجه العدو قلعة واحدة متماسكة حصينة.
ـ وهذه الطريقة المنشودة -في نظري- ممكنة على أساس أن لا تكون السلطة العليا الواحدة لشخص من هؤلاء الحكام ـ كما كان يحلم بعضهم ويخطط حبًا في السلطة، عن طريق إثارة الفتن، وتمزيق الصفوف العربية، -بل على أساس أن تكون السلطة العليا في البلاد العربية كلها من المحيط إلى الخليج لمجلس مشترك، مؤلف من جميع الحكام العرب رجعيهم قبل تقدميهم!! فكل هذه الشعارات ولغتها الإبليسية اللعينة يجب أن تطرح في المحرقة، ويجتمع رجال الذروة من حكام البلاد العربية، وملوك ورؤساء وجمهوريات وأمراء في مجلس واحد، يتولون فيه السلطة على البلاد العربية كلها، ويضع كل منهم يده في ید إخوانه، ويخلص بعضهم لبعض في وجه الكارثة الماحقة، إن لم يفعلوا ذلك ويستنقذوا أنفسهم وبلادهم وشعوبهم ويفرضوا إرادتهم وهيبتهم على جميع الأعداء المتآمرين من كان فيهم رأس الحربة ونصلها ومن كان في نصابها، ويكاشروا من کاشرهم، ويستعينوا بعد الله تعالى بكل من يستعد لمعاونتهم ومصادقتهم!!
ـ ويبقى في هذه الحال، لكل بلد نظام حكمه وثروته وخيراته، ولكن كل ذلك يقع تحت توجيه السلطة العليا المشتركة؛ كي لا تنحدر تلك الخيرات والثروات في الطرق التي تفيد الأعداء، وتتنافى مع الاستعداد للمعركة الحاسمة.
أن يدرك القائمون على السلطات المحلية في البلاد العربية أن مصلحتهم جميعًا إنما هي في تغییر النفسيات؛ جعلت من كل منهم عدوًا لأخيه، وجعلت من كل بلد شرکًا منصوبا لجاره، وأن يتجهوا اتجاهًا جديدًا يتجلى فيه الإخلاص، ويأمن كل منهم غائلة الآخرين، وتنتفي المطامع.
وحينئذ يمكن هذا الاتحاد، ويكون الحكم المحلي في كل بلد عربي سلطة إدارية على أساس اللامركزية، خاضعة للسلطة العليا المؤلفة منهم جميعًا في هذا الإطار من الإخلاص والثقة.
هذا هو الطريق الوحيد في نظري لاسترداد القدس، ولطرد الصهيونية اليهودية وإسرائيلها من فلسطين كلها، ورد فلولها وأفاقيها وأفاكيها إلى جحورهم التي جاءوا منها، واسترداد الغرب كرامتهم التي ديست في الرغام، وما ينتظرون أعظم مما كان!!
الخطوط العريضة
هذه خطوط عريضة في نظرة عابرة لا مجال فيها الآن للتفاصيل الفرعية والجزئيات، فإذا اتجهت العقول والنفوس وأدركت الأبصار ماهو ماثل أمامها من الخطر كالجبال؛ هان بعد ذلك على المعنيين وضع التفصيلات بعد الاستعداد لقبول المبدأ.
ـ ويا ليت شعري هل كان بین أمیركا وروسيا الشيوعية في الحرب العالمية الثانية من اختلاف النظم، والعقائديات والمصالح المتضاربة، والتنافس والمكايدة، وتنازع البقاء، أقل مما بين البلاد العربية المتفرقة اليوم وحكامها؟ حتى أدركت أميركا والحلفاء الغربيون من جهة، وروسيا الشيوعية من جهة أخرى؛ أن غول الخطر النازي الذي داهمهم جميعًا يوجب عليهم أن يتناسوا تلك المفارقات، ويضعوا يدًا بيد في وجه تلك العدو المشترك؟ أو هل بين أميركا وروسيا الشيوعية الستالينية آنذاك من روابط الأصل والتاريخ والأمجاد الماضية والدين واللغة وسائر العوامل الجامعة أكثر مما بين البلاد العربية وحكامها اليوم؟ أم على قلوب أقفالها؟!.
مع الدكتور أمين الأغا
· وكانت وجهتنا بعد ذلك.. إلى أحد أبناء الأرض السليبة.. الذي عاص الأحداث الأليمة.. إلي الدكتور أمين سليم الأغا... الجراح بمستشفى الصباح.
حيث وجهت لسيادته الأسئلة التالية:
دكتور: دأب اليهود على تجاهل قرارات الأمم المتحدة وشعور المسلمين تجاه القدس، ويسيرون في طريق تهويدها.. فما هو السر الذي تعتقدون وراء هذا العمل؟
ـ أساس المنطلـق الصهيوني هو اعتقاد اليهود بأن القدس لها مكانتها الدينية، فقد قال «بن جوريون» «إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى القدس بدون الهيكل».
ولقد استطاعت الصهيونية أن تنفذ أطماعها الأولى:
فاحتلت القـدس بكاملها، وأخذت تقوم بحفرياتها بحثًا عن الهيكل، ووصلت بحفرياتها تحت أسس المسجد الأقصى - لذي احتفل العالم العربي والإسلامي منذ أسبوعين في الحادي والعشرين من الشهر الماضي! بذكرى احتراقه؟!
ـ وواضح أن هناك تصميمًا قاطعًا لإعادة بناء الهيكل فيما يتصورونه على أنقاض المسجد الأقصى -والجدير بالذكر أن الحركة الماسونية في أمريكا قد تقدمت بعرض إلى إحدى الجهات بمبلغ ۱۰۰ مائة مليون دولار لشراء أرض المسجد الأقصى، لإعادة بناء الهيكل عليه..!
وذلك اتفاقًا مع أهداف الحركة الماسونية البعيدة.. وحتى تسـتطيع أن تأخذ الصورة الشرعية أمام العالم لتبرير هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل على أنقاضه..!
فالصهيونية لا تألوا جهدًا في استخدام كل الوسائل اللاأخلاقية لتنفيذ مخططاتها والوصول إلى أهدافها..!!
ومن المستغرب حقًا أن مشاعر المسلمين قد تبلدت! إذ إنهم لم يحركوا ساكنًا أمام المسرحية التي افتعلتها السلطات الإسرائيلية لإحراق المسجد الأقصى، عندما قام الشـاب الأسترالي بفعلته الشـنعاء والتي خططت لها الصهيونية والماسونية..! واكتفت هذه الأمة بالاحتجاج والصراخ، واستنجد الأقصى بالمسلمين، فلا منجد ولا مغيث.. ظانًا أن هناك على وجه الأرض «معتصمًا» فيه نخوة ليلبي النداء، ويثور لكرامة أمته ودينه..!
س: هل ترون يادكتـور توقف الأطماع اليهودية عند القدس وفلسطين؟
ـ إن الجواب واضح... فإسرائيل الآن تحتل فلسطين بكاملها، والجولان، وسيناء! وأن الذي يطلع على أطماع الصهيونية العالمية، ووثائقها في مؤتمراتها المتعددة، وخرائط امتداد أطماعها؛ يرى أنها تشمل: جميع الأردن، وقسمًا كبيرًا من شمال العراق، وشرق مصر، وجميع سوريا، وقسمًا كبيرًا من غرب وجنوب العراق، إلى أطراف السعودية، والكويت، ثم طريق الحجاز إلى الشام، إلى يثرب وخيبر، ووادي القرى وتيماء.. مما صرح به زعماؤهم خلال الخمسين سنة الماضية!
ـ منها ما قاله موشی دیان: «لقد استولينا على أورشليم، ونحن في طريقنا إلى يثرب وإلى بابل»!
ـ ومنها ما أوحى به إلى «روزفلت» أن يطلب من المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود أن يمنح اليهود بعض الأراضي المحيطة بالمدينة المنورة، حيث كان يسكن جماعة خيبر وقينقاع!
ـ ومنها ما نشرته جريدة «جروت» في ١٨/١/١٩٥٤:
«من شأن أساطيلنا البحرية والحربية في المستقبل أن تحطم الحصار العربي المفروض علينا، وأن تفرض الحصار بدورها على بعض الدول العربية بشكل أقوى مما فرضوه علينا، وان من شأنها أيضًا أن تحول البحر الاحمر إلى بحيرة يهودية»!
ـ ومنها أيضًا ما جاء في العهد القديم:
«کل أرض تمسها أخماص أقدامكم هي لكم»!
فهل يمكن بعد ذلك أن يفكر عاقل في انسحاب اليهود من كل أرض احتلوها بعد حزيران أو قبله دون حرب؟
بالعقيدة والعلم وإرادة القتال!
قلت له: كيف ترون الطريق لاستعادة الارض كلها؟
قال: لقد استطاع عدونا أن يحقق أهدافه بالتركيز على أمرين:
١ـ العقيدة ٢- العلم
ـ فقد رسخ في عقول أبنائه حتمية العودة الى أرض المعاد، وبناء الهيكل، واستخدم العلم الحديث وسيلة لتسليح نفسه بالقوة والمقدرة تحقيق معتقداته.. فبدون عقيدة وعلم لا يتحقق نصر.. ولن تعود القدس ولن تعود فلسطين الا بالعودة إلى الله! فقد كانت لنا قوة هزمت في ست ساعات لا ستة أيام!
لأن القوة وحدها ليست سببًا من أسباب النصر! قال تعالى:
﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ ﴿سورة محمد: 7﴾
﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم﴾ ﴿سورة آل عمران: 160﴾
ثم قال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
ـ وفي هذه المناسبة تحضرني وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قائد جنده سعد بن أبي وقاص، كنموذج لجنود المسلمين الذين أعتقد إنهم وحدهم القادرون على تحرير فلسطين.. هذا النموذج ترتسم معالمه في هذه الوصية..
يقول عمر: «أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم! وانما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله! ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة! لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا! واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون! فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا أن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون النصرعلى عدوكم..
ـ إن الأزمة الحقيقية هي أزمة أخلاق.. وإن الذي هزم في المعركة هو الخلق العربي؛ لأنه خالي الوفاض من أى عقيدة أو مبدأ..!
ـ والأمر الثاني: - هو أن العقل العربي كان معطلًا! فليس هناك معنى لهذه الفرفة ولهذا التناحر! فالعالم يتوحد ونحن نتفرق، العالم يستعمل كل طاقاته البشرية والمادية للرقى بأمته ومجتمعه، وأموالنا وطاقاتنا موزعة خارج بلادنا بید أعدائنا ليردوها رصاصا في صدورنا!! العالم يطور أبحاثه، ويبني مصــانعه، ونحن في دوامة الانقلابات وعدم الاستقرار على كل المستويات!
عدونا يجابهنا بعقيدة وعلم ووحدة.. ونحن نجابهه بانحلال وجهل وفرقة!
إرادة القتال!
ـ ولابد من إرادة القتال، وهي كما عرفها اللواء الركن محمود شیت خطاب:
- هي الرغبة الأكيدة في الصمود والثبات في ميدان القتال، من جل مثل عليا وأهداف سامية، وايمان لا يتزعزع بهذه المثل والأهداف، وثقة بأنها حب وأعز وأغلى من كل شيء في الحياة، وتحمل أعباء الحرب:
بذلا للأموال والأنفس، واستهانة بالأضرار والشدائد، وصبرًا في البأساء والضراء وحين البأس؛ حتى يتم تحقيق تلك المثل العليا والأهداف السامية، مهما طال الأمد، وبعد الشوط وكثر العناء، وازدادت المصاعب وتضاعفت التضحيات
ـ وتحت راية هذه المعاني يتجمع المسلمون:
فالمؤمن حقًا لا يخشى الموت..
والمؤمن حقًا لا يخاف الفقر..
والمؤمن حقًا لا يخشى قوات العدو الضاربة..
والمؤمن حقًا لا يقر بانتصار أحد عليه مادام في حماية عقيدته..
والمؤمن حقًا لا يستسلم بعد هزيمته..
والمؤمن حقًا لا يصدق الإشاعات والأراجيف..
والمؤمن حقًا يقاوم الاستعمار الفكري ويصاول الغزو الحضاري..
والمؤمن حقًا لا يقنط أبدًا ولا ييأس من نصر الله ورحمته
أمل
· وكان ختام حديث الدكتور أمين الأغا قوله:
وإنني أعتقد أنه مهما طالت ظلمة هذا الليل من الاحتلال الصهيوني، والفرقة العربية؛ فإن فجرا سيبزغ عندما تعود هذه الأمة إلى ربها ممسكة بكتاب الله في يد، وبسلاحها في اليد الأخرى، مندفعة نحو الأرض التي بارك الله حولها، لا تبغي شيئًا إلا النصر أو الشهادة.
· وودعت الدكتور على هذا الأمل أردد قول الله تعالى:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة يوسف: 21)
﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (سورة الإسراء: 51)
أبو هالة
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل