العنوان خمسة مفاهيم قرآنية حول الحج يجب الالتزام بها
الكاتب د. علي محي الدين القرة داغي
تاريخ النشر الثلاثاء 25-مايو-1993
مشاهدات 15
نشر في العدد 1051
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 25-مايو-1993
لا شك أن الحج هو أحد أركان الإسلام وإحدى دعائمه الأساسية، فهو ركن يمتاز بأنه يشترك في أدائه الجسم والمال والنفس، كما أنه مؤتمر عالمي يشترك فيه مسلمون من كل فج عميق، وأن له شروطه وأركانه وآدابه وسننه ومحظوراته. ونحن هنا لن نتحدث عن هذه القضايا الفقهية، وإنما أركز القول في المفاهيم الرائعة التي تتضمنها آيات الحج، والتي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها لتشكيل العقل المسلم وصياغته إن أردنا له صياغة إسلامية متكاملة، وتلك المفاهيم العظيمة المتناثرة في آيات الحج هي ما يأتي:
المفهوم الأول: عدم تطبيق شرع الله تعالى بمثابة الكفر في النتيجة، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ (آل عمران: ۹۷). فقد عقبت الآية على من لم يحج بقوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ (آل عمران ۹۷). مما يشعر بخطورة ترك الحج وكذلك بقية الفرائض، فكأن الآية سوت بين الكافر الحقيقي والممتنع عن الحج من حيث النتيجة، لأنها واحدة وهي عدم التنفيذ وعدم التطبيق في حالتي الكفر والامتناع. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خطورة عدم تنفيذ شرع الله. كما أكدت ذلك الآيات الواردة بشأن اليهود، والذين كانوا يطبقون بعض شرع الله ويرفضون بعضه حسب أهوائهم، فوبخهم على ذلك توبيخًا شديدًا، وسمى امتناعهم عن ذلك البعض بالكفر، وتطبيقهم للبعض الآخر بالإيمان فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 85. (
ومن المعلوم أن ترك بعض الفرائض لا يؤدي إلى الكفر ما دام صاحبها مؤمنًا، لكن هذه الآيات تتحدث عن خطورة الترك والعصيان ولا سيما إذا عم وشمل الأمة.
وهذا ما نعاني منه في عصرنا الحاضر، حيث إن أمتنا الإسلامية تعيش عصرًا أشبه ما يكون بأحوال اليهود حينما نزلت عليهم هذه الآيات الكريمة التي بينت نتيجة عدم تمسكهم بكل شرع الله تعالى، حيث كان الخزي والإذلال والتفرق والتمزق والضعف والهوان في الدنيا، إضافة إلى أشد العذاب في الآخرة، وهذا ما نراه مع الأسف الشديد في أمتنا المسلمة التي لم تأخذ بكل شرع الله حيث تلتزم بالعبادات وبعض الشعائر، ولا تلتزم بأنظمة الإسلام وتشريعاته في نطاق السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام ونحوها، فهي مسلمة في شعائر الإسلام وعاصية في أهم عرى الإسلام من العقيدة والفكر والتصورات والتشريعات، ولذلك كان جزاؤنا الإذلال الذي لم تشهده الأمة في تاريخها كما نشاهد.
المفهوم الثاني: عدم التعارض بين الدنيا والآخرة في نظر الإسلام، وهذا ما أكدت عليه آيات الحج، بل جعلت تحقيق المصالح الاقتصادية عرضًا وهدفًا وعلةً للحج، قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِر یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیق لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّام مَّعۡلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۖ فَكُلُوا۟ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُوا۟ ٱلۡبَاۤىِٕسَ ٱلۡفَقِیرَ﴾(الحج: ٢٧-٢٨)، فقد جمعت الآية ضمن الغايات والأهداف: التجارة وطلب الرزق مع ذكر الله والشكر، والأكل والإطعام للفقراء. ويقول تعالى أيضًا: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ (البقرة: ۱۹8)، حيث جمعت الآية أيضًا بين طلب الرزق وذكر الله تعالى، مما يدل بوضوح على أن الإسلام دين جامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة، كما أنها رفعت الالتباس الذي يعلق بأذهان الكثيرين من تعارض العبادات مع التجارة ونحوها، فالإسلام يريد بناء إنسان سوي كامل ليس عنده الإحساس بالازدواجية، بحيث يكون عابدًا في كل مكان، حيث يكون عابدًا في متجره كما هو عابد في مسجده، وهو عابد في حجه كما هو عابد في مصنعه ومزرعته.
فالتنافر بين العبادة والأعمال الدنيوية كان شائعًا في الأديان السماوية السابقة، ولا سيما عند المسيحية عندما ابتدعت رهبانية وفصلًا بين الدنيا والآخرة، وجعلت الاشتغال بالمعاملات مدعاة إلى غضب الرب بينما جعله الإسلام عبادة تقتضي الثواب ما دامت النعمة لله تعالى. ويدل على هذا التكامل الدعاء الذي علمنا القرآن الكريم ضمن آيات المفهوم الثالث، يقول تعالى: ﴿وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَة وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ حَسَنَة وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ نَصِیب مِّمَّا كَسَبُوا۟ وَٱللَّهُ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ﴾(البقرة: ٢٠٠-٢01(.
المفهوم الثالث: تحقيق المنافع في الحج للمسلمين وليست لغيرهم، وهذا ما أكده قوله تعالى: «ليشهدوا منافع لهم»، حيث دل بوضوح على أن منافع الحج من التجارة ونحوها لا بد أن تكون للمسلمين وحدهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أمرین:
الأمر الأول: لا بد أن تتحقق منافع كثيرة من كل الجبهات للمسلمين من المنافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها، لأن الحج مؤتمر فريد يكون من المفروض أن يستغل ويستثمر لبحث قضايا المسلمين ومآسيهم، ومصائبهم ودراستها ومراجعتها للوصول إلى وضع خطط مرحلية واستراتيجية لحلها والنهوض بالأمة.
الأمر الثاني: ما دامت منافع الحج يجب أن تكون للمسلمين، إذًا لا بد أن تكون البضائع وحاجيات الحجاج تنشأ من مصانع المسلمين لتعود أرباحها لهم وليست لمصانع كوريا والصين وهونج كونج وغيرها. إن من المؤسف جدًّا أن يلبس الحاج أو المعتمر إحرامات مصنوعة من بلاد الكفرة وأن تكون جميع لوازمهم تصنع من بلاد غير الإسلام.
المفهوم الرابع: رعاية قيم العبادات وإعطاء كل شيء قيمته ووزنه، فمثلًا فالحج على الرغم من كونه ركنًا أساسيًّا من أركان الإسلام، لكنه أقل درجة وقيمة من الجهاد في سبيل الله تعالى، فلا ينبغي الإفراط والتفريط في معرفة هذه الرتب والأولويات، يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾(التوبة: 19 -20 ).
فمشكلة المسلمين اليوم عدم النظر إلى هذه القيم والموازين والرتب والأولويات وعدم عنايتهم بفقه الموازين والقيم، ولذلك يحدث الخلل والاضطراب، فترى شخصًا يذهب إلى الحج وهو لم يؤدِّ حقوق العباد، فلم يدفع رواتب العمال والخدم والشغالات والحشم الذين يعملون له، وترى آخر يذهب إلى الحج ولم يؤد ما عليه من ديون الناس الحالة المعجلة ولم يستأذن منهم، مع أن حقوق العباد مقدمة على حقوق الله تعالى في هذا الباب. وكذلك أن ننظر من جانب آخر إلى أن الحج المتطوع يتقدم عليه أمور أخرى تخص عالمنا الإسلامي المليء بالمصائب والمآسي، فمن سبق له الحج يمكنه أن يخصص مصاريف حجه لإنقاذ مسلم من براثن الصليبية والتنصير في البوسنة وكردستان والصومال وفلسطين وكشمير والفليبين وغيرها.
المفهوم الخامس: أن الحج تدريب عملي يراد به تعويد الحاج على الالتزام الكامل بالإسلام وبالصبر والتحمل، وترك المعاصي والشهوات، لذلك يعيش الحاج فترة إحرامه ظروفًا خاصة يحظر عليه الطيب والنساء وتقليم الأظفار، وحلق الشعر واستعمال المخيط والحذاء ونحو ذلك، فهو يعيش في حالة استنفار قصوى، كل ذلك لأجل التعويد والتدريب والترويض، فإذا هو قد امتنع عن المباحات لأجل الله تعالى فكيف يستطيع أن يرتكب المحرمات فيما بعد! ومن جانب آخر يتذكر الحاج يوم القيامة ومشاهده ووقوف الناس في عرصات المحشر، كما يعوده على التواضع حيث الجميع -الفقير والغني، والحاكم والمحكوم- يقفون أمام رحمة الله تعالى في لباس واحد، الكل يطلب من رب واحد وإله واحد. فهذه الأحوال والتدريبات لأجل تهذيب الحاج نفسًا وروحًا وشعورًا وعقلًا وفكرًا وتصورًا وعملًا، ولذلك ربط القرآن الكريم هذه الأمور بالحج فيقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة:197). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري ومسلم). فقد منع في الحج حتى الجدال بحق ليتعود المسلم على عدم الخوض فيه، ذلكم الجدال الذي إن انتشر بين الأمة إلا وهو نذير بهلاكهم. والخلاصة: يريد الإسلام من خلال الحج أن يخرج الحاج من ذنوبه ومن أخلاقه السيئة وأعماله المنكرة وأقواله الفاحشة البذيئة كيوم ولدته أمه، فيبدأ من جديد حياة إسلامية جديدة. أما أن يحج دون أن يتأثر بحجه في أعماله وأقواله وتصرفاته وسلوكياته، فهذه قضية خطيرة ونذير شؤم وهلاك والله المستعان.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل