العنوان المظلومون في تاريخنا (15) الرَّحّالة الحسن الوَزَّان
الكاتب أ.د. عبد الرحمن علي الحجي
تاريخ النشر السبت 07-يوليو-2007
مشاهدات 50
نشر في العدد 1759
نشر في الصفحة 48
السبت 07-يوليو-2007
المسلم العائد والعالم المجاهد
ولادته: وُلِدَ في غَرناطة الأندلس، في أواخر أيامها، قبيل السقوط، رأى ووعى ــ رغم صغره ونعومته ــ ما أحاط ونزل وعبث الأعداءُ بأُمته وأهله وعقيدته من مُلِمّات وأحداث، على يد عدو لا يهمه ما يأتي به ويرتكبه ويُنْكِبه، بلا التزام، حتى بما يدعيه. ويعلم ــ وعلم الحسنُ جيداً ــ أن ذلك ديدنُهم وشِنْشِنةٌ يعرفها لهم، حتى مع وجود معاهدات وَقَّعها زعماؤهم ، كنسيين وسياسيين، وهما وجهان لعملة واحدة، فلمْ يَفُوا بعهد واحد، مهما أقسموا أو وَقَّعوا عليه وأكدوا نيتهم الوفاءَ به، وهو أمرٌ ما عرفوه حياتَهم، خلال ذلك التاريخ كله، وغيره سواء بسواء، رغم ما عُرِفَ عن المسلمين من وفاء في التعامل معهم، خلال العهود، بشكل واضح لا اختلاف فيه، ولكنْ كُلّ ينفق مما عنده، وقد عُرِفَ المسلمون بذلك، باعتراف غيرهم وشهادتهم لهم، من قبل عدد من الدارسين الأوروبيين المنصفين.
نشأته: في هذا الجو نشأ الحسن، وعَرَفَ ورأى عِياناً الأحداثَ الأخيرة لمملكة غرناطة، واستسلام مدينتها، العروس الثكلى المدماة، سنة 897هـ = 1492م، و ما جرى من أعمال التخريب والهتك والفتك، يُغَذِّيه الحقدُ الدفين لديهم على الإسلام وأهله، وكل متعلقاته، وكان أول ما ارتكبوه نقض العهود، والبَدْءُ بالاضطهاد المتنوع، أقله الموت!! وبمختلف الأســاليب، وأخبار محاكم التفتيشEng. Inquisition، Sp. Inquisicionوأجهزتها وأساليبها الهمجية ماثلة، رغم محاولات ــ تبذلها هذه الأيام ــ جهات قيادية رسمية، للتخفيف أوالتهوين أو تبرير بشاعتها الكالحة، مما لا يغني عن وجهها المسود بحال.
أُسْرتُه: مِن سَكَنَة مدينة غَرناطة، في مثل هذا الجو المشحون، ولد الحسن، نحو سنة 888هـ، في أُسرة ميسورة، معروفة باهتماماتها الإسلامية المتنوعة، مثل سائر الأسر الغرْناطِية والأندلسية، كان أبوه تاجراً متنوع البضاعة، ابتداءً من الحرير، في سوق الحرير ضمن سوق القيصرية، وسط مدينة غرناطة، موجودة بنفس اسمها حتى اليوم، قرب خان الفحم، Alcaiceria Corral del Carbon حيث اعتاد تجار الحرير وغيرهم، من القادمين من خارج مدينة غرناطة أن يتخذوا منه منزلاً(فندقاً)، وربما حتى مكاناً لخيلهم، فهو مُكَوّن من أكثر من طابق، ولعل الحسن الوزان في هذه السن كان يلعب فيه أو يتردد عليه مع والده للقاء هؤلاء التجار، وهذا المبنى (الخان) ما يزال قائماً حتى اليوم، وقد زرته قريباً، وتشغله بعض المكاتب السياحية، كما اتخذته مقراً لها ــ باعتباره موقعاً تاريخياً ــ مؤسسة التراث الأندلسي El Legado Andalusi
متعلقاته: هناك اختلاف كبير جداً في كثير مما يتعلق بالحسن، لا سيما تواريخ حياته وتحركاته والعديد من أموره، ابتداءً من ولادته وهجرة أسرته من الأندلس إلى المغرب، لتستقر في مدينة فاس، حالُها حالُ جمهرة من الأُسَر الأندلسية في عملية التهجير، أو هاجرت فراراً من الاضطهاد والمتابعة والتنصير، اعتصاماً بدينها، مشردة في البلدان الإسلامية شرقاً وغرباً وأوروبا، وعلى ذلك غير واضح متى هاجرت أسرته إلى مَهْجَرها المغربي الجديد، حيث لا يبدو أن هذه الهجرة كانت مباشرة عند السقوط، ولعلها تمت مع من هاجر مع آخر ملوك غرناطة أبو عبدالله الصغير (أوائل ربيع الأول 899هـ = أوائل أكتوبر 1493م)، والذي يبدو أن سنه كانت وقت هجرته نحو عَشْر سَنوات.
تعليمه: تلقى الحسن علومه في فاس، على مشايخ معروفين بعلمهم ونوعيتهم ومكانتهم، وفي جامعة القرويين العتيدة (فاس ــ المغرب)، ظهر للجميع نبوغه المبكر، في جو يتيح ويشجع ويُنَمِّي الطاقات، إلى جانب محيطه الأُسَري المهيأ.
علومه: درس علوم الشريعة واللغة وعلوماً بحتة، كل ذلك مكنه من تولي مهمات كبيرة مبكراً، حيث تولى مهمات سياسية وتجارية ودبلوماسية، مما فتح الأبواب الواسعة لتلبية أحد أكبر ميوله: الرحلة ومعرفة كل ما يهتم به كبار الرحالة والجغرافيين والمكتشفين.
رحلاته ومهماته وجهاده
جاس الحسن بتأملٍ، كلَّ مناطق المغرب؛ وديانَها وجبالَها وصحاريَها الواسعة، شبه المجهولة، وهو يلاحظ كل ذلك، يكتب مذكراته، مدوناً مشاهداته، مدققاً متعلقاتها. كان في بعضها مبكراً، صَحِبَ أباه المكلف من قبل السلطان بجمع ضرائب إقليم الريف والأطلس المغربي، كما رافق عمه في رحلته إلى مملكة مالي سنة 917هـ = 1511م، سفيراً من قبل ملك فاس أبي عبدالله محمد بن محمد الشيخ الوطاسي البرتغالي (932هـ =1525م)، ثاني ملوك الوطاسيين، وفي السنة التالية كُلِّف الحسن نفسُه بمهمة سياسية ناجحة، إلى قبائل الأطلس الكبير، حيث استغرقت سبعة شهور، وبمهمة مماثلة بعدها إلى أماكن مغربية أخرى. حضر خلالها معركةً بين أهل المغرب والبرتغال، لم تكن هذه المعركة الوحيدة التي يشارك فيها الحسن مجاهداً بنفسه، سنة 914 و921هـ (كتابه: وَصْف إفريقيا1/112، 213 )، ثم أتبعها برحلة رسمية.
حَجُّه ومهماته الدبلوماسية: كانت كل هذه الرحلات الرسمية ناجحة، يزور خلالها ما يمكنه، يتوقف ويُدَوِّن مذكراته، وما لم يمكنه زيارته يسأل من يلقى من أهلها(2/282).
أواخر سنة 921هـ / 1516م قام برحلة إلى الحجاز، مع ركب الحج الذاهب من مدينة فاس، وبعد أداء فريضة الحج توجه إلى الأستانة، سفيراً إلى السلطان العثماني سليم الأول (926هـ = 1520م)، من قِبَل ملك فاس محمد البرتغالي، فلما لم يجده، تابعه في حملته العسكرية الكبرى إلى الشام ومصر، لحقه وحضر معاركه مع المماليك، التي انتهت يوم 21ربيع الأول 923هـ =13/4/1517م. مكث هناك بضعة أشهر، ثم غادر من الإسكندرية بحرياً في النيل، صاعداً إلى السودان، متجولاً هناك، ومنها إلى جَدّة حتى نهاية العام، ثم انطلق متجهاً إلى المغرب، عَبْرَ ليبيا وتونس، مستغرقاً دون السنتين.
أَسْرُه: يتجه الوزان سنة 924 هـ =1518م من تونس بحراً إلى المغرب، لكنه ما أن فارق مدينة تونس حتى تفاجأ سفينتَه مجموعةٌ قراصنة إيطاليين (من البندقية وصقلية). أسروه والذين معه( نحو 12 نفراً)، قرب جزيرة جِرْبَة التونسية. يذكر البعض أنه ربما حدث ذلك في 21/6/1518م. كانت معه أوراقه ومذكراته التي دونها خلال رحلاته، وربما بعض كتبه، مما عَرَّفهم بنوعيته وعلمه وتميزه، فهو إذن خير هدية تُقَدَّم إلى البابا المعروف بحبه للعلم والأدب والفن، وكان من رعاة ذلك. حملوه إلى مدينة نابولي في إيطاليا ثم إلى روما. ربما كان عمره فوق الثلاثين، لتبدأ رحلة حياته الجديدة باتجاه آخر، غير محسوب، رحلة غيرت من حياته محورَها، لكنها لم تنل جوهرَها.
وقفةُ تَفَكّر واستنتاج: لو قُدِّر للحسن أن يعيش في غير هذه الظروف لكان ــ والله تعالى أعلم ــ له شأن أكبر وإنجازات أرفع ومشاركة في البناء الاجتماعي أوسع. عند ذاك ممكن أن يُشَبّه ــ من بعض النواحي ــ بالعلامة الفقيه الأديب ابن حَزْم الأندلسي(456هـ)، أو الرحالة العالم الجغرافي الشهير الشريف الإدريسي(560هـ)، أوالموسوعي ابن الخطيب الغرناطي(776هـ). ولو قدر له أن يقود الجهاد في المغرب لكان مثل الشيخ الأندلسي المجاهد المنظري، أو يقوم بدوره في المغرب عالماً كالشيخ البحرالإمام المازَِري(536هـ)، أو مجاهدا في البحر أمام القرصنة الأوروبية كالقائد المجاهد أمير البحر خير الدين بربروسا = ذو اللحية الحمراء (6 جُمادى الأُولى 953هـ = 1546م).Barbarossa
لو قُدِّر له كذلك أن يبقى في الأندلس لكان من العلماء المجاهدين المقدمين الأفذاذ الذين وقفوا في وجه الظلم الصليبي التفتيشي الفتاك، مثل: الشيخ الإمام المقدام: المَوّاق (شعبان 897هـ = يونيو 1492م)، ليصبح مثله قائداً قدوة ومثال، في رعاية الأُمة في غَرناطة بعد نكبتها، راعياً أميناً يقودها للخير ويأخذ بيدها قائماً بدوره، بأفضل وجه.
روما والضيف الأسير: حل الحسن روما نحو سنة 925هـ = 1519م ، حيث قُدِّم هدية (نحو 1518م) إلى البابا في روما الفاتيكان: ليون العاشر (بابويته: 1513 ــ 1521م) ، المعروف بـ: يوحنا الأسد
Latin: Johannes Leo,Italian: Jiovanni Leonne de Medicis، Eng: John Leon X، Sp. Juan Leon.
فرح به البابا لَمّا عَرَفَ علمه واهتمامه ومعارفه، فاعتنى به غاية العناية، كي ينتفع بذلك، حتى جعل له راتباً كبيراً مغرياً، كيلا يفكر بالرحيل، علماً أن مصير الأسرى الآخرين دائماً إما أن يباعوا رقيقاً أو يخدموا في بيوت السادة، عبيداً مملوكين وتُساء معاملتهم ولا حقوق لهم، ثم إن هذا البابا أقنع أو حمل الحسن على التنصر (غير معروف كيف)، وتم تعميده من قبل البابا نفسه بتاريخ 6/1/1520م (أواسط محرم 926هـ)، في كنيسة سانت بيتر، وكان سنه نحو خمسة وثلاثين عاماً.At the basilica of St. Peter`s
وأعطاه البابا اسمه، فغدا الحسن من يومها يسمى: يوحَنّا الأسد = يوحنا الأسد الإفريقي (الغَرناطي):
Johannes Leo de Medicis = Giovanni Leone
وعرف ــ وما يزال ــ عند الأوروبيين باسم: ليون الإفريقي:
Leo Africanus، Leon el Africano.
لكنه كان يكتب اسمه، كما ورد في بعض مخطوطات، كتبه بخط يده: يُوحَنَّا الأسد (الغَرْناطي) المدعو قَبْلُ الحسن بن محمد الوَزَّان الفاسي.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلوثيقة «الدليل المنير».. وعلاقتها بانتشار الإسلام في الأندلس
نشر في العدد 2122
37
الأربعاء 01-أغسطس-2018
القيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
42
السبت 19-يوليو-2008