الثلاثاء 24-أكتوبر-1972
المذكرة الثانية.. من رمضان إلى الشعوب المسلمة
بقلم: »أبو هالة«
ما إن انتهيت من التقاط سطور المذكرة الرمضانية إلى القمم الحاكمة.. حيث رأيتني أمام صفحات مطولة كلها عرض لأحوال الشعوب التي تنتمي للإسلام في إعلاناتها وبعض مظاهرها... وكان لزامًا عليّ أن أضاعف جهد الإبصار وأجهزة الالتقاط، وأسرع في التسجيل قبل أن يتوارى «هلال رمضان»، وتطوى صحائف مذكراته! لأني حريص على تبليغها أمة الإسلام قبل أن ينقضي الشهر المبارك الذي تفتح فيه أبواب السماء مع أبواب الجنة، وتوصد فيه أبواب الشر مع أبواب جهنم.. لعل قومي ينتبهون من غفلتهم التي استعاذ منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه المشهور «اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين»؛ لأن جهنم الآخرة تمتلئ بهذا الصنف من البشر ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾!!
الخطاب للأفراد والجماعات
•• وكان عرض «رمضان» لأوضاع الشعوب من خلال الأفراد والجماعات.. لأن الحياة الدنيا تقوم على البناء والهدم الفردي، وعلى التعاون الجماعي في العمليتين..
فقدان الشخصية
ولقد التقطت بعض سطور عن الفرد في بلادنا من أقصاها إلى أقصاها مسجلًا إياها في نقاط:
انعدام الشخصية
أولًا «انعدام الشخصية»، في السماء والأرض جميعًا منه ورفع منزلته بين العالمين بقوله الثبات.. فالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وصنعه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وسخر له ما في السماء والأرض جميعًا منه ورفع منزلته بين العالمين بقوله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)..
المرأة سائسة
- هذا الإنسان فقد شخصيته المتميزة المكرمة فأصبح عبد شهواته وأسير لذته العاجلة لا يدري إلى أین تودي به.. ألقت به في الإسار أو قذفت في قاع اليم غريقًا فيما صنع لنفسه، وأجراه أنهارًا لذاته!
فتراه وراء الجنس يجرى غاية له.. حتى تخونه قدماه، ولا تسعفه صحته، ولا تنفع معه جميع العقاقير التي صنعها لتقوى فحولته..
وتصبح المرأة سائسة له بعد أن كان قوامًا عليها.. غير ملتفت لتحذير رسوله -صلى الله عليه وسلم- «ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء» وأن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء وأن المرء حينما تهوى به نفسه إلى هذا المستوى لا تصيبه القناعة من حلاله، بل يرجس في حماه الزنا الذي حذرهم منه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني عن ابن عباس «إياكم والزنا فإن فيه أربع خصال. يذهب البهاء عن الوجه، ويقطع الرزق، ويسخط الرحمن، ويوجب الخلود في النار». -إن استحله- فهؤلاء عبيد النساء تمتلئ بهم حانات الخمور وملاهي الرذيلة وقد يستخفون من الناس، ولكنهم لا يستطيعون أن يستخفوا من الله.. وبذلك كانوا أسباب السخط الذي آلت إليه بلادكم.
المال معبود
- وفقدان الشخصية في الإنسان رأيتها في قوم عبدوا المال واستهوتهم شهوة جمعه من أي طريق وإربائه بأية وسيلة وكنزة في أي مكان!! وهم في سبيل ذلك سرقوا دماء العاملين تحت أيديهم وامتصوها من خلال أجور زهيدة، وهددوا بمد اليد إليهم وقبض أيديهم عنهم.. مع أن المذياع الذي صنعوه لا نفسهم يسمعون منه آيات الله تتلى عليهم ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: ٣٩).
وآيات أخرى تقول ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: ٣٤). ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (هود: ٣٥)..
وقد هددهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس».
وأصبحت شخصيتهم هزيلة ذائبة متدنية تجاه المال حتى لترى قريبًا منهم يسمع قصة «قارون» وزير «فرعون» الذي خسف به وبداره الأرض وفي أنفسهم غضة وفي داخلهم سخرية وعدم قناعة.. مع أن الله -سبحانه وتعالى- أوضح لهم الأمر.. ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (المؤمنون: ٥٦).
حزب الشيطان
وانتهت شخصية الفرد إلى الهوى وراء الفرائس التي أعدتها لهم أحزاب الشيطان من الكافرين فإذا بهم داخل الشباك لا يستطيعون منها فكاكًا... وقد صنعت لهم خصيصًا من خيوط حريرية لامعة.. وتوقعت شخصية أفراد آخرين داخل أصداف من الأنانية والجمود.
تمزيق الخيوط وكسر الأصداف
والمهم أن المذكرة الرمضانية حينما وصلت جميع الأمراض التي أصيب بها غالبية الأفراد وضعت لهم وصفة العلاج.. في أن الله –سبحانه- قد منحهم فرصة هذا الشهر ليستطيعوا أن يستخدموا قدرات التكريم ليمزقوا خيوط الشباك، ويكسروا الأصداف لينطلقوا بإرادة البناء الذاتي من غير ترميم أو ترقيع!! فالنفس البشرية لیست بناء حجريًّا، نصب قوالب جديدة بدل المفقود في البناء المنهار!! وليست ثوبًا موقوتًا لأيام يمكن أن تسد ثقوبه وتخاط مزقاته!! «فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا» الدنيا التي هي في حقيقتها مزرعة الآخرة.
وقد جعل الله صيام رمضان كفارة لما مضى من أعوام، ومددًا للإرادة التي تستعين بالله، وتحزم رغبتها وشهوتها حتى عن الحلال فما بالك عن الحرام؟ وتمتد برغبتها إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».. فيها من الحور العين الكواعب الأتراب، ﴿وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤٗا مَّنثُورٗا ﴾﴿وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا﴾ (الإنسان: 19-20)... ودلهم على طريق استرجاع الشخصية وهو أن يتم ذلك في مصنع الرجال.. وهل يكون ذلك إلا في بيوت الله؟!
منعزلون.. يائسون!
ثانيًا: «الانعزالية أو اللامبالاة أو اليأس»
وحينما طوفت أرجاء العالم الإسلامي تجاوزًا رأيت فريقا من الناس استقام في ذاته لكنه آثر السلامة في ظنه وحسبها طريق النجاة مع أن رسوله قال «لا رهبانية في الإسلام» وإن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.. هذا الفريق إن تركنا وصفه بالأنانية رحمة بشعوره فهو يائس والله يقول: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: ٨٧). وأنه لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة.. وأن الله أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأوجبه على المؤمنين وإلا عمهم عقابه وأصابهم سخطه فهم شركاء في المأساة التي عمت البلاد..
وحاولوا أن يلقوا التبعة على الحكام مع علمهم أن الحاكم لا يحكم بنفسه، بل برجاله وأعوانه وأنه «كيفما تكونوا يولّ عليكم»، وأن سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله وأن سياسة اللجوء إلى زوايا المساجد كسياسة العكوف في الصوامع والقعود عن المنازلة في ساحة الجهاد.. وأن الله قد توعد سابقيهم بقوله تعالى ﴿إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ (التوبة: 39).
وها هي أيام الشهر ولياليه فرصة للخروج من العزلة والأخذ بالعزائم والبيع الغالي في سبيل الله.
الفردية.. الأنانية
ثالثًا: ولقد رأيت أناسًا من المؤمنين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا حينما ساروا وحدهم في درب الموعظة مبشرين ومنذرين لئلا يكون لله حجة تجاههم.. وهؤلاء غفلوا عن سياسة إسلامهم التي تفرض عليهم التربية والتجمع حتى لا تذهب مواعظهم سدى، وتمتص نذرهم الرياح الهوج في قوله تعالى ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْر﴾ (آل عمران: ١٠٤).
وحينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة».
وحينما أمر موسى -عليه السلام- أن يتخذ بمصر بيوتًا وأن يجعل من بيوته قبلة يتجمع فيها الحواريون والأنصار، وإن دار الأرقم ابن أبي الأرقم كانت مركز تجمع الدعاة إلى الله الذين غير الله بهم تاريخ البشرية وأقام بهم دولة الإيمان فليكن «شهري المبارك» فرصة لهم ليرجعوا نتاج أعمالهم وينهضوا لتكوين المدرسة القادرة على إقامة دولة الله في أرضه..
الحساب.. فردي!
وكان ختام هذه المذكرة الرمضانية لأفراد الأمة الإسلامية بيانًا لهم بأن المسؤولية أمام الله فردیة ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (مريم: ٩٥). ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: ٣٨). ولن ينفعكم إلقاء التهم على حاكم أو جماعة، أو تعليق الأعذار في رقاب الظروف والأوضاع.. فما من نبي ولا رسول، ولا تابع لهما أو مصلح إلا وخرج على الناس وحده بفكره وعقيدته ومبادئه وبذل غاية جهده ليحدث التغيير الشامل.. حتى تحقق له ما أراد.. ومن فضل الله عليكم أيها الأفراد أنكم تعيشون في مجتمع يوجد فيه أثر عقيدتكم في نفوس الكثيرين، ومن نعمة الله عليكم أيضًا أن الله سائلكم لا عن النتائج، بل عما قدمتموه من عمل.
كشف حساب
وأحسست بأني في تقديم خلاصة المذكرة الرمضانية الثانية قد أوجزت كثيرًا..
لكن حسبي أنها تفتح الطريق لكل فرد من هذه الأمة العريضة أن يعمل لنفسه كشف حساب، ويراجع أرصدة عمله.. في هذه الأوقات الطيبة المباركة من هذا الشهر الكريم.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
محطــات إيمانيــة في طريــق التربيـــة.. نعمـــة بـلــوغ رمضـــان
نشر في العدد 2177
115
الأربعاء 01-مارس-2023