; المجتمع التربوي: العدد 1037 | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي: العدد 1037

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 09-فبراير-1993

مشاهدات 11

نشر في العدد 1037

نشر في الصفحة 42

الثلاثاء 09-فبراير-1993

وقفة تربوية : حتى متى نبرر ضعفنا ؟؟

إن مما يؤسف له في صفوف الدعاة ما يسمع بين الفينة والأخرى من تبريرات لضعفنا وتأخرنا في الوصول إلى أهدافنا باتهام الطواغيت المتسلطين على رقاب المسلمين في العالم الإسلامي  وطواغيت العالم الغربي الذين يعملون ليل نهار ليحولوا دون وصول الإسلام إلى سدة الحكم. 

ومع وجاهة هذا المبرر في تأخير النصر والتمكين إلا أنه ليس السبب الحقيقي وراء ذلك التأخير، بل إن السبب الجلي في القرآن الكريم والسنة المطهرة هو قرار التغيير في الفئة التي تريد النصر إذ يقول الحق سبحانه وتعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» فحكمة الله اقتضت أن التغيير لا يمكن أن يحدث من الله تعالى حتى يبدأوا هم بتغيير أنفسهم وما داموا لم يحققوا هذا الشرط فنتيجة الشرط تبقى معلقة حتى يتحقق الشرط.

إن لنا أن نستيقظ من رقادنا، ونلتفت لأنفسنا قليلا لنبحث عن مواضع الداء كي نستطيع وصف الدواء، وإلا تلهينا مقارعة الباطل وأهله عن أنفسنا، فإن النصر عليهم مقرون بتغيير أنفسنا. 

إن قيادة العالم بهذا الدين والتي نطلق عليها الخلافة، شرف عظيم وأمانة كبرى لا يمكن أن يعطيها الله إلا لمن تجرد تمامًا لله تعالى، وأفرغ كل ما في قلبه لغير الله من الشهوات، سواء شهوة المنصب أو الرئاسة أو المال أو النساء والعقار والدواب وغيرها من زينة الدنيا، ولم يجعل في قلبه سوى الله تعالى.

 لقد تعجب الكثير مما يحدث في أفغانستان وما كان ينبغي لهم التعجب وهم يرون بعض هذه الشهوات تراود بعض قادة المجاهدين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 أبو بلال 

إرهاب الدعاة قتل للدعوة :

في قصة أصحاب الأخدود درس للدعاة في معرفة أساليب الطغاة المتنوعة حيث أن القصة تتحدث عن غلام آمن بالله في بيئة كافرة فتعرض هذا الغلام للبلاء الشديد من التهديد والتعذيب والتسفيه.

لكنه ثبت على إيمانه وحبه لدينه فماذا فعل الملك الكافر الظالم مع هذا الداعية كما جاء في صحيح مسلم... ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، لاحظ أن الملك استعمل معه أولا أسلوب التهديد قبل أن يحاوره أو يناقشه لأنه لا يحسن إلا هذا الأسلوب في مواجهة الحق

وأهله.

 إذن استعمل الملك أسلوب التهديد في مواجهة الغلام حتى يرتد عن دينه وهذا قتل للدعوة أكبر وأعظم من قتل الداعية لأن الداعية عندما يتخلى ويتنازل عن دينه يدل على عدم صدقه فيما يدعو إليه، فلما أبى الغلام ماذا فعل الملك كما جاء في تكملة الحديث فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور (السفينة الصغيرة) فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، لاحظ أن الملك أراد بهذا الأسلوب الماكر أن يتيح للغلام فرصة للتفكير والتردد ثم التراجع عن ما هو عليه وذلك أثناء المسافة الطويلة في طريقه إلى الجبل أو البحر والملاحظة الثانية هي أن الملك اختار ذروة الجبل ووسط البحر وهذا يدل على شدة نقمة الطغاة وهذا يبين طبيعة العداوة بين المؤمن والكافر وتصور مدى شراسة وبشاعة المعركة. 

والملاحظة الثالثة أن اختيار الملك هذه الأماكن البعيدة يبين مدى خوف الملك من شعبه؛ لأن قتل الداعية المصلح يثير الفتنة ضده والملاحظة الرابعة إن الغلام عندمنا سالما وكان بإمكانه ان يهرب يدل على أنه رجع ليس حريصا على الحياة بل كان حريصا على الدعوة حيث أراد برجوعه إلى الملك أن يبلغ الملك أن الله وحده هو الذي نجاه ونجى دعوته.. وأن الموت والحياة بيد الله سبحانه وليس بيد أحد من البشر.

وقد وقف الشيخ رفاعي سرور أمام هذا الحديث واستخلص منه كثيراً من العبر والعظات وهي كالتالي:

1 – كان الملك يعتبر الغلام القائد العملي للدعوة، ولهذا كان حريصًا على ردته وإغوائه، وعلى عدم قتله؛ لأن في تخليه عن دينه قتلا لدعوته، ثم أن قتله يحدث بلبلة وفتنة لدى الناس، فهو معروف عندهم مشهور بينهم محبوب من قبلهم لخدمته لهم.

۲ – يظهر حرص الملك على عدم قتل الغلام في أنه أرسله مع طائفة من الجنود ليلقوه من الجبل أو يفرقوه في البحر عله يضعف أو يتأثر فيتراجع.

  • لعل في اختيار الملك تلك الوسيلة في قتل الغلام هدفا آخر حيث كان يريد أن يتيح للغلام فرصة للتفكير والتردد ثم التراجع عن ما هو عليه، وذلك أثناء المسافة الطويلة في طريقه إلى الجبل، أو البحر.

٤ – كان الغلام مؤمنا بربه متوکلًا عليه مفوضا أمره إليه طالبا منه وحده الخلاص والفرج، كما يبدو هذا من دعائه ربه وهو على قمة الجبل وفي وسط البحر: اللهم اكفنيهم بما شئت.

ه – ماذا فعل الغلام بعد هلاك الزبانية في المرتين؟ هل هرب من الميدان

وكان بإمكانه ذلك؟ هل اختفى عن العيون والأنظار؟ ومع أن حياته مهددة بالخطر، فهل كان حريصا على الحياة؟ لقد جاء في المرتين يمشي إلى الملك وهو يعلم ماذا تعني عودته إلى الملك، وماذا ينتظره عند الملك. 

لقد عاد إلى الخطر المباشر؟ لأنه في مواجهة قوية ومعركة ساخنة واختفاؤه وإيثاره للنجاة تعني هزيمته وهزيمة دعوته في تلك المعركة، لقد وجد مصلحته في مصلحة الدعوة وحياته في حياة الدعوة، وطالما أن من مصلحة الدعوة ركوب الخطر فليفعل وحتى لو كان في مصلحة الدعوة موته والقضاء على حياته فليفعل، وإطلاق الإرهاب على الدعاة من أهم أسبابه.

۱ – صد الناس عن سبيل الله.

- أن تكون السيادة لغير شرع الله.

- تحجيم الامتداد والانتشار الشبابي داخل العمل الإسلامي.

  • الخوف من تصاعد الحركات الجهادية.

ه – تشويه سمعة الدعاة في المجتمع، وليعلم كل ظالم وحاقد وناقم كما قال رفاعي سرور- حفظه الله- أن الدعوات لا تتقوى إلا بالشدة ولن تمتد وتنمو إلا بالابتلاء، ولا تثبت إلا بالمحن وكما جاء في مجلة الإصلاح  الإماراتية في مقال الافتتاح أي حقبة نعيشها تلك التي اقتضت أن يكون المجرم جالسا على منصة القضاء والجاني هو من يحاكم الضحايا، العدد ١٩٤ وليعلم الدعاة أن عزائمهم الوحيد قوله تعالى «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» سورة الصف .

ومضة تربوية غربة بين الأهل الغربة في معناها العام هي البعد والنأي عن الأهل والوطن ولكن أن يشعر الإنسان بالغربة بين الأهل وعلى تراب الوطن فهذا أمر قد يكون مستغربا، فكيف يكون الإنسان غريبا بين أهله وأصدقائه وفوق ثرى بلاده وتحت سمائها.

في واقع الأمر أن ما أعنيه في هذا السياق هو غربة المبادئ والشعور، فمثلا عندما يعيش الإنسان بأحلام المدينة الفاضلة في مجتمع مادي صرف فهو يشعر بغربة ربما تكون أشد غربة من ذاك الذي نأى بنفسه عن الأهل والديار إلى ديار وأناس آخرين والعكس صحيح، فمن يحمل فكرا ماديا يشعر بغربة وعزله في مجتمع ليست المادة ديدنه وعقيدته. لذلك فقد يعيش المؤمن بين أهله وعلى تراب بلاده ولكنه يشعر بقرية شديدة وحسرة تحرقه لما أصاب أهله ومعارفه من تغير في السلوك والمعاملة وشذوذ في رؤيتهم للحياة ودورهم فيها.

 فقد اكتسبوا أنماط سلوكية ومعطيات فكرية متطرفة في الانغماس في وحل الرؤى والمعايير المادية البحتة، فوجود طائفة من الناس ترى أن المادة وسيلة لا غاية أصبح نادرا في مجتمع اجتاحته حمى النفاق الاجتماعي وأخذ بهارج الحياة الدنيا ومتعتها كهدف أساسي لا كمرحلة عابرة.

وهذا مصداق لنبوته- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء».

وفي حديث آخر يتجلى فيه وصف الغربة الشعورية لمن يلتزم بالمبادئ الربانية حيث يقول- صلى الله عليه وسلم- «القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمرة» فالغربة الشعورية أي تلك التي تنتج عن فارق كبير في التصور للواقع وفي رؤية الحياة أشد وقعا على قلب الغريب من تلك الغربة الطبيعية عندما يغادر الإنسان أرضه وأحبابه. لذا فإنما الغربة الموحشة هي: غربة الروح والمبادئ لا غربة الأحبة والمساكن.

د. عبد الهادي القحطاني

 جامعة الملك سعود بن عبد العزيز

(1) وقد وصف الرسول (ص) تلك الفئة من الناس بأنهم «النزاع من القبائل» التي ترفعت على أن تبقى في حمأة المادة ووحل الانتماء الجاهلي لكي ترتقي بسمو العقيدة لتبقى غريبة قابضة على الجمر راضية بمنهج الله ووعده.

وقفات في سورة الكهف : (الطاعة)

قال تعالى: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (الكهف: 69) 

لابد من الانقياد والطاعة للمربي، إذ إن التربية والتوجيه من غير طاعة تكون خاوية جوفاء لا معنى لها ولا روح. والطاعة التي نريد هي طاعة مبصرة وليست عمياء يحدها حدود الشرع ويوجهها آراء الجماعة لما فيه الخير والصالح العام إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" والطاعة للمربي هي نتيجة الثقة المتبادلة بين الطرفين إذ لا يتصور طاعة من غير ثقة فعلى الفرد أينما كان موقعه أن يثق بمن يلي أمره ويشرف على تربيته وتوجيهه ويتلقى الأوامر منه فالثقة هي الاطمئنان الكامل لقدرة وكفاءة المربي وعلى هذا فطاعتك للمربي تكون أثرا من آثار ذلك الاطمئنان الكامل وهذا ما بينه موسى عليه السلام من بداية الطريق إلى الله وانخراطه في رحلة التربية والتعليم، فالباب الذي دخل منه إلى هذه الرحلة هو الطاعة ومع قولنا بلزوم الطاعة للمربي فإننا لا نقطع دابر النقاش والحوار المفيد المثمر البناء فطاعتنا مبصرة عن يقين واقتناع ويخطئ من يظن أن الطاعة تنافي النقاش الهادي والحوار المفيد ولنا عبرة في غزوة بدر الكبرى عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنزل فجاء الحباب بن المنذر فقال له: يا رسول الله، أهو منزل أنزلك الله به فلا نتحول عنه أم هو الحرب والخديعة والمشورة؟، فقال: بل هو الحرب والمشورة فأشار عليه بالتحول عن هذا المكان إلى مكان آخر فاستجاب له رسول الله وهذا يدل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض أن من حق الأفراد أن يقتنعوا بالأمر الصادر لهم ولكن ينبغي أن تفهم أن ذلك في حدود المصلحة إذ أن هناك بعض الأوامر لا ينبغي التردد في تنفيذها ولا انتظار المناقشة لها لأنها من الأهمية بمكان لا تحتمل المناقشة ما دمت أنك قد جعلت الثقة شعارك، كذلك يجب أن تعلم أن الأمر الصادر من أغلبية ينبغي الانصياع له استنادا إلى مبدأ الشورى حتى لو كان فيه مخالفة لرأيك وقناعتك مادام هذا الأمر قد صدر عن أغلبية بعد تمحيص الآراء واختبار الأقوال فإن الواجب هو الانصياع لهذا الأمر فإن في مخالفته شقا للصف وإحداثا للشرخ بين وحدة الجماعة.

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتدبر آيات القرآن ويقوم بها آناء الليل وأطراف النهار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

عبد العزيز القصار

معادن الرجال:

بقلم: د. محمد عاصم العدوي- القاهرة

إذا أردت أن تعرف معادن الرجال فأسأل خبراء النفوس .. لا مروضي القردة وبهلوانات العروض. 

كشف الصحفي الشهير مصطفى أمين في عموده فكرة عن رجل عملاق في دنيا الأقزام وقائد جيل في عالم السفوح والمستنقعات فقال: أعجبت بصموده، انهالت عليه الضربات فلم يركع، حاصرته المصائب فلم ييأس، تلقى الطعنات من الخلف والأمام فلم يسقط على الأرض كان يحلم وكل من حوله يائسون، كان قويا وأنصاره ينفضون مستضعفون، رأيته في محنته أكبر منه في مجده، يسقط من المقعد واقفا وغيره يجلس فوق المقعد راكعا رأيته

يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا السلطان، فالرجال المعادن لا تظهر قيمتهم الحقيقية إلا إذا وضعوا في النار، هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي والرجل القش بين الذي يموت واقفا والذي يعيش راكعا بين الذي يكبر مع الشدائد والذي يتضاءل في المحن والأزمات، رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة ينام على الأسفلت وكأنه ينام على مرتبة من ريش النعام، يأكل الخبز الممزوج بالتراب ويحمد الله كأنه يتناول الطعام على مائدة ملكية. تعارضه فلا يغضب، وتناقشه فلا يحقد، يتقبل النقد بصدر رحب، ويتقبل الثناء بخجل وحياء لا يجحد الفاضل فضله، ولا يذكر إنسانا بسوء إذا جاء ذكر من طعنه بخنجر في ظهره لا يلعنه، ولكن يقول سامحه الله وعشت معه سنوات طويلة كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة كنت أراه كلما فتحوا باب زنزانتي وكان بينه وبين بعض المسجونين السياسيين مناقشات طويلة، كانوا عددا من المسجونين الذين عذبوا وصلبوا وضربوا وأهينوا وانتهكت أعراضهم كانوا يصرون على الثأر والانتقام من معذبيهم بعد أن

يخرجوا إلى الحرية سيفعلون بهم ما فعلوه فيهم، سيذيقونهم من نفس الكأس التي أرغموهم على تجرعها كان يعارضهم ويقول لهم: هذه مهمة الله وليست مهمتنا.. نحن دعاة لا قضاة كانوا يحتدون فيهدأ، ويشتدون ويلين ويرفعون أصواتهم ويخفض صوته ويهاجمونه فيبتسم ويتطاولون عليه فيقول لهم: هذا حقكم لا ألوم المجلود إذا صرخ من ألم السياط لا أعاتب المطعون بالسيف إذا وقع دمه على ثيابي، لا أطلب منكم أن تعفوا وإنما أرجوكم أن تتركوا الأمر لله فهو المنتقم الجبار.. عذاب الله على الظالم أقسى من كل ما تستطيعون من عذاب لا أريد أن نتساوى نحن المظلومين مع الذين ظلمونا، بطشوا فنبطش بهم ظلموا فنظمهم، واجبنا أن نقابل الظلم بالعدل والقسوة بالرحمة والجبروت بالتسامح معتزا بدينه بغير تعصب، مؤمنا بالعدل كارها للظلم، يرفض العنف ويقول: ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت كان اسم هذا الرجل هو حسن الهضيبي.

وقال الشيخ محمد الغزالي الداعية الكبير عن الرجل من أيام مات حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان، وبلغتني وصيته.. لقد أوصى أن يدفن خفية لا إعلان ولا مواكب وطلب أن يوارى جثمانه في مقابر الصدقة وعقدت لساني دهشة وأنا أسمع العبارة الأخيرة في مقابر الصدقة أنني أعرف حسن الهضيبي، ففي نفس الرجل ترفع وأنفة لا يتكفلها، وهو إذا اعتقد شيئا استمات فيه دون لف أو مكر.. قلت: لم مقابر الصدقة ولم يغب عني الجواب.. لقد كان الرجل مستشارا راسخ المكانة رفيع الهامة.. لو اشتغل بمهاجمة الشريعة الإسلامية لنال جائزة الدولة التشجيعية التي نالها غيره ولو خدم الغزو الثقافي لعاش في شيخوخته موفور الراحة مكفول الرزق، ولكنه خدم الإسلام فتجرع الصاب والعلقم.. طعن مع الدين الجريح وأهين مع الدين المهان فأراد أن تصحبه هذه المكانة في منقلبه إلى الله ..!! فليدفن في مقابر الصدقة مع النكرات التي لا يباليهم المجتمع. 

فليدفن مع ناس أسلموا أرواحهم في غرفات السجن الحربي وهم رازحون تحت وطأة عذاب تنوء به الجبال «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» 

ألا فسلام الله على الرجال الذين يحفظون للحق كرامته والإيمان عزته، سلام عليهم ما دعا داع إلى الله وأذن مؤذن للحق إلى يوم الدين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

وإضاعة المال...

بقلم الدكتور/ عبدالله بن إبراهيم الطريقي

الأستاذ المشارك ورئيس قسم الثقافة بكلية الشريعة بالرياض

المال عصب الحياة وبه قوام الأبدان والبلدان وهو أحد الضرورات الخمس التي يجب حفظها، وهو زينة الحياة الدنيا، كما قال الله- جل شأنه-: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» ولهذا جاء الإسلام بتنظيم دقيق لحكم واف، سواء فيما يتعلق بكسبه، أم باستهلاكه وإنفاقه.. وقد عنى فقهاؤنا بذلك وما أبواب المعاملات المالية في كتب الفقه إلا ترجمة لهذه العناية. 

وحديثي معك أيها القارئ الكريم حول ما يتعلق بالاستهلاك والاتفاق ولنركز الحديث هنا على جانب مهم وخطير في حياة المسلمين ألا وهو: إضاعة المال.

ولقد يثير هذا العنوان استغراب بعضنا إذ كيف يتصور أن عاقلا يضيع ماله؟ ولعل الأسطر القادمة تزيل هذا الاستغراب، بل لعله يزول إذا عرفنا معنى الإضاعة في العرف الشرعي، قال ابن الأثير الجزري ت ٦٠٦هـ : إضاعة المال: يعني إنفاقه في غير طاعة الله تعالى والإسراف والتبذير  نعم هذا ضابط الإضاعة في العرف الإسلامي روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعا وهات، ووأد البنات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. 

وإذا كان هذا الحديث يشتمل على أمهات من المسائل والقضايا الخلقية، وتستأهل بحثا مستفيضًا، فإننا نقتصر على الجملة الأخيرة والتي هي صغيرة المبنى، ولكنها كبيرة المعنى وهي من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

 فلنتوقف هنا كما توقف علماؤنا من المفسرين والمحدثين والفقهاء وغيرهم أن الإضاعة تعني في مفهومها الآنف ثلاثة أشياء الاتفاق في غير طاعة الله والإسراف والتبذير.

وهذه الأشياء متداخلة، إذ بينها عموم وخصوص، فإن الإنفاق في غير طاعة الله هو إسراف وهو تبذير والإسراف هو إنفاق في غير طاعة الله وهكذا.

إن الإنفاق لا يخلو من أحد وجوه خمسة: فهو إما واجب كالزكاة والنفقة على الأهل والأولاد والقصر والكفارات وإما مندوب كالصدقات والتبرعات في سبيل الله ومصالح المسلمين.. وإما محرم كالإنفاق على شراء المحرمات كالمخدرات والتماثيل وآلات اللهو الباطل، وكالإنفاق على الجهات التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين في دينهم وأخلاقهم وإما مكروه وهو ما كان وسيلة إلى المكروه كالإنفاق على ما زاد عن حاجة الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه ومسكنه ونحو ذلك وإما مباح وهو الإنفاق في الأمور المباحة في الأمور الشخصية التي سبقت مما هو داخل في حاجة الإنسان والذي يعنينا هنا هو نوعان من هذا الإنفاق فقط وهما المحرم والمكروه، وهو الذي يكون فيه الصرف تضييعا للمال، ويكون إسرافاً وتبذيرًا.

والشارع نهى عن الإسراف وعن التبذير، يقول تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( الأعراف: 31) 

قال ابن عباس- رضي الله عنهما- "أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة" أي كِبر. 

أما ما زاد عن الحاجة فهو مكروه وربما كان محرما إذا كان إدمانا وعادة، فقد روى ابن ماجة عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت"  ويؤكد هذا الحديث الآخر "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه"، "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" رواه الترمذي والإمام أحمد وغيرهما، وهو صحيح وهذا الحديث فيه توجيه طبي صحي عظيم حتى قال بعض أهل العلم: "لو سمح بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة" وما أحسن قول الشاعر:

                إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله *** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وهكذا يكون الإسراف: الإنفاق فيما زاد عن الحاجة، كما قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: من أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، والتبذير مثله، قال ابن مسعود- رضي الله عنه- التبذير هو الإنفاق في غير حق، وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله وفي غير الحق والفساد. 

تلك الضوابط الشرعية في الإنفاق فما مدى التزامنا نحن المسلمين بهذه الضوابط؟ إن المسلم العاقل البصير إذا ألقى نظرة ولو عجلى على واقع عالمنا الإسلامي ليجد العجب العجاب والتناقضات الغريبة في حياة المسلمين الاقتصادية والمعاشية فبعض البلاد المسلمة تعيش الترف والسرف وبعضها يعيش الفقر والتقشف وليس ذلك يعود إلى معطيات الأرض وخزائنها فكل أرض الله ملأى غير أن سوء التصرف ووجود المظالم هو الذي يحرم تلك الشعوب من الحياة السعيدة الرغيدة ولا شك أن هذه الحال بهذا الواقع أمر مؤسف وأزمة خانقة لا يمكن الخلاص منها إلا بالإخلاص والجد والعودة الصحيحة إلى حياة الرشد والخير والإيمان. 

والحقيقة أن إضاعة المال ليست قاصرة على أهل الثراء ورؤوس الأموال الكبيرة في عالمنا الإسلامي، بل تعداهم إلى آخرين من متوسطي الحال صاروا يضاهون أولئك في مسالك الإنفاق وحجمه، حتى لو ترتب على ذلك الاستدانة من الآخرين بل قل قد يضطر أمثال أولئك إلى أن يسلك مسالك معوجة في كسب المال من احتيال أو غش أو رشاوي أو مراباة أو نحو ذلك.

 وليس مجالنا هنا أن نتحدث عن مصادر المال وطرق كسبه وإنما في مجال الإنفاق فكم هي الأموال التي تنفق في مجال إفساد العقل من خمور ومخدرات ومفترات؟ وكم تلك التي تنفق في مجال إفساد الأفكار والدين، فها هي وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية يحشد لها أموال طائلة وفي جملتها تفسد ولا تصلح، وتخرب ولا تعمر، وكم تلك الأموال التي تنفق في مجال إفساد العرض والشرف والنسل وكم تلك التي تصرف في سبيل الشهرة والسمعة؟ ثم كم هي الأموال التي يصرفها المسلمون في بلاد الغرب باسم السياحة والمتعة. 

هذا فضلا عن الأموال التي تصرف فيما يسمى بوسائل الترفيه والتسلية.

أجل إنها أموال هائلة يصرفها الأفراد وتصرفها الهيئات وتصرفها المؤسسات الحكومية في مجالات ليست في صالح مجتمعاتنا المسلمة، بل هي إما إهدار وإما إضرار، وكلا الأمرين جد خطير، هذا في الوقت الذي نجد فيه إخوانا لنا في الدين يموتون جوعا، أو يموتون بسبب البرد أو الأمراض الفتاكة المعدية في بلاد الله الواسعة، فهلا وقفنا وقفة تأملية تذكرنا بحالهم ومسؤوليتنا نحوهم.

بل مسؤوليتنا أمام الله، فقد جاء في الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ومن جسمه فيم أبلاه" ولنتذكر الحكمة القائلة المال مبال. 

إننا بحاجة إلى الاعتدال في هذا الأمر الجليل امتثالا للشارع الحكيم كما قال- سبحانه- «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» 

وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. والله الموفق.

 

 (١) الكهف/ ٦).

(۲) النهاية في غريب الحديث والأثر ۱۰۸/۳.

(۳) الأعراف/ ۳۰.

(4) تفسير القرطبي ۱۹۱۷.

(5) الحديث ضعيف : انظر سلسلة الأحاديث.

الضعيفة والموضوعة للألباني الحديث ٢٤١.

(6) تفسير القرطبي 7/ 191.

(۷) تفسیر ابن کثیر ۳۹/۳.

(۸) رواه الترمذي وصححه الحديث رقم ٢٤١٧.

(۹) الفرقان / ٦٧.

الرابط المختصر :