العنوان المرض والعدوى بين الطب وحديث المصطفى «صلوات الله عليه»
الكاتب د. محمد علي البار
تاريخ النشر الثلاثاء 25-أكتوبر-1977
مشاهدات 19
نشر في العدد 372
نشر في الصفحة 20
الثلاثاء 25-أكتوبر-1977
«لا عدوى ولا طيره ولاهامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»
تنقسم الأمراض التي تصيب الإنسان إلى قسمين كبيرين: أمراض غير معدية وأمراض معدية، أما الأمراض غير المعدية فهي أمراض كثيرة تصيب الجسم الإنساني دون أن تكون هناك عدوى انتقلت من شخص إلى آخر وهذه ربما تكون وراثية مثل بعض أمراض الدم كالهيموفيليا أو غذائية نتيجة نقص البروتينات أو الفيتامينات مثل مرض البربري الناتج عن نقص فيتامين ب. أو هورمونية نتيجة زيادة نشاط إحدى الغدد الصماء أو قلة إفرازها مثل أمراض الغدة الدرقية أو الغدة النخامية أو الغدة الكظرية أو غيرها من الغدد بزيادة أو نقصان في الوظيفة وما ينتج عنه من خلل شديد يؤدي إلى الوفاة أو المرض الشديد حسب نوع الإصابة ودرجة شدتها وحسب الغدة المصابة.. أو لأسباب خلقية تصيب الجنين، وهو لا يزال في رحم أمه فيخرج إلى الدنيا مشوهًا أو مصابًا في أحد أجهزة جسمه أو أمراض سرطانية أو أورام حميدة أو لأسباب مجتمعة وأسباب مجهولة في حقيقتها معلومة في ظواهرها كمرض البول السكرى وضغط الدم وجلطات القلب.
وأما الأمراض المعدية فهي التي تنتقل من مريض إلى آخر بأحد طرق العدوى، وهي إما بواسطة التنفس كما في أمراض الجهاز التنفسي كالإنفلونزا والسل الرئوي أو بطريق الفم مثل أمراض الجهاز الهضمي كالدوسنتاريا- الزحار- الأميبي والبلولي والتيفود والكوليرا وشلل الأطفال والتهاب الكبد الوبائي أو عن طريق الزنا أو اللواط مثل الأمراض التناسلية كالزهري والسيلان أو عن طريق الملامسة مثل الجدري أو الجذام أو بواسطة الحقن أو نقل الدم مثل التهاب الكبد الفيروسي أو بواسطة وخز الحشرات كالبعوضة التي تنقل مرض الملاريا وداء الفيل والحمى الصفراء أو ذبابة التسي التسي التي تنقل مرض النوم أو القمل الذي ينقل حمى التيفوس.
والأمراض المعدية كما ترى لها طرق عديدة لانتقال العدوى من مريض إلى آخر، ولها أسباب عديدة.. ودرجات في شدة العدوى ودرجات في المناعة والمقاومة لدى المصابين بها.
وأهم أسباب الأمراض المعدية هي مخلوقات متناهية في الصغر والدقة بحيث لا تراها العين المجردة وإنما نحتاج لكي نراها أن تكبر صورتها مئات المرات وآلاف المرات ومئات الآلاف من المرات فالأميبا، وهي مخلوق وحيد الخلية نحتاج لتكبيرها مئات المرات والبكتريا الدقيقة لا بد من تكبيرها آلاف المرات لكي ترى بوضوح أما الفيروسات فقد نحتاج إلى تكبرها مئات الألوف من المرات حتى ترى بوضوح وجلاء، ولنبدأ بنبذة مختصرة عن الفيروسات..
فالفيروسات كائنات دقيقة جدًا لا ترى إلا بالمجهر الإليكتروني بعد الألوف من المرات.. وقد احتار العلماء فيها حيرة شديدة.. فهم لا يدرون أيضعونها في مملكة الحيوانات أو مملكة النباتات بل إنهم لا يدرون أيضعونها في قائمة الأحياء أم في قائمة الجمادات.. فهي ليست خلية وليست نواة ولا تتغذى ولا تنمو وإنما تتكاثر بطريقة عجيبة غريبة تدخل إلى الخلايا الحية فتسيطر عليها.. وتتعرف على السر الكامن فيها الذي به تنقسم الخلية فتتحكم فيه.. وتجعل الخلية نفسها تتحول إلى فيروس كلما انقسمت الخلية ذاتها انقسمت إلى ملايين الملايين من الفيروسات التي تدخل إلى خلايا أخرى فتستعمرها، وتحولها إلى مجموعة جديدة من ملايين الفيروسات حتى تتمكن من خلايا الجسم كلها فتهلكها أو تتم لخلايا الجسم قدرة عجيبة جديدة فتصد ذلك الغازي وتقضي عليه..
والفيروسات تختلف عن جميع الكائنات الحية في كل شيء ولا تتفق معها إلا في التكاثر وإن كانت طريقة تكاثرها مدة تختلف كل الاختلاف عن بقية الكائنات الحية صغيرها وكبيرها حيوانها ونباتها.
وأهم ما تختلف فيها الفيروسات عن الكائنات الحية الأخرى أنها مكونة من حامض نووي واحد بينما جميع الكائنات الحية الأخرى بها حامضان نوويان.. هما ران و دان.
فالفيروس لا يمكن إلا أن يكون أحد الحامضين النوويين أما بقية الكائنات فتجمع بينهما.
وأشهر الأمراض التي تسببها الفيروسات هي الإنفلونزا والزكام ونزلات البرد.. وهي ليست نوعًا واحدًا من الفيروسات وإنما أنواع عديدة.. كلما تكون لدى الجسم مناعة لنوع منها خلقت أنواع جديدة لا عهد للجسم بها من قبل ولا منعة ومنها فيروس شلل الأطفال وفيروس النكاف المسبب لالتهاب الغدة النكفية وفيروس الحصبة والجدري والجديري وفيروس التهاب الكبد الوبائي وفيروس الحمى الصفراء.. العديد من الأمراض والأوبئة الخطير منها واليسير.
وأما البكتريا فمملكة كاملة وهي مخلوقات لا يمكن أن يقال عنها أنها وحيدة الخلية ولكنها تملك مقومات الحياة فهي تنمو وتتكاثر.. وتتنفس وتتكون أساسًا من الحامضين النوويين ران و دان مثلما تتكون كل خلية حية سواء كانت نباتًا أم حيوانًا.. وتستطيع البكتريا الحياة مستقلة، ويمكن زرعها في البيئة المناسبة.
وهي أنواع عديدة وتقسم إلى مجموعات وفصائل حسب صفاتها وعاداتها وتكوينها وطرق زرعها وخصائصها.
ومنها ما هو نافع للإنسان مثل البكتريا التي تثبت النتروجين الجوى إلى لبن رائب وذلك بتحويل السكر الموجود في الحليب إلى حامض ومنها البكتريا التي تثبت النتروجين الجوى في التربة فتزيدها غناء فتمتصها النباتات البقولية فتخرج لنا الفول والفاصوليا.. وغيرها من النباتات التي بها مادة البروتين.
ومنها ما يعيش في أمعاء الإنسان، ويساعد بعضها على هضم المواد الغذائية كما يساعد بعضها في تكوين فيتامين ب المركب.. ويتعايش كثير منها مع الإنسان فيفيد ويستفيد ويوجد منها البلايين على سطح الجلد.. وهي تعيش على الخلايا الميتة-القشور- التي يطردها الجلد في كل لحظة وآونة.. فتأكل هذه القشور وتدع المجال مفتوحًا للخلايا الجديدة الحية لتحل محل هذه القشور الميتة.
وتعيش البلايين من هذه البكتريا في فم الإنسان، وأنفه وعلى سطح جلده وفي أمعاءه دون أن تحدث له أي ضرر بل إن كثيرًا منها ذو نفع وفائدة كما أسلفنا. ولكن العجيب حقًا أن هذه البكتريا المفيدة والتي تعيش معنا في وئام وسلام قد تحول طبيعتها الهادئة المسالمة فجأة وبدون سابق إنذار إلى طبيعة عدوانية وحشية ماكرة فتهجم علينا وتستغل ضعفنا فتجعلنا فريسة لها بين عشية وضحاها.
ومن البكتريا من مرد على العدوان والهجوم وهي البكتريا المسببة لكثير من الأمراض والأوبئة مثل الطاعون والكوليرا والتيفود والتيفوس والسل الرئوي والتهاب اللوزتين.. إلى آخر القائمة الطويلة جدًا من الأمراض والأسقام والأوبئة التي تسببها البكتريا.
ولكن العجيب والغريب حقًا أن نجد تلك البكتريا التي مردت على البطش والعدوان قد استحالت طبيعتها عند بعض الناس إلى حمل وديع لا يسبب ضررًا ولا يهيج ساكنًا.. فلا تهاجم ولا تقاتل وإنما تقبع في مكانها هادئة هامدة تأكل مما يفيض عليها في وئام وسلام.. بل أكثر من هذا.. أنها تقوم أحيانًا بتغيير طبيعتها تغييرًا شاملًا كاملًا- وهي نفسها لا تدري عن هذا التغيير شيئًا- تتحول من الإساءة إلى الإحسان.. ومن الضر إلى النفع.. ومن الهجوم على جسم الإنسان إلى الدفاع عنه.. ومن خذلانه إلى نصرته.. كل هذا على غير سابق عهد منها ولا ردًا لجميل قدمه لها الجسم الإنساني، ولا توقعًا منها لمثل هذا الجميل فيما ثاني به الأيام وليست هناك قاعدة معروفة نستطيع أن نتنبأ بها عن طبيعة هذا الميكروب- الكائن الدقيق- المخاتل المخادع وأنه سيتحول فجأة من السلام والوئام إلى الهجوم والعدوان إلى المسالمة والموادعة.. فليس الأمر بأيدينا وليس الأمر كذلك بيد تلك الميكروبات الدقيقة فهي لا تعلم من أمرها شيئًا.. ولكن الأمر لمن بيده الأمر كله يصرفها كيف يشاء.. وأما معلوماتنا فهي تعتمد على التجارب وعلى الأغلب الأرجح، وليس لدينا من علم يقيني بأن هذا الميكروب سيسبب المرض الفلاني.. أو أنه سيسبب المتعة والمناعة. ولا نعرف سلفًا أن هذا الميكروب سيكون ضارًا عند هذا الشخص إلا على سبيل الترجيح والتغليب فليس في العلم التجربي بفروعه كلها شيء يفيد اليقين.. وإنما هو علم مبني على غلبة الظن والترجيح.
ولنضرب بعض الأمثال حتى تتضح الحقائق.. من المعروف أن بكتريا الحمي الشوكية عنيفة العدوان كاسحة الهجوم، سريعة الانتقال من شخص إلى آخر بطريق الرذاذ متدخل لتتكاثر ثم تغزو السحايا- الأغشية المحيطة بالنخاع الشوكي والمخ فتهجم هجومها الشديد الذي قد يؤدي إلى الوفاة في كثير من الأحيان ...
ولكن هذه البكتريا ذات الطبيعة العدوانية تتغير طبيعتها فجأة عند بعض الأشخاص.. فتبقى هادئة مسالمة.. ولكنها حين تنتقل من ذلك الشخص إلى آخر تعود إلى سابق عهدها من العتو والعدوان.. بل إنها قد تبقى في فم ذلك الشخص أمدًا طويلًا دون أن تحرك ساكنًا ولكنها فجأة تنقلب من السلام والوئام إلى الهجوم والعدوان.
بل أكثر من ذلك فقد وجد في زمن انتشار هذا الوباء أن تسعين في المائة من السكان يحملون الميكروب، وهم أصحاء وأن المصابين بالمرض لا يتعدون 5 في المائة.. ففي الوقت الذي يوجد فيه ألف مريض بالحمى الشوكية مثلُا فإن هناك ما لا يقل عن مائة ألف يحملون ميكروب الحمى الشوكية دون أن يبدو عليهم أي تأثير وجود الميكروب في أفواههم وحلوقهم المرجع الطبي سيسل لوب طبعة 71، ولذا فنحن لا نستطيع أن نقول أن كل من يصاب بميكروب الحمي الشوكية سيصاب بالحمى الشوكية فعلًا رغم أننا نستطيع العثور على ميكروب المرض المذكور في فم المريض وحلقه وليس انتقال الميكروب من شخص إلى آخر هو السبب الوحيد في حصول المرض المعدي، ولكن هناك عوامل كثيرة وأسبابًا عدة من بينها هذا الميكروب.. وإلا فلماذا يحمل مئات الآلاف ميكروب الحمى الشوكية ولا يصاب بالحمى الشوكية إلا بضع آلاف على أسوأ التقدير...
قد يتبادر إلى الذهن أن هناك اختلافًا في الميكروب ذاته ولكن الفحص الدقيق يثبت أن الميكروب واحد وأنه إذا انتقل إلى شخص آخر فإنه قد يفتك به.. فما هو السر يا ترى في الأشخاص.. فيحملون الميكروب دون أن تتأثر به أجسامهم فإذا انتقل الميكروب ذاته إلى شخص آخر فعل به الأفاعيل؟؟ ربما يرجع ذلك إلى اختلاف المقدرة على مقاومة الميكروب لدى الأشخاص، ولكن المقدرة على المقاومة نفسها مبنية على أسباب مجهولة.. وليست مبنية على ما يبدو لنا من قوة هذا الشخص وضعف ذاك فقد تصرع الشخص القوى الشديد الذي يبدو في أتم صحة وتبقى كامنة هادئة مسالمة لذاك الضعيف الهزيل.. بل إنها قد تكون مسالمة موادعة لفترة ما ثم تغير طبيعتها فتهجم وتكون عليه وبالًا..
وليست ميكروبات الحمى الشوكية هي الوحيدة بين الميكروبات التي لها هذه الطبيعة المزدوجة، وتكون وبالًا ودمارًا على شخص ما وتكون سلامًا ووئامًا على شخص آخر.. ولكن الميكروبات جميعها تحمل هذه الصفة فهي وبال على شخص ما هو المريض.. وسلام على آخر، وهو حامل المرض أو حامل الميكروب.. فالتفوئيد من الأمراض المعدية ومع ذلك فهناك المريض الذي تصرعه هذه البكتريا.. وهناك الحامل للبكتريا في جسمه ومرارته على وجه الخصوص دون أن تؤثر فيه.
بل الأمر أبعد من ذلك وأخطر.. يصيب الفيروس أو البكتريا شخصًا ما فيصرعه، ويصاب آخر فيحمل الميكروب دون أن تبدو عليه أي أعراض أما الثالث فيصاب بالميكروب فيسبب له مناعة ومنعة لمقاومة الميكروب فيما تأتي به الأيام ومن ذلك فيروس شلل الأطفال فهو يدخل إلى الطفل بواسطة الأطعمة الملوثة فيدخل الأمعاء، وهناك تتلقفه الغدد اللمفاوية فتهجم عليه وتتعرف عليه معرفة دقيقة وتسجل ذلك في مجموعة من خلايا الغدد اللمفاوية.
ولا يبدو على الطفل أي مرض بل وتتكون لديه المناعة وهي هذه المعلومات المختزنة في خلايا الغدد اللمفاوية والمواد التي تستطيع صد هذه الفيروسات إذا أعادت الهجوم ثانية في مستقبل الأيام.
وتصيب هذه الفيروسات طفلًا آخر فتسبب له مرض شلل الأطفال.. والفيروسات واحدة هي وبال على هذا ونعمة على ذاك.
وقد ضربت الأمثلة بالأمراض الشديدة العدوى السريعة الانتشار كالحمى الشوكية وحمى التيفود وشلل الأطفال.. ومع هذا فأمر العدوى فيها قائم على أمور مجهولة وليست مؤكدة وأما إذا أخذنا أنواعًا أخرى من الأمراض البطيئة العدوى البطيئة الانتشار فإنا سنجد من بينها أمراضًا كثيرة شاع بين الناس أنها شديدة العدوى وهي ليست كذلك ومن أشهرها الجذام.
والجذام مرض معد لا شك في ذلك ولكن العدوى مبنية على أمور كثيرة منها ما نعلمه ومنها ما نجهله.. فيما نعلمه أنه لا بد من المخالطة الطويلة للمجذوم حتى تتم العدوى وربما مضت سنوات طوال من الخلطة دون أن تنتقل العدوى.. ومما لا نعلمه هو لماذا يصاب هذا الشخص المخالط للمجذوم ولا يصاب ذاك الذي هو أكثر خلطة وأكثر التصاقًا بالمجذوم.
وعلى هذا نستطيع أن نقول بكل ثقة إن الميكروب- الكائن الدقيق مثل الفيروس أو البكتريا أو الفطريات أو الحيوانات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبا وطفيلي الملاريا- أو الحيوانات متعددة الخلايا مثل الديدان الطفيلية ليست وحدها المسببة للمرض والعدوى وإن هناك أسبابًا مجهولة تتحكم في الطبيعة العدوانية لهذا الميكروب متحولها إلى طبيعة مسالمة أو تتحكم في الطبيعة المسالمة لذلك الميكروب فتحوله إلى معتد أثيم.. وهناك أيضًا من الأسباب المجهولة التي تتحكم في المقاومة الموجودة لدى الإنسان فتجعلها قوية عارمة تكتسح كل عدوان أو تجعلها ضعيفة هزيلة تنهزم في كل ميدان.
ولا تقوم المقاومة على ضعف الهيكل والبنيان ولا على قوته وعرامته وضخامته.. وإنما تعتمد على مجهولات كثيرة ومعلومات قليلة، فمن المعلوم أن بعض الأمراض مثل البول السكرى والسرطانات تضعف المقاومة ضد عدوان الميكروب...
ومنها أن استعمال بعض العقاقير الطبية مثل الكورتيزون كذلك يضعف المقاومة ومنها أن شرب الخمر يضعف مقاومة الجسم في صد كل عدوان ولكن هناك من المجاهيل ما لا يعلمه إلا الله.
هذه الحقائق العلمية توضح لنا بجلاء معنى الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في العدوى وتزيل عنها ما قد يبدو لأول وهلة من تعارض، بل وتبدو الأحاديث النبوية على حقيقتها القدسية تتحدث عن الحقيقة في أبعادها السحيقة بلفظ قريب إلى الأذهان والعقول.. وهي متصلة بالأزل.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل