العنوان المجتمع التربوي.. (1171)
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
مشاهدات 8
نشر في العدد 1171
نشر في الصفحة 50
الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
فتنة الهموم الصغيرة (٢) من (٢)
الاســـــــــــتعلاء بالإيمــــــــــــــان
بقلم: علاء حسني المزين (*)
وعبر مسيرة التاريخ تطالعنا نماذج أخرى من علماء الإسلام ورجالاته الأفذاذ الذين وعوا الحكمة العمرية من بعد الهداية النبوية ولا تصغرن هممكم، فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم (۱).
ويلخص ابن الجوزي نفسيات الكثيرين ممن أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية وتأثيره إذ يقول: "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء" (۲)، وإذ يقول: "إذا كانت النبوة تكتسب، فمن العجز أن تقنع بمرتبة الولاية" (۳).
على النهج ذاته يقرر صاحب الذريعة قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، أو إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكا، وأن يرضى بقنية مستعارة وحياة مستردة، وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤيدة (٤).
إنها نماذج رفيعة وعت هذه الحقيقة العميقة من حقائق الإسلام ومتطلباته فتفتحت نفوسها لها، أو معها أي تفتح فكان أن أنجزت تلك الإنجازات الضخام التي يقف أمامها التاريخ حائرًا أو مندهشًا.
4- مطمح النفس المؤمنة
إن التسامي نحو كل ما هو أسمى وأعلى هو مطمح كل ذي نفس مؤمنة حتى في دعائه فهو لا يطلب الجنة فقط، وما أسماه من طلب في ذاته؛ فهي محط الآمال، ومدار الرجاء لكل نفس مؤمنة، لكنه يطلب أعلى ما فيها الفردوس الأعلى، وبأمر الرسول له نفسه في توجيهه الرائع "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة" (٥)، بل إنه يتذكر دائما مع كل أذان أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم عالي الهمة الذي يرنو عن يقين ومشاهدة إلى "الدرجة الرفيعة العالية"، التي لم يؤتها قبله أحد من إخوانه أنبياء الله أو الملائكة المقربين، وكم في هذا التذكر المستمر من فيوضات تسري في جنبات نفسه ليعيد صياغتها، بل ربما غيرت كيميائيتها ذاتها.
وإلى هذا التذكير الدائم الدائب من خلال الأدعية التي تصاحبه أو يصطحبها طيلة حياته. بياض نهاره، أو سواد ليله، هناك كم هائل لابد أن له نصيبا منه من الآيات والأحاديث والمواقف النبوية التي تستحثه وتهدي سيره في دروب الحياة وترقى به في المراقي العلى:
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (النحل: ۱۲۸)، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف ۲۰)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة : ١٤٣).
"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خيره" (٦)، "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" (۸) "لا يكن أحدكم إمعة، يقول أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت" (۱۰).
وغير ذلك كثير من فيض النور الإلهي والحكمة النبوية المستلهمة أنوار الحكمة الإلهية، ويبقى السؤال الكبير ثمة: أين مسلمو اليوم من ذلك كله؟!
5- رؤية لواقعنا المؤسف
لا تخطئ النظرة البادهة ما عليه شخصية المسلم اليوم في الأغلب الأعم من تناقض صارخ أو على الأقل تباعد مزعج عن تلك الآفاق التي ينبغي أن تدور فيها، مما يؤكد لنا ما ندعيه من وجود إشكالية تربوية في العالم الإسلامي:
فأولاً : على صعيد اهتمامات الأفراد نجد الاهتمامات الدنيوية القريبة تحتل المواقع الأولية في سلم الاهتمامات التي تستهلك أعمار الناس؛ فتأمين لقمة العيش، وتوفير الحياة الراغدة السهلة وتحصيل اللذائذ، والمكتسبات الدانية من منصب أو جاه أو مكانة اجتماعية هي المحاور الرئيسية لنشاطات أغلب الناس وصراعاتهم، إضافة إلى أن أصنام هذا الزمن أو ملهياته الكثيرة تتضافر على استهلاك الجزء المتبقي من أعمار الناس وتبديدها. فهناك مباريات الكرة بأنواعها، وما يتعلق بها من صراعات حمقاء، وتغذيها صحافة متعصبة موجهة، وإعلام مغرض خبيث، وهناك عالم الفن الزائف بإفرازاته المدمرة من كواكب ونجوم تدمر ولا تهدي وإنتاج مسف في أغلبه يهدر ويهدر، ثم ما يتعلق بذلك كله من قوى منتفعة تحرص على بقائه، وتتشبث به كل التشبث.
أما الاهتمام بالارتقاء الروحي والعناية بمتطلبات الانتماء الإسلامي، فتأتي في مواقع متأخرة، وإن كان هذا يتفاوت بغير شك من مرحلة سنية لأخرى، ومن بيئة لأخرى لكننا على كل حال نتناول الظاهرة في عمومها.
وثانيًا: على صعيد الفاعلية الإنتاجية للشخصية المسلمة نجد ما يفزع؛ فإنتاجية المسلم هي أقل إنتاجية في العالم، ومعدل الإبداع في العالم الإسلامي أقل من غيره في بقاع الأرض وإضافات المسلمين لمسيرة الحضارة الإسلامية لم تعد على النحو الذي يشرف ويبهج برغم توفر إمكانات مادية، ومحفزات متنوعة، لم تكن متوفرة لأسلافنا الذين قادوا البشرية ورفدوا الحضارة الإنسانية المتميزة ردحاً طويلاً من الزمن.
ثالثا : على صعيد المركز الاجتماعي الدولي للمسلم وهو محصلة طبيعية لما يكون عليه الإنسان في الصعيدين السابقين؛ فالأمر أوضح من أن يخفى "وما يوم حليمة بسر»، كما يقول المثل.. فاستئساد الكفار واستطالتهم علينا واستهانتهم بنا، وتكالبهم على نهب مقدراتنا واستنزاف مواردنا قد بلغ حدًّا لم تشهده الأمة حتى في أحلك فتراتها التاريخية الماضية.
6- بين التعليل والتأميل
ومن الضروري استكمالا لجوانب الموضوع أن نتلمس بعض أسباب ذلك الذي عرضناه آنفًا من واقع الشخصية المسلمة المعاصرة.
وأؤكد ابتداء أنه لا يعنينا كثيرًا في هذا الصدد أن نلجأ إلى ما اصطلح على تسميته بالتفسير التآمري للتاريخ أو الأحداث، بأن نرجع كل ما نشكو منه ونتأسف له من هزائم وانتكاسات وتخلف وتدهور على كافة الأصعدة إلى عامل واحد أو وحيد هو العامل الخارجي المتمثل في أعداء الأمة التاريخيين والمحدثين من يهود وصليبيين، وشيوعيين، وغيرهم.
ولا شك أن لهؤلاء الأعداء ومؤامراتهم أثرًا فيما تعانيه أمتنا، بيد أن هناك حقيقة بسيطة ينبغي ألا نغفلها وهي أن هذه المؤامرات ما كانت لتفعل فعلها، وتؤتي ثمارها لو لم تكن تربتنا خصبة ومناسبة لاستنبات بذورها الخبيثة.
فالبحث عن أسباب ضعفنا وتدهورنا وتخلفنا الحضاري في واقعنا الاجتماعي ومعطياته التاريخية، هو واجبنا الأول فيما أدى، وقد تحقق في الآونة الأخيرة ما يشبه الإجماع بين كثرة من مفكري الأمة المنشغلين بقضاياها على أن محور أزمة الأمة الراهنة يتمثل في ما يمكن تسميته اضمحلال شخصية الفرد المسلم، وهو ما بينا آنفا بعض أهم مظاهره، وهذه الأزمة ترجع في تحليلها النهائي إلى بعد تربوي رئيسي ترفده ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية متآزرة.
ومن ثم فإن التغيير المنشود يعتمد إلى حد بعيد على مدى توفيق الله لنا في بلورة الصيغة التربوية المناسبة التي يتم من خلالها إعادة الشخصية المسلمة وصولاً إلى ما ينبغي أن تكون عليه خير أمة أخرجت للناس في واقعها الحضاري، وموقعها الدولي.
وهذا في تقديري لن يُحدث طفرة بين يوم وليلة، وإنما عبر مخاض قاس ومعاناة مستمرة وتجارب متنوعة، وإسهامات متضافرة على امتداد الرقعة الإسلامية تجهد في توصيف الواقع و"العوامل الفاعلة" التي أسلمتنا إليه، و"العوامل المعنية"، التي تعين على بقائه على ما هو عليه، ومن ثم توضع الخطة الملائمة لإحداث عملية الإقلاع الحضاري، وضمانات استمرارها ورعايتها وفق برامج زمنية مدروسة في حدود الإمكانات المتاحة في ضوء استشراف دقيق للصورة المأمولة لواقعنا المستقبلي، تلك الصورة التي تستمد عناصرها ضرورة لا من الماضي وحده وإنما من معطيات واقعية ومستقبلية في آن واحد.
ونحمد الله أن هذه الهموم الكبار قد باتت محورًا لكثير من الجهود المخلصة من قبل الغيورين على الأمة الحريصين على الارتقاء بها لتبوء مكانتها اللائقة بها في دنيا الناس.
ولعل هذا من تباشير فجر قادم لا ريب فيه يأذن الحق سبحانه لرايات دينه أن ترتفع خفاقة فتقر قلوب المؤمنين أصحاب الهمم العوالي بنصره الذي وعدهم (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ج الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).
وما هذا الوعد المتيقن من العاملين ببعيد فليتهيئوا لاستنزاله، وليحذروا الهمم الصغار وأحلاس الهمم الصغار.
الهوامش:
- أدب الدنيا والدين ص ۲۲۰ (طبعة عبد الحميد أحمد حنفي ١٣٧١هـ).
- صيد الخاطر لابن الجوزي ص ١٥ (طبعة مكتبي العلم بجدة، وابن تيمية بالقاهرة).
- المرجع السابق ٣٥٩ (بمعنى).
- الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص (٥).
- البيهقي في الدعوات عن أبي هريرة بسند ضعيف.
- رواه الترمذي بلفظ، وقال حديث حسن.
- أحمد، والطبراني، عن ابن عمر، حديث صحيح.
- متفق عليه.
- أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، وفي سنده ضعف.
- رواه الترمذي بلفظ، وقال حديث حسن.
- محاضر في الجامعة العالمية الإسلامية في ماليزيا
المسلم والأفكار الضالة المستوردة
بقلم: محمد أبو سيدو
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله.. إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هدى تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم.. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: صفهم لنا قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
كان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن عمر بن الخطاب كان يسأله عن المنافقين، فكان حذيفة لا يكتفي بالسؤال عن أمور الهدى والرشاد، بل تعداه إلى السؤال عما يهم المسلمين، فكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، وعن أوصافهم وأعمالهم، والرسول يطلعه عليهم وينبئه عن أحوالهم وصفاتهم، حتى لم يكن أمر المنافقين ليخفى عليه، وإن كبار الصحابة يسألونه عن أمور تتعلق بالساعة والفتن، وكان يخبرهم بذلك.
ويروى أن عمر بن الخطاب لشدة خوفه من الله وخشيته من النفاق كان يأتي إلى حذيفة فيقول له: أسألك بالله هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟! ويخبر حذيفة -رضي الله عنه- أنه كان حريصًا على معرفة دعاة السوء والضلال ومعرفة الشر والفساد ليجتنبهم ويجتنب دعوتهم، وقد أخبره رسول الله أن هناك فئة ضالة باعت نفسها للشيطان فوقفت تدعو الناس إلى الضلال، وهذه الزمرة الشيطانية ليست غريبة عنا، بل هي من جلدتنا وأصحابها يتكلمون بألسنتنا، إنهم يزعمون الإسلام، ويعملون على هدمه، ويدّعون الدين ويجهدون في إطفاء نوره ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة 11، 12)، ويوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة إلى لزوم جماعة المسلمين وتجنب أسباب الفرقة والفتن ولو دعاه ذلك إلى أن يلزم بيته ويبتعد عن الناس جميعا فلا يخالطهم ولا يغشى مجالسهم ليسلم له دينه.
وفي أيامنا هذه كم هناك من نظريات باطلة، ومذاهب فاسدة، كانت في طبيعتها أسلحة فتاكة قامت للقضاء على مبادئ الإسلام السامية، وكانت تدعي أنها تلعب دورًا بارزًا في إسعاد الحياة البشرية وانخدع بهذه الشعارات كثير من الناس لأنها كانت تدعي أنها ستحدث انقلابًا في إعطاء الإنسانية حقوقها، وكانت كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء.
هذه الأنظمة المصطنعة اعتبرت الدين حجر عثرة في طريقها كالاشتراكية.
وعلى المسلمين في هذه الأيام أن يكونوا حذرين من الشعارات المخادعة، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وينادي دعاة العلمانية بأن العقيدة الدينية وما يتبعها من عبادات لا يجب الالتزام بها إلا في حياة الأفراد الشخصية باختيارهم، أما ما عدا ذلك من شئون العالم فإنه يعالج على أساس المادية البحتة، وفق رغبات البشر، ووجهات نظرهم وميولهم.
وقد نشأت العلمانية حين وقف الكهنة ورجال الدين من النصارى حجر عثرة أمام الفكر، وحاربوا كل عقل مستنير فتحول العداء بين العلم والكنيسة إلى نظرية مستقلة أصبحت حجر الأساس في قاعدة المدنية الغربية.
وانتشرت هذه الأفكار، حتى أن بعض المثقفين من ثقافة الغرب أصبحوا يرددون الدين صلة بين العبد وربه، وإذا كان الإنسان يؤمن بوجود إله يستحق العبادة وحده دون سواه فله أن يعتقد ذلك على أن تكون عبادته في نطاق حياته الفردية.
والحقيقة أن الإسلام دين شامل يتناول جوانب الحياة كلها في العقيدة والعبادة والمعاملة، والسلوك والتشريع، والقضاء وشئون الحكم.
قصة طالوت وجالوت..
قراءة في أوراق جولة في التدافع الحضاري (۲ من ۷)
الخطـــوة الأولــى للجهــــاد
بقلم د. حمدي شعيب
4-﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) العجيب أن تأتي المبادرة إلى العمل والجهاد في سبيل الله، والتحرك الحماسي الفائر والدعوة للاستنفار العام من قبل الملأ، ونحن نعلم أن القرآن يعني بالملأ أنهم أشراف القوم وقادتهم ورؤساؤهم وسادتهم، فهم إذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه، والوصف الغالب على الملأ من كل قوم معاداتهم للدعوة إلى الله تعالى، ومن أهم هذه الأسباب الكبر وحبهم للرياسة والجاه والجهالات التي حسبوها أدلة ويقينيات، وهم يوجدون في كل مجتمع وفي كل زمان ومكان) (۱).
وهل هذا يفسر كثرة أعداد الناكصين منهم بعد ذلك أمام عوائق الطريق؟ أم أن خطر العمالقة -وقيل إنهم الفلسطينيون- الذين غلبوا بني إسرائيل على أمرهم قد زاد حتى هدد مصالح هؤلاء الأشراف، فأخرجوهم من ديارهم، وحيل بينهم وبين أبنائهم، وأخيرًا أخذ التابوت منهم، فانفصمت عورتهم فذلوا؟
وما يعنينا في هذا الملمح التربوي، هو أن قضية الجهاد قد أصبحت حديث الشارع ولسان حال الأمة، وتم إعلان حالة التعبئة الجهادية العامة، فوصلت الفكرة إلى الطوائف واتسعت القاعدة المؤمنة بالقضية؛ فالتحرك للجهاد، يجب أن يتميز بضوابط منها اتساع قاعدة الفكرة، وجماعية التحرك بها، ثم وحدة التوجه والانقياد لقيادة واحدة، لأن (الخطوة الأولى في مواجهة أي عدو هي إرادة القتال والتصميم عليه، وقد انبعثت هذه الإرادة لدى الملأ، واستطاعوا أن ينشروا هذه الروح العالية في صفوف أبناء الأمة، لتصبح إرادة جماعية) (۲).
وكم من تجارب ألّمت بالأمة من جراء انعزال الفكرة، أو تصبح نخبوية، وكذلك من تفرق العاملين على رؤى وأفهام شتى فسهلوا خطط أهل الباطل لعزل الفكرة عن الناس ولتشويهها، ولتحجيم أهل الحق، ثم تأمل ساحات الجهاد على رقعة أمتك، وعلى امتداد ميادينها، ولا ينبئك بمثل واقعها المعتم والمنعزل والمجهول خبير!!.
دعوة إلى فتح الملفات
5- ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ)، تأتي هذه القصة من خلال قراءة في ملفات تاريخ بني إسرائيل، ومن واقع سجلاتهم، (وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودًا في القرآن الكريم لأسباب عدة منها أن الله - سبحانه - علم أن أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل، فعرض عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل لتكون عظة وعبرة، ولترى صورتها في هذه المرأة المرفوعة لها بيد الله – سبحانه- قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق، إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي، وأن يتدبر على أنه توجيهات حية تتنزل اليوم لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل، لا على أنه مجرد كلام جميل أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود) (۳).
وهذا يعطي العاملين درسًا تربويًّا في أهمية القراءة، وخاصة التاريخ، سواء تاريخ البشرية العام أو تاريخ الدعوة، ودراسة تاريخ بني إسرائيل، يجب أن يتفهمه، ويتدبره كل من ندبهم الله عز وجل للمشاركة في عملية النهوض الحضاري للأمة المسلمة، والخروج بها من (مرحلة القصعة)، ولقد كشف القرآن الكريم بكل الوسائل الإيضاحية، وخاصة الأسلوب القصصي التربوي، تاريخ هؤلاء القوم فأعطى منه نموذجًا تحذيريًّا حول مزالق الطريق الذي عثرت فيه بنو إسرائيل، عندما استخلفها الله، فنكلت ونكصت وارتكست وحرمت مقام الخلافة، وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض، ومنهجه لقيادة البشر، فما أشد الحاجة إلى تدبر هذا النموذج التاريخي، ولفهم تلك التجربة، وما أشد الحاجة إلى فهم مغزى التوجيهات القرآنية المباشرة أو التي تأتي ضمنيًّا خلال سياق قصص بني إسرائيل في كتابه جل وعلا.
ولا يليق أن يضم صف الدعاة العاملين من لا يقرأ، حتى أصبحت حصيلته سماعية فقط، حتى سماه أحد الدعاة الأفاضل بأنه مثقف الأشرطة.
أو من يسميه د. القرضاوي: فاقد الذاكرة، وهو كل من يهمل قراءة التاريخ.. الذي هو ذاكرة الأمة، فينسى توجيهاته سبحانه: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (٤) ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (٥).
أو يضم ذلك اللقيط التائه، الذي راه شوقي -رحمه الله- فوصف حيرته:
مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الحي انتسابا
أو كــمـغــلـــوب على ذاكــــرة يشتكي من صلة الماضي اقتضابا
الخطوة الثانية للجهاد
6- (إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّه)، لقد كانت حالة التعبئة العامة للأمة من الانضباط والنظام بحيث دعت الكبراء لينوبوا عن الجميع ويتحدثوا باسمهم، فتوجهوا جماعيًّا إلى نبيهم (وقيل إنه شمويل أو صمويل الذي أتى بعد موسى - عليه السلام) كمجموعة على نفس الرأي وطلبوا منه - عليه السلام . أن يختار لهم عن طريق الوحي قائدًا يجتمعون حوله، والخطوة الثانية الأساسية في القتال هي القائد الذي تجتمع حوله القلوب، وتلتف حوله النفوس، وحيث إن النبي بين ظهراني بني إسرائيل، فلا مندوحة من طلب اختيار القائد عن طريقه، أما لو كان الوحي غير قائم فيهم، فالأصل أن يختار هؤلاء الملأ قائدًا من بينهم ) (٦)، وهذا يبين مدى التربية أو الشدة التي أوصلتهم إلى وحدة في التوجه إلى قائدهم وزعيمهم، فلم يتفرق شملهم، وكذلك في طلبهم أن يعين عليهم ملكاً واحدًا يقودهم.
وكانت حالة التعبئة العامة، كذلك من الفهم العميق، بحيث تمثلت في رغبتهم العارمة في الجهاد في سبيله سبحانه، لا في سبيل غايات أخرى.
وكم من مآس أودت بأمتنا من جراء عدم الانضباط، ومن جراء الخلل في فقه الجهاد، ثم من جراء التفرق بين قيادات شتى مما أدى إلى الفشل المرة تلو المرة في اقتطاف ثمار النصر، حتى راجت مقولة الإسلاميون.. بذل وجهد وتضحيات، ولا ثمرة !!.
القيادة .. ترمومتر البذل
7- في موقف نبيهم، أمام انتفاضتهم الحماسية، لقد كان من حكمته أن نظر إليهم وراجعهم، (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) فإن تاريخكم في النكوص وفي التقاعس قد نضحت به الملفات، وأنتم الآن في سعة، ولم يفرض عليكم القتال، فإن فرض فلا نكول، ولا نكوص، ولا عودة للتردد وردوا عليه مقدمين مسوغات وأسباب تلك الحماسة الفائرة، فحالهم ليس هناك أسوأ منه (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا) ثم كان منه أن أمهلهم حتى يستخير الله في أمرهم.
مثلما حدث في غزوة بدر الكبرى لما بلغ الرسول له خروج قریش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثانيا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثالثا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم فبادر سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله كأنك تعرض بنا وكان إنما يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج، استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها وإني لأقول عن الأنصار وأجيب عنهم فأظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت واعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك)، وقال له المقداد: (لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك)، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بما سمع من أصحابه، وقال: (سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم) (۷).
فتدبر ما فعله الحبيب الله من المراجعة والمشورة، والاطمئنان على أن الجميع على نفس الفهم وعلى نفس العزيمة، وتدبر مبادرة سعد -رضي الله عنه - وهو يعطي المثال للجندي اللماح البديهة، الذي يقرأ أفكار قائده في ظروف لا تتحمل التأرجح ولا التردد، وتدبر كذلك فهم المقداد - رضي الله عنه - للتاريخ خاصة بني إسرائيل، وتأمل النظام المنضبط عند الأنصار والمهاجرين في انتداب من ينوب عنهم من قياداتهم، فيتحدث بلسانهم، فلا مكان لغوغائية في مثل تلك المواقف، وفي مثل ذلك الصنف.
وهذا كله ليس بمستغرب على جماعة تربت بالحركة ومن خلال الأحداث، ويتربية جهيدة في أصعب المحن التي مرت بالدعوة خلال مصيبة أحد كان هناك القرآن الكريم يوجه ويرشد ويسد الخلل، فمهما كانت نتيجة الشورى، ومهما جنى أتباع الرأي الآخر، وإن كان من المتحمسين فالشورى واجبة، وبعدها القرار والعزم وعدم التردد: (اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ ) (۸)، ولهذا كان قراره وبعد أن استعد: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه (۹).
وبهذا الفهم كانت وصايا رواد التجديد في فهمهم للحماسات، ووجوب ضبط المشاعر والتوازن بين الاندفاع العاطفي وبرود الحسابات العقلية، وتأمل ما قاله الإمام البنا - رحمه الله: (ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد) (۱۰).
لهذا كان على الدعاة أن يخرجوا من هذا الملمح التربوي برؤية من شأنها أن تقرر وتعمق المفاهيم حول الأسلوب الذي يجب أن تسكله القيادات أمام الحماسات الفائرة بعدم التسرع في قرارات لا تستند إلى واقع، ثم المراجعة والمواجهة، وأخذ الرأي والمشورة، ثم التريث واستخارته سبحانه، فما خاب من استخار وشاور المخلوقين، ثم بعدها المضي دون تردد.
الهوامش:
- أصول الدعوة – د. عبد الكريم زيدان ص ۱۸۰ – ۱۸۱ بتصرف.
- المنهج التربوي للسيرة النبوية - التربية الجهادية - منير الغضبان ص ۲۰.
- في ظلال القرآن - سيد قطب ٢/260.
- آل عمران: ۱۳۷.
- غافر: ۸۲.
- المنهج التربوي للسيرة النبوية - التربية الجهادية – منير الغضيان ص 30 – 31.
- زاد المعاد - ابن القيم ٣/ ١٧٣ – ١٧٤.
- آل عمران: ١٥٩.
- زاد المعاد - ابن القيم ٣/ 193.
- مجموعة الرسائل - المؤتمر الخامس - الإمام البنا ص ۱۲۷.