; المجتمع التربوي (1441) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي (1441)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر السبت 10-مارس-2001

مشاهدات 10

نشر في العدد 1441

نشر في الصفحة 54

السبت 10-مارس-2001

 

إعداد : عبد الحميد البلالي

وقفة تربوية

عالم رباني

يواصل الشيخ عبد الوهاب الفهيد حديثه: عندما توجهنا إلى وزارة الأوقاف ورجونا مسؤوليها التريث قبل اتخاذ قرار إنهاء عقد العالم الرباني الشيخ منصور عريس، طلبوا منا إرسال فاكس من أهله يخبروننا فيه بعذره، وبالفعل اتصلنا بأهله، وأخبرونا بمرضه، فطلبنا منهم إرسال الفاكس، وقد كان منهم ذلك، وعلى إثر وصول الفاكس وافقت الوزارة على تمديد المهلة الممنوحة للشيخ إلى ستة أشهر.

 فتنفسنا الصعداء، لكن قلقنا استمر على الشيخ ولم يكن لدينا مصدر يخبرنا بتفاصيل ما حدث له.

 وانتهت فترة الستة أشهر، وتبعتها ستة أخرى ولم يأت الشيخ، ولم يتوافر من الأخبار إلا ذلك الفاكس الذي يخبرنا به أهله بأنه مريض، ما المرض؟ وهل عولج منه الشيخ، أم لم يعالج؟ وهل شفي منه، أم تدهورت حالته؟.. أسئلة لم يتوافر عنها أي جواب.

 وإذا بالشيخ يأتي إلى الكويت معافى من كل مرض وبصحة جيدة، تعجب طلبته وغيرهم من فرحة رجوعه، لكن أحداً لم يجرؤ على سؤاله عن سبب تأخره أو تفاصيل مرضه، إلا ذلك الطالب الوفي، الذي كانت له حظوة عند الشيخ. فتقدم إليه طالبه المقرب منه الشيخ عبد الوهاب وقال له بعد تحرج وتردد: يا شيخ، مم كنت تعاني؟ ولماذا تأخرت عنا كل هذا التأخير؟

 التفت الشيخ منصور إليه كأنه كان يتوقع أن يسأله أحد هذا السؤال، وبدأ يروي له سر مرضه وتأخره.

 وكانت المفاجأة التي عقدت لسان كل من سمع بتلك القصة، وأولهم تلميذه المقرب منه الشيخ عبد الوهاب.

أبو خلاد

albelali@bashear.org

فقه الأولويات في مواجهة التحديات «3 من 3»

إصلاح النفوس .. ومرحلية التدرج

تطهر القلوب .. الركيزة الأولى لتطبيق الشريعة

وأثرها النهائي يهون صعوبتها المبدئية

  • "حقيق على أهل الصلاح دراسة نموذج عمر بن عبد العزيز في مرحلة التدرج التي حققت في عامين نتائج مذهلة"

  • "تحديد الأوليات في غالبه أمر اجتهادي لا يحكمه نص قطعي أو إجماع أصولي بل يخضع لاعتبارات الزمان والمكان"

تحدثنا في العددين الماضيين عن معنى فقه الأولويات وأهميته، ووجوب العمل به، والآثار الإيجابية التي تترتب عليه بالنسبة للفرد والأمة، واليوم نتناول أبرز مجالات العمل التطبيقية لهذا الفقه، وذلك في مواجهة التحديات المعاصرة.

أ- أول ما يجب أن يبدأ به الداعية إلى شرع الله U هو إصلاح النفوس وتهذيبها وإعمار القلب بالإيمان الصادق الصحيح، وهذه الخطوة هي الركيزة الأولى لتطبيق الشريعة في حياة الناس، ومهما وجدنا من صعوبة ومشقة في تحقيق هذا المنهج في النفوس إلا أن أثره الإيجابي والمصلحي في الواقع بعد ذلك يهون كل صعوبات التأسيس السابقة «وعند الفجر يحمد القوم السرى».

ومن هنا كانت أهمية إقامة شريعة الله في كل قلب حتى تقوم حقيقتها في كل أرض، يؤيده قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾ «الرعد: 11»، وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي ٱلأَرضِ كَمَا ٱستَخلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرتَضَىٰ لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنا يَعبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيئا﴾ «النور: 55».

ولقد جاءت دعوة النبي r مؤكدة هذا المبدأ ومرسخة لهذا المنهج، فمكث ثلاثة عشر عاماً يصلح القلوب، ويطهر النفوس، ويمهد الحق للقبول حتى تهيأت للحق دولة والشريعة سلطان لا يقهر أبداً.

يقول سيد قطب - يرحمه الله: لقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك.. ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها راية لا إله إلا الله، ولا ترفع معها سواها، وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.([1])

إن مخالفة هذا المنهج، وقلب موازين التمكين بتشريع القوانين المنظمة والعقوبات الرادعة قبل إصلاح البواطن والنفوس لا تنشئ مجتمعاً صالحاً أبداً، ولكنها قد تحميه، ولهذا نجد آيات الحدود والعقوبات بل والأحكام جميعاً لا تشكل أكثر من عشر آيات القرآن الكريم، أما الباقي فكان يستهدف بناء الإنسان من الداخل ليقوم هو بنفسه بمراقبة ذاته وتقويم سلوكه. ([2])

ولنا في عجز أمريكا عن منع الخمر بالأنظمة والعقوبات مع ما خسرته في ذلك من جهود وأموال أبرز مثال واقعي، بينما أقلع عنه الصحابة إلى الأبد عند سماعهم لقوله تعالى: «فاجتنبوه».([3])

قاعدة التدرج

ب- إن النفوس تألف الاعوجاج إذا عاشت فيه دهراً طويلاً، وتتصلب على ما تألف من المعاصي، وإذا أردنا لها نقلة مفاجئة سريعة حاصت وتمردت وتفلتت تبغي التملص، فيضطر إلى الترفق والتدرج في حملها على تنفيذ الحق والعمل بالشرع.

والأساس الفقهي الذي تستند إليه قاعدة التدرج يكمن في قواعد ترجيح المصالح الكبيرة والعظيمة والدائمة على سواها من المصالح الصغيرة والجزئية والمنقطعة، لأن امتناع الناس عن تطبيق الشرع كله دفعة واحدة قد يؤدي بهم إلى الشقاق، وإحداث الفتن العارمة وهي لا شك مفسدة كبيرة تبعد وتنأى باحتمال مفسدة تأخير إعلان تطبيق الشرع والحق الذي يرفضونه.

يؤيد ذلك قول عائشة - رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً». ([4])

إن التدرج المطلوب لا يقصد به التملص من بعض الشرع، فإن الشرع كامل وكله واجب ولكن تطبيقه على الناس في أول أيام الحكم أو في دعوة الناس له قبل الحكم أو في تربية الدعاة عليه يسوغ للعالم المتأمل ألا يتحدث به أو يُطبقه دفعة واحدة، بل في خطوات لا تبطئ به عن إقامة حكم الله U وتطبيق شرعه. هذه الخطوات ينظر فيها إلى الأهداف بدقة وبصيرة، وتحدد الوسائل الموصلة إليها، وبالتخطيط والتنظيم والتصميم تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام.. كل الإسلام.

ويدل على صواب هذا السلوك ما كان من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله. فقد جاء إلى الحكم بعد مظالم ارتكبها بعض الذين سبقوه، فتدرج ولم يستعجل، فدخل عليه ولده عبد الملك فقال: "يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بك القدور في ذلك." قال: "يا بني إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى يخرج من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه." ([5]) أي يخرج طمعهم بالموعظة والتأني ليكون عن قناعة لا بخوف من السطوة والعقاب.

ويبدو أن هذا الولد الصالح قد حاز حماسة فاقت التي عند أبيه فدعته إلى معاودة الاستغراب من سياسة التأخير والتدرج، فكان منه أن دخل على أبيه فقال: "يا أمير المؤمنين، ما أنت قاتل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة فلم تحيها؟" فقال أبوه: "رحمك الله وجزاك من ولد خيراً، يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء.. والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق بسببي محجمة من دم. أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة." ([6])

وقد شهد الحسن البصري - يرحمه الله - على حصول هذا اليوم، بقوله: "ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة، أو إماتة بدعة، أو رد مظلمة."([7])

إن مرحلة التدرج التي طبقها عمر بن عبد العزيز في خلافته التي لم تستغرق عامين سطرت من الإنجازات ما ملات به أسفاراً من كتب التاريخ، حقيق على أهل الإصلاح والتغيير تأمل هذا العمل والإنجاز العجيب. ([8])

 

أمر اجتهادي

ج- كثيراً ما يحدث الاختلاف بين فصائل العمل الإسلامي ودعاة تطبيق الشريعة على تحديد أولويات المرحلة التي يمرون بها: هل يقدمون المواجهة وإعلان الجهاد أم الخوض في العمل السياسي والمجالس البرلمانية، أم إصلاح العقيدة ومحاربة الشرك، أم التربية وإصلاح الفرد، أم التكافل الاجتماعي والإغاثي، أم الانصراف إلى العلم الشرعي، وتحقيق التراث.. إلخ؟

وكثيراً ما ينتج عن هذا الاختلاف بغي وتعدٍ على الآخرين لا يسوغ وقوعه بين أولئك الدعاة المخلصين، مع العلم بأن تحديد الأولويات - في غالبه - أمر اجتهادي لا يحكمه نص قطعي أو إجماع أصولي، بل هو خاضع لاعتبارات عدة تحددها طبيعة الظرف والحال والمكان والزمان وتضبطها قواعد المصلحة، فما هو أولوي في بلد قد يكون أمراً ثانوياً في بلد آخر، وما كان في زمن الشدة أو الفتن أو العدوان أولوياً قد لا يكون كذلك في أزمنة السعة والانفتاح والتعددية.

ولو قدرنا تشابه الظروف والأحوال في زمن ومكان واحد لعدد من المؤسسات الدعوية، فإن تعدد المجالات، وسعة الأعمال، وكثرة التكليفات يسوغ أيضاً أن يكون هناك تخصصية وتكامل بين تلك المؤسسات، وتوزيع للأدوار يغطي احتياجات العمل الإسلامي في ذلك البلد، فتسد بذلك الفروض الكفائية، ويرتفع الإثم عن الجميع، ويمهد الطريق إلى مزيد من التواصي بالحق والتناصح في الله، وقطع السبيل على دعاة الفتنة أن يخترقوا الصفوف ويشيعوا الوهن والتخاذل بين الدعاة.([9])

وقديماً ذكر ابن تيمية - يرحمه الله - اختلاف أهل العلم والصلاح على أي الأعمال أفضل حتى تقدم ويُشمر لها ويدعى الناس إليها، فذكر اتجاهات عدة - لا يبتعد مبدأ اختلافهم عما يحصل للدعاة اليوم - ثم قال - يرحمه الله - في بيان ما هو أفضل وأولى بالاهتمام والتقديم: "إن الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادة فجنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وتارة يختلف باختلاف الأوقات، وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، وتارة باختلاف الأمكنة، وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، وتارة باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.

وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم، فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك، والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهادياً لهم، يأمر كل إنسان بما هو أصلح له.

وبهذا يتبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضل له." ([10])

يتبين لنا - مما سبق - أن أولويات العمل وأفضلية الامتثال بالأعمال الصالحة ليست أحكاماً محددة لا تتبدل أو قوالب ثابتة لا تتغير بل هي خاضعة لإيثار مرضاة الرب، ولما يصلح لكل عبد في نفسه ووقته، كما هي خاضعة أيضاً لموازين المصالح والمفاسد، وما يقدم من الضرورات والمقاصد الكلية، وما يُؤخر، ومن خلال هذه الموازين المختلفة تتسع ساحة التنوع في الاجتهاد كما تتسع الصدور والنفوس للاختلاف المؤدي للائتلاف والوحدة والتكامل البناء بين العاملين في حقل الشريعة الإسلامية.

لقد أصبح فقه الأولويات ضرورة شرعية وواقعية لا يستغني عنه العالم والفقيه عند تعليمه واجتهاده ونظره في مستجدات الأمور، ولا يستغني عنه السياسي والبرلماني المسلم عند تشريع القوانين وعقد المخالفات والمهادنات مع الأحزاب المخالفة الأخرى، ولا يستغني عنه أهل الاقتصاد والمال الذين يبحثون عن الحلول الاقتصادية والاستثمارية ويريدون أسلمة المصارف وتصحيح ما يصلح من المعاملات المالية المعاصرة، ولا يستغني عنه كل مسلم سواء كان مجاهداً أو مربياً أو معلماً أو أباً في أسرته، أو مديراً في دائرته، وكذا كل مسلم يحمل هم أمته، ويريد سد ثغرته، فإن فقه الأولويات محطة فكر للمراجعة، ومشعل وعي في مسيرة الدعوة المباركة.

([1]) معالم في الطريق، ص ٣٧-٣٦ 

([2]) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي لبكار، ص ٣٥٩ 

([3]) الإسلام وضروريات الحياة، للقادري، ص ١٢٦ 

([4]) رواه البخاري (٤٧٠٧) ٤/ ۱۹۱٠ 

([5]) عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ، ص ٢٢٦ 

([6]) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص ٢٤٠ 

([7]) عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ، ص ٢٠٤ 

([8]) المسار للراشد، ص ۲۲۰ و ۲۲۱، والسياسة الشرعية للقرضاوي، ص ۳۲۸ 

([9]) الثوابت والمتغيرات للصاوي، ص ۳۲۹ - ۳۳۳ والتعددية في الحركة الإسلامية للريسوني، ص ۱۱۴ 

([10]) مجموع الفتاوى ٤۲۷/۱۰ - ٤٢٨، ولابن القيم كلام مثله في تهذيب مدارج السالكين، ص ۷۲۰

الرابط المختصر :