; المجتمع التربوي (1163) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي (1163)

الكاتب د.عبدالحميد البلالي

تاريخ النشر الثلاثاء 22-أغسطس-1995

مشاهدات 119

نشر في العدد 1163

نشر في الصفحة 52

الثلاثاء 22-أغسطس-1995

وقفة تربوية

نموذجان

أسوق هذين النموذجين لمن يستبعد أن تتكرر مواقف ونماذج الصحابة والتابعين، خاصة في مجالات العبادة، أول هذه النماذج لعمتي التي كانت بمثابة الجدة، فلا أتذكر منذ أن فتحت عيني على الدنيا أنني أستيقظت في ساعة من ساعات الليل منذ أن كنت صغيرًا قبل البلوغ وحتى توفيت رحمها الله وأنا في الخامسة والثلاثين، إلا رأيتها قائمة تصلي بالليل تناجي ربها، ولا أتذكر أنها أفطرت في يوم من الأيام إلا في الأعياد، وحتى إذا جلست أحيانًا مع الناس فإن لسانها لا يفتر عن ذكر الله تعالى، وكأنها من جيل التابعين إلى زماننا هذا.

والنموذج الأخر هو نموذج أحد مشاهير الدعاة في زماننا هذا، إنه عبد الله عزام  الذي نحسبه من الشهداء إن شاء الله، يخبر لي حارسه الخاص الملازم له عندما زار أمريكا عام ۱۹۸۹م، يقول ذلك الأخ: ما فتحت نافذة الغرفة التي كان يرقد فيها في الفندق في ساعة من ساعات الليل إلا رأيته قائمًا يصلي حتى أذن الفجر، فخرج من الغرفة متجهًا للمصلى، وأنا متعجبٌ، متسائلاً في نفسي: كيف نام؟ ومتى نام؟

إن هذه النماذج حجة على الكسالي من أمة محمد الله، وخاصة الدعاة منهم الذين يريدون أن يقيموا دولة الإسلام وهم يحملون هذه النفوس ذات الهمم الضعيفة، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أبو بلال

دعوة الحق تجمع حولها القلوب

بقلم: محمد الجاهوش

لن يخمد صوت دعاة الإصلاح في هذه الأمة مهما قست المحن، واشتدت الأزمات، ولسوف يقيض الله تعالى –في كل زمان ومكان– من يحملون راية الدعوة وينيرون مشعلها، ويبذلون من أجل الحفاظ على مبادئها المهج والأرواح، غير مبالين بمصاعب الطريق، ولا عقبات المسير.

سيمضون مستعلين بإيمانهم، معتزين بعقيدتهم، ساعين إلى غايتهم، لا تنحني لهم هامة، ولا تلين منهم قناة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويبلغون رسالات ربهم يريدون وجهه، ولا يقصدون أحدًا سواه.

جند الله

إنهم الفئة الظاهرة على الحق، الموعودة بالنصر والتمكين والتسديد والفلاح ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤) «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ. »(مسلم:1920)، وتاريخ الدعوة حافل بنماذج وعناوين من أتباع هذه الفئة وأعوانهم جاءوا –خلال مسيرتها– على قدر فلفتوا الدنيا إلى ربها، وعدلوا ما أعوج من سلوك أهلها، وأقاموا ماوهى من بنيان الفضيلة وصرح الأخلاق، وكانوا العقل الجديد الذي استنارت به الأمة، والرئة السليمة التي تنفست من خلالها.

مَكرٌ دفين

إن واقعنا المعاصر خير شاهد على نجاح جهود المخلصين من الدعاة وانتشار أفكارهم ومبادئهم، رغم قسوة الواقع حولهم، وتكالب الأعداء وتكاتفهم ضدهم، ورغم استسلام الأمة لليل مظلم طويل، جثم فيه الاستعمار المادي والفكري على الصدور، وكانت أبرز وسائله المدمرة تلك المذاهب والمدارس الفكرية المنحرفة في نشأتها وسلوكها وفهمها وأصل عقيدتها التي انساق وراءها عدد كبير من أبناء الأمة بمختلف شرائحها وطبقاتها.

قدر الله غالب: ولقد مضت سنة الله –تعالى– أن لا يذر المؤمنين على حالة تسوؤهم حتى يميز الخبيث من الطيب، ثم يتولى أولياءه بالعناية والرعاية والهداية والتسديد.

وتحققت سنة الله هذه في مطلع قرننا هذا- القرن العشرين، فصحت الأمة على أصوات البررة المخلصين من أبنائها مبشرين ومنذرين، فاجأها الصوت بل أذهلها فاستغربته بادئ ذي بدء لقد بَعُد عهدها بسماعه حتى نسيته أو كادت.

لكنها ما لبثت أن تيقظت منها المشاعر، وتنبهت الفطرة وألقت القلوب السمع، فإذا الصوت صوتها، وإذا المنادي ذاتها، وإذا المطلب هو أمنيتها فكيف لا تستجيب؟

وبدأت المسيرة خلف الحادي الجديد هادئة رتيبة، هي للضعف يومئذ أقرب منها، لكن الله تعالى شد أزر الضعيف وقواه، وبارك في القليل فكثره ونماه، فقدت دعوة الإسلام في القرن العشرين صوتًا جديدًا، نابعًا من ضمير الأمة وعقيدتها،ارتفع حين خفتت الأصوات، وصدع بالحق عندما سكنت الألسنة، وأحيا فريضة الجهاد بعدما أغمدت السيوف وألقيت النصال.

وقدم البذل والتضحيات في زمن الشح والانطواء، وجدد الأمل بالعزة والنصر وقد سئم الناس، وانعقدت القلوب على اليأس والقنوط. 

فليس ثمة غرابة أن تلتف الصفوة من أبناء الأمة حول باعث الأمل، ومجدد الرجاء.

ومضى الركب راشدًا يُحيي معالم الدين، ويبشر بإشراقة مستقبله، ويدعو إلى ظلال كتابه وعدالة مبادئه. 

ولم يمض غير يسير حتى غدا للدعوة في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي، وفي التربية والتعليم أثر، وغدا لها في كل بلد من البلدان أتباع، وفي كل قطر من الأقطار أشياع، وأيقظت الوعي العام في حواضر العالم وقراه.

واجب أبناء الدعوة

إنه لتركة مباركة وإرث عظيم هذا الذي خلفه رجال الرعيل الأول بعد سعي ناصب وسهر دائم، وصبر على البدء في ذات الله.

ولن يقوى على صونه وحفظه إلا من تحلّى بأخلاقهم واهتدى بفعالهم، فصبر على ما صبروا، وآثر ما آثروا، وحرص أن يتم البناء على النهج القويم، والخطة المثلى بعيدًا عن جلبة الأصوات، وبهرجة الأضواء، وإبراز الذات، فلن يثمر عمل بغير الإخلاص وحسن النية ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: ٣٧) 

 

آلام و آمال

من أخلاقيات المسلم  الرجوع إلى الحق

بقلم: جاسم المهلهل الياسين

الرجوع إلى الحق فضيلة من الفضائل التي دعا إليها الإسلام، وحث على الالتزام بها، وعمل على تربية المسلمين عليها؛ لذلك فهو من الفضائل التي يتحلى بها المؤمنون.

وضد الرجوع إلى الحق الإصرار على الباطل رغم انجلاء الغموض، ووضوح وجه الحق، وهذا لا يكون إلا من انحراف خلقي شائن، مدفوع بعوامل نفسية شتى، يدخل فيها الكبر والاستعلاء، وحب الغلبة ولو بالباطل، وخوف الظهور بمظهر ارتكاب الخطأ، والاعتزاز الآثم، والاستكبار عن قبول الحق الآتي من قبل الأشخاص الآخرين لأنهم ليسوا من أحزابهم أو جماعاتهم، والأنانية المفرطة التي تحب الاستئثار بكل مُجد.

والرجوع إلى الحق فضيلة خلقية راقية توجد عند أصحاب الفطر العالية من الناس، لأنهم بفطرهم  العالية لا يجدون في نفوسهم ما يصرفهم عن الاستجابة للحق والرجوع إليه، فلا أنانية تصرفهم، ولا عصبية تصدهم، ولا عزة آثمة تحجبهم عن رؤية الحق، وأما الأهواء والنوازع النفسية فإنهم يستطيعون أن يجدوا سبيلًا إلى مداراتها في ظل الاعتراف بالحق والرجوع إليه، فالذين بادروا فاستجابوا لدعوة الحق التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجروا ما كانوا عليه من باطل، قد كانوا أصحاب فطر عالية؛ لأنهم استطاعوا أن يطرحوا عصبياتهم جانبًا، وينبذوا أنانياتهم الخاصة، ويستهينوا بمصالحهم مع قومهم، ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوا أن دعوته هي دعوة الحق، وأن ما كانوا عليه في جاهليتهم باطل.

فهذا أبو بكر الصديق –رضوان الله عليه– لقد كان وجيهًا في قومه، وذا مكانة، ولما رأى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي الحق بادر إلى الأخذ بها، وطرح كل المعتقدات التقليدية التي عليها قومه، والتي كان منتسبًا إليها بحكم انتسابه إلى قومه، وكان المفروض أن يتعصب إليها كما تعصب إليها معظم قومه، إلا أن فطرته العالية جعلته يستهن بالعوامل العصبية التي تسيطر على النفوس، وجعلته يرجع إلى الحق ولو كانت الطريق التي سيسلكها طريقًا ليس فيها غيره وغير من هداه السبيل، ولو كانت الجماهير البشرية تتدافع في طريق أخرى، وجعلته أيضًا يستهين بمصالحه الخاصة مع قومه، لأنه لا يستطيع أن يقبل بالباطل ويسير في ركابه مهما كانت مصالحه الدنيوية ومنافعه المادية مرتبطة به، فالحق عند أصحاب الفطر العالية أحق أن يتبع، ولو كان في اتباعه تحمل صنوف من الأذى على أيدي الظالمين، وأيضًا الفاروق عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– لقد كان من أصحاب الفطر العالية، رجاعًا إلى الحق وقافًا عنده، وقد كان يستطيع أن يدوس نفسه وعزتها وكبرياءها بقدميه، ويستطيع أن يعلن ذلك على رؤوس الأشهاد متى ظهر له أن الحق في غير الأمر الذي كان يقول أو يأمر به، وكان في ذلك نموذجًا فريدًا.

تربية الجماعة على خلق الرجوع إلى الحق

لقد اعتنت التربية الإسلامية بتربية الجماعة المسلمة على خلق الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، واستثارت فيهم بواعث الإيمان الدافعة إلى التزام الحق وعدم الخروج عن دائرته، فمن أمثلة التربية النبوية على الرجوع إلى الحق ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، إذ نزل في موقع ليس هو الأفضل في الخطة الحربية المثلى، وأمر المسلمين بنزوله، فقال له أحد أصحابه وهو الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب.. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأي الحباب بن المنذر، وقال له: لقد أشرت بالرأي، ونهض سريعًا، ونهض معه من المسلمين، وعمل برأي الحباب رجوعًا إلى ما هو أفضل، ولم يجد حرجًا في نفسه أن يتراجع عن رأيه، ويعمل برأي أحد أتباعه صلوات الله عليه، وقد أعطى الرسول أصحابه في هذا درسًا عمليًا في فضيلة الرجوع إلى الحق.

ومن أمثلة التربية النبوية على الرجوع إلى الحق، ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن ترك تأبير النخل للقاحها، إذ قال لهم صلى الله عليه وسلم: «لو لم تفعلوا لصلحت»، وظن أهل النخل أن هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم تعليم ديني واجب الاتباع، فتركوا التأبير، فلم تنضج ثمار النخل إذ فقدت لقاحها، فعلم بذلك رسول الله، فقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ورجع بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عن رأيه، لأنه كان من عنده، ولم يكن تعليمًا تشريعيًا، ولا علماً ربانيًا أوحى الله به إليه.

 ولعل الله أجرى لرسوله مثل هذا لئلا يستكبر مسلم مؤمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجوع إلى الحق متى ظهر له، فهذا أكمل البشر معرفة وأرفعهم مكانة وذكرًا قد يخطئ، في بعض أمور الدنيا، ثم يرجع إلى الصواب متى ظهر له، ويعلن رجوعه إليه دون أن يجد في نفسه غضاضة من ذلك.

وقد يدعو الأمر إلى مقاتلة الجانحين عن الحق لإرجاعهم إليه ولو كانوا مسلمين، ومن ذلك قتال الطائفة الباغية بين طائفتين من المسلمين حتى ترجع إلى أمر الله وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: ٩)

 

أساليب ناجحة لدعوتك

كيف ندعو «خيار الجاهلية»؟ «ليكونوا خيار الإسلام» 

  • على الداعية دعوة المخالفين بتقديم الخير الذي عنده  وترك الشر الذي عندهم، وذلك لا يتم إلا بمخالطتهم. 

  • الاهتمام بالنفس ووقايتها من الهلاك قبل الاهتمام بالغير حتى تكون قدوة طيبة.

بقلم د. عبد الرحيم سعيد الغامدي ([1]*)

ثبت عن النبي عندما سئل عن معادن العرب قوله: «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[2]» (۱) هذا الموضوع قد استحوذ على فكري وخصوصًا في السنوات العشر الماضية التي قضيت معظمها في بلاد الغرب وقريبًا من الحركات الإسلامية عمومًا.. إن عدم اتباع الحق سببه الجهل أو الهوى أو هما معًا.. قال تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ (سورة الفاتحة: آية ٦ - ٧)، فالمغضوب عليه هو من عرف الحق وصده عنه هواه، والضال من عبد الله على جهل، وقال تعالى يصف نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ﴾ (سورة النجم: آية ٢) فنفى عنه الجهل والهوى.. وعليه فإنه يجب على المسلم الداعية أن يدرك هذه الحقيقة العظيمة التي تنير أمامه طريق الدعوة، فإن كثيرًا من المخالفين جاهلين بالحق وخصوصًا خيار الجاهلية، وبعضهم متبع لهواه وقليل من جمع بينهما، وبسبب صعوبة التمييز فإن من حسن الظن أن نعتبر أن المخالفين ينتمون إلى الصنف الأول فما وسائل تحقيق ذلك؟

سلامة القصد: فإذا كان المسلم سليم القلب مريدًا لله والدار الأخرة، لا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، أصبح قلبه مشفقًا ونفسه متحسرة على كل من حاد عن الطريق المستقيم، وأصبح همه الأول بيان الحق وكشف ما يقابله من سبل وأهواء دون الانتقاص من أصحابها قال تعالى يخاطب النبي: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (سورة فاطر: آية ٨) وقال تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الكهف: آية ٦)

الرفق: قال تعالى لموسى وهارون عندما بعثهما إلى فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ (سورة طه: آية ٤٤)، قال صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير» (۲) وصح عنه قوله: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (۳) وثبت عنه قوله: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطى على ما سواه» (٤) ومن الرفق أن نترفق بمن بدر منه ما يخالف الصواب، وذلك بمناقشته شخصيًا، وإبداء رغبتنا في الوصول للحق والثبات عليه، فإن هذا أرفق بالنفس وتسهيل الطريق لها للرجوع للحق، فربما عاد عن ما ذهب إليه وتولى الرد على نفسه وكفانا مؤونة ذلك، ونكون بهذا قد كسبناه، وربما كان ما ذهب إليه موافقًا للصواب فنأخذ به، وإما أن نتيقن أن ما ذهب إليه مخالف للصواب، وما زال مصرًا عليه عندها نقول له إننا سنقوم بالرد عليه بيانًا للحق وهو العهد الذي أخذه الله على العلماء قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ (سورة آل عمران: ١٨٧) لا تشهيرًا بصاحب الرأي المخالف ولا انتقاصًا ولا تشفيًا منه.

المخالطة: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط ولا يصبر على أذاهم[3]» (٥) وروي عنه قوله «خالط الناس ودينك لا تكلمنه[4]» (٦) ومن ثمار المخالطة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعرفة أخلاق وطباع الرجال والقرب منهم بالنصح، أو الاستفادة منهم فيما يجيدونه، ليس هذا فحسب، بل إن الداعية المخلص الرفيق بالناس، المشفق عليهم القريب منهم هو أقرب الناس إلى قلوبهم ونفوسهم، فيسهل عليه حينئذ إرشادهم ودعوتهم، أما إذا أصبح دعاة الإسلام لا يختلطون إلا ببعضهم البعض أو مع أتباعهم، فإن هذا يحجبهم عن مخالطة من يحتاجهم أو ربما يحتاجونه فيما يحسنه، ولا ننسى أن مخالطة أهل الخندق الآخر تبين لنا ما عندنا من عيوب، لأنهم سيكونون أكثر صراحة من الدعاة مع بعضهم بعضًا، وعندها يمكن تلافي هذه العيوب والسير بالدعوة إلى الأمام.

والمخالطة قد تتم بدعوة المخالف في المناسبات الخاصة التي غالبًا ما تكون من نصيب الموافق وفتح قنوات الإتصال، وبيان ما عند المخالف من المزايا والصفات الموافقة للصواب، مع بذل الهدايا لتقريب النفوس والتهاني إن حصل للمخالف أمر يسره من ولادة مولود أو تولى منصب أو غير ذلك.

تجنب سوء الظن:  قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (سورة الحجرات: آية ١٢)، وقال صلى الله غليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (۷) فإن إحسان الظن بالمخالف يجعل الداعية يدرس الرأي المخالف بكل دقة، ويتلمس مواطن الخطأ والصواب فيه.

إقامة الحجة: في كثير من الأحيان نسمع من العلماء والدعاة عمومًا هذه العبارة وهي «إقامة الحجة» ولا أدري هل المقصود بها التوسع في بيان الأدلة والشواهد على بطلان الرأي المخالف وحسب، أم أن هناك جانبًا عمليًا لا يقل خطورة عن الجانب النظري، بل قد يزيد ويتمثل في إقامة الحجة العملية من قبل الدعاة والعلماء التي تكمن في تبني الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وفي كل المواقع بحيث يصبح الدعاة والعلماء، حججًا عملية كما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه «كان أحسن الناس خلقًا[5]» (۸) وعليه فيجب على الدعاة والعلماء وطلبة العلم أن يعوا هذه الحقيقة، وإلا أصبحوا جزءًا من الصد عن سبيل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي قصة أحمد بن حنبل –رحمه الله– خير مثال على عمق تأثير الحجة العملية، فعند وفاته سار في جنازته ما يزيد عن المليون مسلم، وأسلم يومها أكثر من عشرين ألفًا من اليهود والنصاري متأثرين بمنهجه العملي المتمثل في قول كلمة الحق والصبر على الأذى.

حسن المجادلة: وتتمثل في التواضع في عرض الأفكار والمعتقدات لا فرضها، لتكون دافعًا وباعثًا لمواطن الخير في نفس المخالف، وشحذا لتفكيره المجرد الذي قد يقوده إلى الطريق القويم قال تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (سورة سبأ: آية ٢٤) فإن من المعلوم أن طريق الحق لا يقبل التعدد وأن الباطل متعدد، وهنا يؤمر الرسول أن يقول للكفار إنه لابد أن يكون أحدنا على هدى والأخر في ضلال مبين، مع علم رسولنا بمن هو على الحق.. ولكنه أدب الدعوة والجدال، وقال تعالى في آية أخرى ﴿قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (سبأ: ٢٥) وهنا نسب الجرم لدعاة الحق، ونسب العمل للفريق الآخر.

نقد الذات: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: ٦) فتدل الآية على الاهتمام بالنفس ووقايتها من الهلاك، وتقويمها قبل الاهتمام بتقويم ووقاية الأهل والأقارب والأباعد، ولكن الملاحظ وبشكل لا يخفى على من تدبر أن كثيرًا منا تؤرقه صغائر غيره وينام قرير العين مع كبائر نفسه.. فهل هذا التصرف سائغ ولماذا استشرى بهذه القوة.. وهل بلغ بنا حبنا الآخرين أن أرقتنا معاصيهم، وبلغت كراهيتنا لأنفسنا أن نوردها النار.. والجواب أن هذا التصرف غير سائغ ولم تبلغ محبتنا الآخرين هذا المبلغ ولكنه الضعف أمام شهوات النفس وعدم كبح جماحها.. فما مالت إليه نفوسنا عجزنا عن ردها عنه، وما مالت إليه نفوس الآخرين نرى من وجهة نظر نفوسنا أنه أمر كان يجب ألا تميل إليه النفوس أصلًا، وهكذا نظرة الآخرين لنا.. فتجد الشاب منا وظاهرة التدين لا يتورع عن الأخذ بالرخص في كثير من تصرفاته، ويطالب الآخرين بالعزائم وتجنب الرخص وحمل النفس على ما تكره... فتجد من يصلي بالناس يطيل الصلاة، وإذا صلى لنفسه خفف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان أخف الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه[6]» (۹)، وتجد صاحب متجر يبيع علب التبغ «الدخان» وينكر على المدخنين التدخين، وإذا قيل له لماذا تبيعه قال إن لم أبع لهم باع لهم غيري.. وتجد منا من ينكر على غيره قبول منصب ديني أو دنيوي بدعوى منافاته للتقوى أو مظنة حصول بعض الفتنة.. وعندما يعرض عليه نفس الأمر يتقبله وبلا تردد ثم يورد المسوغات التي تبرر تصرفه.. فإلى متى ونحن نتخبط في هذا الغي من الشهوات التي أعمت البصر والبصائر.

النافذة التربوية

انظر لأصابع يدك

يعتقد بعض من المربين أن العملية التربوية هي قولبة الخاضعين للتربية في قالبهم الخاص بهم، ويريدون أن يخرج هؤلاء نسخًا مكررة من شخصياتهم تحاكيها وتمشي على نسقها، وتسير على أسلوبها وإذا كانوا غير ذلك –أي على غير نمط المربي– فإنهم فاشلون –في نظره طبعًا–!!

أيها المربي الفاضل.. قف لحظة وتأمل في أصابع يدك ماذا تجد؟ بعضها طويل والآخر قصير، أحدها سمين، والأخر نحيف، والباقي بين هذا وذاك على نحو متفاوت، ولعلك تتساءل لماذا هذا التباين بينها وأصلها واحد؟!.

إن عملية التربية عملية معقدة جدًا، والسبب في ذلك يعود إلى أن الشخصية الإنسانية والنفس البشرية لا تقاس بمسطرة وقلم ومعادلات وقوانين، حيث تتداخل فيها المؤثرات والظروف المختلفة المحيطة بها، لذا يخطئ بعض حملة لواء التربية عندما يتعاملون مع بعض أفرادهم، حسب ما يقرءون في الكتب عن الشخصيات وأنواعها، والنفسيات وتعدُّدها وكيفية التعامل مع كل شخصية.

أيها السادة.. يجب أن تعلموا أنه لا يوجد هناك تطابق تام بين شخصيتين مهما تشابهتا في بعض سماتها، لذا ما يصلح لزيد لا يصلح لعمرو أحيانًا، وما يصلح لك لا يصلح لغيرك أحيانًا، هذا ما يجب أن يُعلم وإلا حكمنا بالفشل على كثير ممن هم تحت أيدينا!!

إن «الإنسان كائن ذو تركيب عجيب، فهو حين يولد، يولد فريدًا في تكوينه، وحيدًا في شخصيته، ينمو محافظًا على فرديته ووحدته، متوازيًا مع نموه الاجتماعي ككائن حي يتفاعل مع غيره، مفتقرًا لسواه في بدء الحياة ودوامها، ففرديته تتجلى في شدة اهتمامه بنفسه وحرصه على تحقيق ذاته ورغباتها، وتختلف فرديته من سنة إلى أخرى مع استمراره متميزًا بفروقه العامية التي تتفاعل مع الجماعة، وهي أيضًا تساعده على تحقيق ذاتيته، وإشباع فرديته، والجماعة بالتالي تستفيد من مواهب الفرد، فتمهد له سبيل الإشباع، فالنظم الاجتماعية الناجحة هي التي تستطيع أن تجعل الفروق الفردية «نقاط انطلاق» و«مراكز عمل وإنتاج»، وموطن توزيع للكفاءات والوظائف والحقوق».

«من أساليب الرسول في التربية –لنجيب العامر– ص ١٥٦».

عبد اللطيف محمد الصريخ

 


 

  • أستاذ في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

)[2] 1-4-7)  مختصر صحيح مسلم  للمنذري –تحقيق الألباني  رقم 1615-1783-1784-1785-1803

(3 ) الترمذي

(4) البخاري الأدب 81

)[5] 5) متفق عليه

(6) سلسلة الأحاديث الصحيحة 2056

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل